صراع السلطة والنفوذ في مملكة ليسوتو

تُعَدّ مملكة ليسوتو -المعروفة أيضًا بـ”المملكة الواقعة في السماء”- واحدةً من الوجهات البيئية المفضلة في إفريقيا؛ فهي دولةٌ غير ساحلية، تحيط بها من جميع الجهات دولة جنوب إفريقيا، وتتميّز بمناظرها الجبلية وشلالاتها المتساقطة التي امتزجت بثقافة قومية الباسوتو التي تسكن المنطقة.

وإذ توهم مساحة أراضي ليسوتو (30.355 كيلو مترًا مربعًا)، وحجم سكانها (أكثر من مليوني نسمة) بأن التطورات السياسية والأوضاع الاقتصادية في المملكة لا تُشكِّل أيّ تأثيرٍ إقليميٍّ في منطقة إفريقيا الجنوبية؛ فإن الأزمات السياسية في البلاد منذ تسعينيات القرن الماضي قد أثبتت خلاف ذلك، وخاصةً بالنظر إلى أنها مُحاطَة بجنوب إفريقيا التي تعتمد على ليسوتو في الحصول على المياه وغيرها، ولذا ستتضرر بشكل مباشر من خروج الأوضاع عن السيطرة في المملكة.

وتعاني ليسوتو منذ عودتها إلى الحكم المدني في عام 1993م من عدم الاستقرار السياسي، حيث تدخّلت جنوب إفريقيا في كل هذه المناسبات تحت مظلّة مجموعة التنمية لإفريقيا الجنوبية (Southern African Development Community = SADC)؛ وذلك لبحث حلول وتثبيت الاستقرار للأوضاع السياسية في الجارة.

وكانت آخر هذه المناسبات صراع السلطة والنفوذ بين رئيس الوزراء “توماس ثاباني” الذي تطارده عدة تُهَمٍ وبين حزبه “اتفاقية جميع الباسوتو” (All Basotho Convention =ABC) وشركاء الائتلاف الحاكم والمعارضة والمنظمات المدنية الذين يطلبون منه ترك السلطة بشكل فوريّ.

تاريخ من الصراعات السياسية والتدخلات الجنوب إفريقية:

في أوائل عام 1994م، تضاءل الأمل الذي رافق التحولات الديمقراطية في ليسوتو؛ حيث اندلع صراعٌ داخل الجيش في البلاد بين فصيلين من قوات الدفاع، وتصاعدت المواجهة إلى تبادل لإطلاق النار في ماسيرو عاصمة البلاد.

وقد ساعد على فرض الاستقرار السياسي بشكل نسبيّ ما قامت به “SADC” من التدخل الدبلوماسي، وذلك بعد اعتراض الرئيس الجنوب إفريقي “فريدريك دي كليرك” (بعد مناقشات مع نيلسون مانديلا) على طلب رئيس وزراء ليسوتو وقتذاك “انتسو موخيلي” لإرسال قوة حفظ سلام من أجل الفصل بين الجانبين المتقاتلين في الجيش.

وفي مايو 1998م، أسفرت الانتخابات البرلمانية في ليسوتو عن فوز حزب “مؤتمر ليسوتو من أجل الديمقراطية” (Lesotho Congress for Democracy) بأغلبية ساحقة بحصوله على 79 مقعدًا من أصل 80 مقعدًا. غير أن ادعاءات تزوير الأصوات، وفشل دعوى قضائية مِن قِبَل أحزاب المعارضة أدّت في أغسطس من العام نفسه إلى احتجاجات واسعة النطاق، ممَّا أجبر ملك ليسوتو “ليتسي الثالث” على الطلب من “نيلسون مانديلا”، رئيس جنوب إفريقيا وقتذاك، أن يساعده في حلّ الوضع.

وإذ حاولت جنوب إفريقيا المساعدة بتشكيل لجنة تابعة لـ “SADC” للنظر في هذه الانتخابات؛ فقد تفاقمت الأزمة بسبب التمرد في جيش ليسوتو، واضطرّ رئيس الوزراء “باكاليثا موسيسيلي” في سبتمبر 1998م إلى مناشدة قادة الهيئة الإقليمية “SADC” بالتدخل العسكري القوي، وهو ما أعاد الاستقرار إلى البلاد؛ رغم أن حوالي 90 شخصًا لقوا مصرعهم في سبيل تحقيق ذلك، وتكبّدت مدن البلاد الرئيسية أضرارًا جسيمة.

على أن الصراع السياسي في ليسوتو أخذ منعطفًا جديدًا منذ عام 2014م، وأصبح محللون يرون أن أسباب الأزمة الراهنة تكمن في رجل ليسوتو القوي؛ رئيس الوزراء الحالي “توماس ثاباني” الذي خدم في حكومة سلفه “باكاليثا موسيسيلي” كعضو في حزب “مؤتمر ليسوتو من أجل الديمقراطية” الحاكم من عام 1998م حتى وقت مغادرته للحزب عام 2006م ليؤسّس حزبه “اتفاقية جميع الباسوتو”؛ لمعارضة حكومة سلفه، وعُيِّن عام 2012م رئيسًا للوزراء بعد أن كوَّن تحالفًا من 12 حزبًا في أعقاب الانتخابات البرلمانية.

وفي أغسطس 2014م، فرَّ “توماس ثاباني” إلى جنوب إفريقيا عقب محاولة انقلاب ضدّ حكومته، وطلب من حكومة رئيس جنوب إفريقيا السابق “جاكوب زوما” إرسال قوات لتحقيق الاستقرار في ليسوتو. وتصاعدت حدة التوتر في البلاد بعد مقتل البريغادير جنرال “مابارنكوي ماهاو” في ظروف غامضة مِن قِبَل أفراد الجيش، وذلك بعد أن عُيِّنَ قائدًا لقوات دفاع ليسوتو (LDF)، بينما رفض “كينيدي تلالي كامولي” الذي كان يشغل المنصب سابقًا إخلاء المنصب.

وإذ أدّت وساطة “SADC” بقيادة جنوب إفريقيا إلى إجراء انتخابات مبكرة في 28 فبراير 2015م، والتي منحت السلطة للمعارضة، وأعاد “موسيسيلي” إلى منصب رئيس الوزراء. فإن التصويت البرلماني بحجب الثقة عن “موسيسيلي” في مارس 2017م قد أدى إلى إجراء الانتخابات في 3 يونيو من العام نفسه ليعود “ثاباني” إلى المنصب مرّة أخرى؛ حيث فاز حزبه “اتفاقية جميع الباسوتو” بـ 48 مقعدًا مقابل 30 مقعدًا لحزب “موسيسيلي”.

حكومة “ثاباني” والأزمة السياسية الراهنة:

في أواخر يناير 2020م، استدعت شرطة ليسوتو رئيس الوزراء “توماس تاباني”، واحتجزت في الشهر التالي “مايسايا ثاباني” –زوجته الحالية وسيدة ليسوتو الأولى-؛ وذلك لاستجوابهما بشأن مقتل زوجته السابقة “ليبوليلو ثاباني” بالرصاص في العاصمة قبل يومين من تنصيب “ثاباني” رئيسًا للوزراء عام 2017م، حيث كان الزوجان (ثاباني و ليبوليلو) وقتذاك في خلاف شديد بشأن إجراءات طلاقهما.

وإذ نفى كلّ من “ثاباني” وزوجته كل التُّهَم الموجهة إليهما بالتورط في مقتل “ليبوليلو”، فقد شكّلت القضية تحديًا قانونيًّا للسلطة القضائية في ليسوتو حول ما إذا كان يمكن توجيه الاتهام إلى رئيس دولة حاليٍّ، وتقديمه للمحاكمة؛ بسبب هذه الجريمة.

على أن قضية مقتل زوجة “ثاباني” السابقة تُعدّ جزءًا فقط من التحديات العديدة وسلسلة عمليات القتل لكبار المسؤولين في السنوات الأخيرة نتيجة فشل “ثاباني” في إبعاد قوات الأمن الوطنية عن السياسة، كما ساهم في تفاقم الوضع السياسي تعليق “ثاباني” للبرلمان لمدة ثلاثة أشهر في 19 مارس الماضي بهدف منع أعضائه من الاجتماع وتمرير تصويتٍ بحجب الثقة عنه؛ مما سيجبره على الاستقالة. وقد قضت المحكمة الدستورية بأن تعليقه للبرلمان غير قانوني، وأنه يجب السماح للبرلمان بالعودة لعمله.

“ثاباني” والمراهنة على الحصانة من الولاية القضائية:

نتيجة لضغوطات الأغلبية الساحقة في البرلمان وحزبه الحاكم؛ أعلن “ثاباني” الذي ستنتهي ولايته الحالية في عام 2022م أنه يخطط للتقاعد في يوليو المقبل (2020م) وفق شروطه الخاصة، وهو ما يرفضها أعضاء حزبه والمعارضة الذين قالوا: إن رئيس الوزراء يراهن على “SADC” في تأمين الحصانة من المقاضاة والمساءلة القانونية، وحذروا من أن الصفقة في حال دعمها من قبل الهيئة الإقليمية ستشكل سابقةً خطيرةً تشجّع السياسيين والمسؤولين على ارتكاب الجرائم بأمان؛ لأنهم مكفولون بالحصانة عند تركهم للسلطة.

وهناك من يرى أن جنوب إفريقيا تقع ضمن مشاكل ليسوتو؛ إذ جعلت تدخلاتها في البلاد السياسيين يركنون إلى حلولها ووساطتها في كل أزماتهم السياسية. كما أن معايير جنوب إفريقيا في المملكة مزدوجة؛ حيث أصدر “جيف راديبي” -المبعوث الخاص لجنوب إفريقيا إلى ليسوتو- بيانًا في أبريل الماضي أشار فيه أنه يجب السماح لـ”ثاباني” أن يغادر منصبه “بكرامة ونعمة وأمن”، وهذا التصريح يعارض ما أوصت به الوساطة الجنوب إفريقية تحت رعاية “SADC” بمحاكمة السياسيين وأعضاء الأجهزة الأمنية (وهم خصوم “ثاباني”) المتهمين بارتكاب جرائم خطيرة وإذكاء عدم الاستقرار من 2014 إلى 2017م.

حكومة جديدة في 22 مايو 2020م:

كان حزب “توماس ثاباني” (حزب “اتفاقية جميع الباسوتو”) يُنظر إليه منذ بداية العام الجاري كعائق، وذلك بعد مزاعم تورّطه هو وزوجته الحالية في قضية اغتيال زوجته السابقة؛ حيث يقول أعضاء الحزب: إنه لا يمكن لمُتَّهمٍ بالقتل أن يكون مسؤولاً عن الحكومة، وهو ما يَصُبّ في صالح فصيلٍ داخل الحزب الذي يصف رئيس الوزراء بالدكتاتورية وينتقده على عدم نقله رئاسة الحزب إلى نائبه البروفيسور “نقوسا ماهاو”، ولرفض “ثاباني” قبول انتخاب غريمه “ماهاو” وآخرين إلى اللجنة التنفيذية الوطنية الخاصة بالحزب في فبراير 2019م.

ويبدو من تطورات الأسبوعين الماضيين أن “ثاباني” لم يستعدَّ بعدُ لتقديم استقالته، بالرغم من أن حزبه قد حسم موقفه منه؛ إذ عُيِّن مؤخرًا وزير المالية “مويكيتسي ماجورو” زعيمًا جديدًا للحزب، وما زال “ثاباني” يُصِرّ على أن تعيين “ماجورو” كزعيم لم يَتَّبع الإجراءات المناسبة واللازمة، وبالتالي كان باطلاً.

وعليه، فإن حزب “اتفاقية جميع الباسوتو” يرى أن القرار الأخير بيد الملك “ليتسي” الثالث الذي يمكنه عزل “ثاباني” إذا لم يستقلْ قبل مهلة 22 مايو المحدد لتشكيل حكومة جديدة؛ حيث تمّ حلّ الائتلاف الحاكم الذي يضمّ الحزب يوم الاثنين الماضي، مما يعني أن “ثاباني” لم يعُدْ يقود الائتلاف ولا حزبه ذا الأغلبية في البرلمان.

ويرى “كريستوفر ويليامز”، الباحث بجامعة “ويتواترساند” أن تحقيق الاستقرار السياسيى الدائم في ليسوتو قد يتطلب أيضًا من جنوب إفريقيا التقليل من تدخلاتها في جميع الحالات والحوادث في مملكة ليسوتو، باستثناء الحالات التي قد تكون لها تداعيات إقليمية؛ إذا خرجت أزمة سياسية عن السيطرة؛ وذلك لأن انخراط جنوب إفريقيا في ليسوتو منذ أكثر من ربع قرن لم تقرّب المملكة من الاستقرار.

- المدير التنفيذي للأفارقة للدراسات والاستشارات.
- باحث نيجيري مهتم بالتحولات السياسية والقضايا الاجتماعية والتنموية والتعليمية.
- حاصل على دكتوراه في الأصول الاجتماعية والقيادة التعليمية من الجامعة الإسلامية بماليزيا.