الفرنك الأفريقي: نموذج التبعية للاستعمار الجديد

شهدت منطقة الفرنك الأفريقي في الآونة الأخيرة موجة حراكٍ جديدٍ من مسؤولين كبار، لرفض السيطرة الأجنبية على جزءٍ كبيرٍ من السياسات الاقتصادية المفروضة على المنطقة، وخاصةً في الجزء المتعلق بالسياسات النقدية، وإن لم يكن هذا الحراك النضالي جديداً، فإن الذي يميزه بسابقاته، هو وجود فئةٍ من الشباب في مقدمة المناضلين، بجانب نخبةٍ من العلماء والمثقفين المختصين في المجال بهدف توعية الشعوب، والضغط على صناع القرار المتربِّعين على كراسي الحكم في هذه الدول للتجاوب مع مطالبهم، وللانضواء في صفٍّ واحدٍ للعمل مع القلة القليلة من الرؤساء الذين تجرؤوا توجيه انتقادات لاذعةٍ تجاه هذه السياسة النقدية،  وأفشوا خلالها الكثير من العيوب التي تعتريها في عدة نواحٍ، وتُؤثر سلباً على المستوى التنموي والاقتصادي لهذه الدول.

وفق هذه النخبة المناضلة من أجل استقلال نقديٍّ، فإن سياسات فرنسا تجاه هذه الدول هي المسؤولة عن التخلف الذي تعاني منه هذه الدول، وهي حجرُعثرةٍ أمام نجاح أيّ برنامجٍ اقتصاديٍّ تنمويٍّ، كما فتح المجال على مصراعيه لفرنسا لنهب ماتبقى من دولهم من المواد الخامة، بالاعتماد على اتفاقياتٍ مشبوهةٍ بعضها معلنةٌ عنها، والبعض الآخر مخفيٌّ تحت أدراج قصر “الإليزيه” يجهل مافي طيّاتها بعض رؤساء الدول أنفسهم، ناهيك عن الشعوب.

 هذه السياسة المُمنهجة والمدروسة بدقَّةٍ من واضعيها، تم فرضها على دول المنطقة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، بعدما تشكَّل على الساحة الدولية النظام الاقتصاديّ الدوليّ الجديد، حيث كان من ملامح هذا النظام، ظهور قضية التنمية الاقتصادية للعالم الثالث، كواحدةٍ من المشاكل الرئيسية في عالم ما بعد الحرب، حيث انقسم العالم إلى شمالٍ متقدّمٍ وجنوبٍ متخلِّفٍ، فانتهزت فرنسا هذه الدعوى الزائفة لتفرض على مستعمريها في إفريقيا سياسةً نقديةً جديدةً لم تراع فيها واقع الدول، واستمرت هذه السياسة مطبَّقةً عليهم حتى بعد نيلهم الاستقلال السياسي، حيث كان عدم إثارة مسألة السياسة النقدية، وعدم طرحها أو إثارتها من جديد واحداً من المحظورات الخمسة التي حدّدها الجنرال “شارل ديغول” للدول المستقلة، فبقىت هذه المسألة معمولةً وفق هوى المسؤولين في فرنسا، وهي نفس السياسية الاقتصادية التي طبّقها الزعيم النازي “أدولف هتلر” على فرنسا أثناء الاحتلال النازي.[1]

تتكون سياسات الاقتصاد الكليّ من نوعين من السياسات، تتكاملان فيما بينهما لتشكيل الاستراتيجية الاقتصادية للحكومات والدول، وهما السياسات المالية والسياسات النقدية وتعني الأخيرة – وهي التي تهمنا في هذا المقام-  مجموعة الأدوات النقدية التي يستخدمها البنك المركزي للتأثير على النشاط االاقتصادي عن طريق تغيير عرض النقود، وتُركِّز على سلوك الأسعار، والمجاميع النقدية ومعدّلات الفائدة الإجمالية والحقيقية للتعامل مع المتغيّرات الاقتصادية، [2] وتتعدد أدوات وآليات السياسة النقدية ضيقاً وسعةً حسب النتيجة التي تريد الدولة تحقيقها، و تكمن أهمية السياسة النقدية على الصعيد المحلي في أنه لا تستطيع أي دولة تحقيق النمو والاستقرار الاقتصادي ما لم تضم في أنظمتها نظاماً نقدياً قادراً على توفير السيولة اللازمة للاقتصاد، والقيام بالمراقبة والتحكُّم على مختلف المؤشرات التي تعكس الأداء الاقتصادي، وعلى الصعيد الدولي فلا يُتوقع وجود تجارةٍ مزدهرةٍ ولا علاقاتٍ تجاريةٍ متطوّرةٍ لأي دولةٍ ما لم تكن قادرةً على التنافس التجاري، ضامنةً قدرة نقدها على التكيّف مع المتغيرات الدولية.[3]

  ولايُتصور نجاح أي دولةٍ في الوصول إلى هذه الأهداف مالم تضمن لنفسها الاستقلالية الكاملة لسياساتها النقدية، الأمرالذي لم يتحقق حتى الآن لدول المنطقة الفرنسية، فظلت تعاني من نتائج التبعية الاقتصادية، وتجدر الإشارة إلى أن زعيم الحرية “نلسون مانديلا” أدرك حساسية هذه النقطة وعدم قابليتها للمساومة فكان الاستقلال النقدي من الشروط التي فرضها على خصومه قبل منحه الحرية.

المسار التاريخي لمنطقة الفرنك الإفريقي

مع نهاية الحرب العالمية الثانية برزت على السطح قضية الانقسام بين الدول المتقدمة والدول النامية وذلك بسبب تداعيات العلاقات الدولية عند نهاية الحرب، وكان معظم المناطق المتخلفة قد خضعت للاستعمار منذ القرن التاسع عشر أو قبله، فبرزت في الاقتصاد العالمي تبعيةٌ كاملةٌ أو شبه كاملةٍ [4] وأصبحت هذه الدول  جزءاً من لعبة التوازن الدولي، فتأثرت السياسات الاقتصادية للدول النامية بسياسيات مستعمريها، وبما أن ظروف الحرب أنهكت فرنسا اقتصادياً، جعلت فرنسا مستعمراتها هدفاً للنهوض من جديد، وفق خطةٍ طويلة المدى، وذلك إما باستعمارها المباشر لها، أومن خلال توقيع اتفاقياتٍ اقتصاديةٍ ونقديةٍ، تنزع منها السيادة في مباشرة السياسات الاقتصادية الخاصة بها، ولو بعد الاستقلال.

ففي سبتمير عام 1939 في إطارٍ متَّصلٍ بإعلان الحرب ضد ألمانيا، أصدرت فرنسا مرسوماً ينشئ نظام صرفٍ مشتركٍ لجميع الامبراطورية الفرنسية، فكان المرسوم إعلانا لنشأة “منطقة فرنك” وتميزت بحرية الصرف، وفي ديسمبر 1945 تم إنشاء نقدٍ خاصٍّ باسم “مستعمرات فرنسا الإفريقية”«colonies françaises d’Afrique – C.F.A» وحُدِّدت قيمتها بـ 1.7 فرنك فرنسي، ووصلت القيمة فيما بعد تحديداً عام 1949 إلى 2 فرنك فرنسي [5] مايعني أنه تم ربط العملة بالفرنك الفرنسي مباشرةً، وظل الوضع هكذا إلى أن نالت هذه الدول استقلالها السياسي، وتم توقيع اتفاقيات التعاون الاقتصادي، عُدِّل بموجبها في اسم وشكل العملة بينما بقي المسمى والمضمون قائماً.

عشية الاستقلال السياسي، أخذت منطقة الفرنك الأفريقي شكلاً جديداً؛ وذلك بموجب اتفاقيات تعاونٍ جمعت مختلف الدول الإفريقية بفرنسا، ففيما يخصّ دول الغرب الأفريقي الفرنسي، تم التوقيع على اتفاقية “الاتحاد النقدي لدول غرب أفريقيا” “U.M.O.A” وجمع الاتحاد سبع دول هي (السنغال، داهومي – بنين حاليا-، فولتا العليا –بوركنا فاسو حاليا-، نيجر، ساحل العاج، توغو، موريتانيا) واختصّ البنك المركزي لدول غرب أفريقيا “B.C.E.A.O” بالإدارة النقدية لهذه الدول، لم تصادق دولة مالي على هذه الاتفاقية، وبقيت مستقلةً بعملتها الخاصة “الفرنك المالي”، حتى 1984 حيث انضمت بشكلٍ نهائيٍّ مجدداً في منطقة الفرنك الأفريقي[6] في حين أن غينيا كوناكري أحد المستعمرات الفرنسية في الغرب الأفريقي، أسَّست بنكها المركزي وعملتها الخاصة منذ 1960، [7] وانسحبت موريتانيا ومدغسقر من المنطقة سنة 1973، وانضمت إليها مُؤخراً غينيا بيساوو، وغينيا الاستوائية في عام 1985.[8]

في مقابل ذلك اجتمع خمس دولٍ من دول الوسط الأفريقي هي (كاميرون، وجمهورية أفريقيا الوسطى، وكونغو، وغابون، وتشاد) في اتحاده النقدي، ووُكِّل البنك المركزي لدول أفريقيا الاستوائية والكاميرون “B.C.E.A.E.C” بالإدارة النقدية للاتحاد، تحوَّل فيما بعد إلى البنك المركزي لدول وسط أفريقيا “B.E.A.C“، لقد خضت هذه المؤسسات النقدية لجملةٍ من الإصلاحات منذ إنشائها بعد الاستقلال مباشرةً، إلى أن استقرت على حالها، فاليوم تطلق المنطقة الفرنسية ويُقصد بها مجموع 15 دولةٍ أفريقيةٍ، ثمانيةٌ منها في الغرب الأفريقي، وستَّةٌ منها في الوسط الأفريقي، بالإضافة إلي دولة جزر القمر في الشرق الأفريقي، وهي اليوم تجمع 155 مليون نسمة، ومع ذلك مُورست عليها سياسة التبعية الاقتصادية لأكثر 70 سنة، تُطبع لها عملتها من قرية  “شماليير” “ Chamalières” في فرنسا وتصدَّر إليها، ويضمن سيولة العملة البنك المركزي الفرنسي، مقابل ضريبةٍ تُقدَّر بمليارات تدفعها حكومات هذه الدول، من جيوب شعوبهم الفقيرة.

دول الفرنك الإفريقي في استرهانٍ عبوديٍّ لفرنسا

مسألة ضرب النقود أو بالأحرى الاستقلالية النقدية مسألةٌ دستوريةٌ، مايعني أنها أمرٌ سياديٌّ في كل المقاييس؛ ولذا نجد دساتير بعض الدول تعالج هذه المسألة بنفسها، واتخاذ بعض القرارات فيها يقتضي عرضها في استفتاءٍ شعبيٍّ،  كما فعلته فرنسا بالذات عام 1992 حين عرضت قضية الدخول في اتفاقية “مانستريت” ” Maastricht” في استفتاء شعبيٍّ، وهي الاتفاقية التي سمحتها بالدخول في منطقة “يورو”، هذا كله للدلالة على حساسية هذه المسألة، وكونها مسألةً سياديةً؛ وأنها لاتقل أهمية عن الاستقلال السياسي، بل القرار السياسي المستقلّ متوقِّفٌ على الاستقلال الاقتصادي، وهذا الحق الطبيعي حُرمت شعوب هذه المنطقة من ممارستها إلى اليوم، فنشأت هذا النقد بمرسومٍ رئاسيٍّ تحت الرقم 45 – 0136 وبتوقيع من الرئيس الجنرال “شارل ديغول”، ووزير المالية الفرنسية  “ريني بليفن” ووزير المستعمرات الفرنسية آنذاك “جاك سُوستِيل” ومازال أهم القرارت التي تخص العملة متداولةً في قصر “الإليزيه” ثمَّ تُمرَّر في اجتماعاتٍ صوريةٍ يحضرها الرؤساء، في مؤسساتٍ مشلولةٍ، مهمَّتُها تبرير العبودية المفضوحة، التي تمارسها فرنسا على هذه الدول.

يتولى ثلاث بنوك الإدارة النقدية لمنطقة الفرنك الإفريقي، هو البنك المركزي لدول غرب أفريقيا،”B.C.E.A.O” والبنك المركزي لدول وسط أفريقيا”B.E.A.C“، والبنك المركزي لجزر القمر “B.C.C”، وهذا من حيث الشكل يوحي إلى استقلاليةٍ تامةٍ لدول المنطقة في وضع السياسات النقدية الملائمة لوضعها الاقتصادي، إلا أنه في الحقيقة أشبه مايكون الأمر عمليةً لذر الرماد على العيون، لأن الواقع هو أن الاتفاقيات التأسيسية للاتحادات النقدية، والأنظمة الأساسية لهذه البنوك، تم ربطها مع فرنسا بشكلٍ معمَّدٍ ومدروسٍ باتفافاتٍ تعاونيةٍ ملزمة لها، وذلك لتكبيلها والتضييق عليها، وتقييد صلاحياتها بشكلٍ يسلب منها كل أنواع الفعالية، بل تم الوضع في الاعتبار كيفية تحقيق المصالح الفرنسية على المدى البعيد.

نأخذ على سبيل المثال الاتحاد الاقتصادي والنقدي لدول غرب أفريقيا التي تأسست في عام 1994، والذي يعمل وفق الميثاق المعدل لسنة 2003، والميثاق الأساسي المعدل لسنة 2007، أفرز هذان الميثاقان النظام الأساسي للبنك المركزي لدول غرب أفريقيا، وكان تُفترض له الاستقلالية الكاملة نتيجةً لسيادة الدول الموقعة عليها، ولكن نجد أن الاتفاقية الموقعة بين فرنسا والدول الأعضاء لهذا الاتحاد الموسومة بـ “الاتفاقية بين الجمهورية الفرنسية والجمهوريات الأعضاء للاتحاد النقدي لغرب أفريقيا” لسنة 1973، فرضت التدخل المباشر لفرنسا في إدارة هذا البنك، فنصَّت المادة العاشرة على مايلي “تعين الحكومة الفرنسية إداريَيْن(فرنسييْن) يشاركان في المجلس الإداري، للبنك المركزي لدول غرب أفريقيا، ويكون لهم نفس الوضعية ونفس الصلاحيات التي تكون للإداريين المعينين من قبل أعضاء الاتحاد”، وعلى هذا الأساس، ووفق المادة 81 من النظام الأساسي للبنك، فهذان العضوان الفرنسيان من بين ستة عشر عضواً للمجلس،  لهما حق التصويت واتخاذ القرار؛ بل لهما حق النقض في داخل المجلس، ومن البديهي أن أي سياسة تعارض سياسة فرنسا الاقتصادي لايصدِّق عليه المجلس الإداري للبنك.

وهكذا أيضا نجد الاجراء نفسه في المجلس الإداري للبنك المركزي لدول وسط أفريقيا الذي يضم حاليا ثلاثة إداريين فرنسيين، من مجمل أعضائه الثلاثة عشر، وفي البنك المركزي القمري الذي يضم في مجلسه الإداري أربعة فرنسيين، من مجمل أعضائه الثمانية[9] الأمر الذي لايضع مجالاً للشك في أن هذه المؤسسات النقدية تخدم فرنسا أكثر مما تخدم حكومات هذه دول المنطقة، بل حتى بعض المسائل ليست للمجالس الوزراية فيها -أحد المؤسسات الأساسية للاتحادين- إلى تلقي البلاغ فقط من الجمهورية الفرنسية صاحب القرار فيه، كما هو الشأن في الاتحاد النقدي لغرب أفريقيا؛ حيث نصت المادة الخامسة في الفقرة الثانية من اتفاقية التعاون الاقتصادي بين فرنسا والدول الأعضاء مايلي: ” تُبلغ الجمهورية  الفرنسية المجلس الوزاري تطورات الفرنك الأفريقي في الأسواق وكل المسائل النقدية التي لها صلة بالمصلحة الخاصة للاتحاد”، ولذلك كان قرار تخفيض قيمة عملة الفرنك الأفريقي لسنة 1994 قراراً فرنسياًّ أحاديَ الجانب مفروضاَ على الرؤساء، وكانت المصادقة عليها مجرَّد تنفيذٍ لرغبة فرنسا.

تداعيات الفرنك الأفريقي على اقتصاديات دول المنطقة:

لم يكن التدخل العلني في المجالس الإدارية للبنوك، والذي أخل بسيادة الدول بشكلٍ مباشرٍ، هوالعيب الوحيد في الاتفاقيات التي فُرضت على الحكومات المتعاقبة لدول المنطقة، بل كان من ضمن هذه السياسات الاستغلالية، إدراج أربعة مبادئ على نصوص الاتفاقيات المبرمة بين الطرفين، تلتزم بها دول المنطقة في تعاملها مع فرنسا، وهذه المبادئ هي:

  • – مركزية الحسابات أو (حساب التشغيل).
  • – التعادل الثابت بين الفرنك واليورو أي (ثبات سعر الصرف).
  • – حرية تحويل الفرنك الأفريقي إلى اليورو.
  • – حرية تحويل رؤوس الأموال إلى فرنسا.

هذه المبادئ أحدث فجوةً كبيرةً بين القوة الاقتصادية الحقيقية لدول المنطقة، والواقع الذي تم فرضه عليهم، هذا الاختلال الدرجي وفّر لفرنسا خدماتٍ اقتصاديةٍ تصبُّ في صالحها، في حين أنهك الاقتصاد الوطني لدول المنطقة، وفي كل مبدأ من هذه المبادئ هدف خاصٌ وُضع بعناية، لخدمة فرنسا، فمن مقتضيات المبدأ الأول وهو، مركزية الحسابات (حساب التشغيل) تسليم احتياطاتٍ نقديةٍ إلى خزينة فرنسا كضمانِ للعملة، وعملت فرنسا بهذ المبدأ قبل الاستقلال وبعده بنسبٍ متفاوتةٍ، فمن عام  1945 إلى 1973 كانت دول منطقة الفرنك الأفريقي تضع 100% من أصولها الأجنبية إلى خزينة فرنسا، ومن عام 1973 إلى 2005 تم تخفيض النسبة إلى 65%، ومن 2005 إلى يومنا هذا تقوم دول المنطقة بإيداع 50% من أصولها الأجنبية إلى الخزينة الفرنسية [10] ومن خلال هذا المبدأ تقوم فرنسا بتوفير المواد الخامة دون دفع ثمن نقديٍّ مباشرٍ لدول المنطقة، ويعين هذا الإجراء فرنسا في سدِّ عجزها الميزاني، أو إحداث توازنٍ في ميزان مدفوعاتها التجاري، أوسدِّ ديونها الخارجية، وبما أن هذه الدول تعطي أصولها الأجنبية لفرنسا فلا تستطيع الاستيراد من الدول الأخرى، وبالتالي تسبب لنفسها الكساد في ميزان مدفوعاتها، ومن جانب آخر تقوم فرنسا بإيداع هذه المبالغ الطائلة التي تسلمتها من الدول في البنوك، ويجلب لها هذه الإيداعات أرباحاً تُنعش بها اقتصادها، وتوزع جزءاً من هذا الأرباح على هذه الدول في شكل مساعداتٍ أو ديونٍ وهو في الأصل من رؤوس أموال دول المنطقة.[11]

أماالمبدأ الثاني وهو التعادل الثابت بين الفرنك واليورو أي (ثبات سعر الصرف) يعني بقاء سعر الصرف مربوطاً بيورو وثابتاً، وفي ذلك محاولة إقناع حكومات المنطقة بأن قوة العملة تصب في مصلحتها، الأمر الذي يتنافى مع الحقيقة، فوفق هذا المبدأ يبقى سعر صرف الفرنك الأفريقي مقابل اليورو ثابتا لايتغير تم تثبيته في 655,957 ما يعني أن دول المنطقة لاتستطيع التصرف في هذه النسبة لإحداث التوازنات المطلوبة والضرورية لاقتصادها، معتمداً على قانون العرض والطلب في السوق المحلي، أوعلى معطيات التقلُّبات في السعر والتي تحدث في السوق الدولي، ومن سلبيات هذا المبدأ فقدان أقوى سلاحٍ يمكن الاستناد إليه في السياسات الاقتصادية والنقدية، وهو القدرة على التحكم على سعر الصرف، كما نتجت من المبدأ ، خللٌ كبير في الميزان التجاري لدول المنطقة، فدول الاتحاد النقدي لدول غرب أفريقيا مثلاً – باستثناء ساحل العاج- كلُّها يخسر كل سنةٍ في ميزانها التجاري، أدى ذلك تلقائيا إلى عدم القدرة على تمويل الاقتصاديات الوطنية إلا بنسة 23% فقط، بينما بعض الدول الأفريقية مثل جنوب فريقيا وصلت نسبتها التمويلي إلى 155 مايعني أن اقتصاد دول المنطقة اقتصاد مقايضة فقط وذلك للضعف التمويلي[12] ولأنها أيضا لم تستطع الدخول في التنافس التجاري وحماية منتجاتها المحلية.

ويقضي المبدأ الثالث وهو حرية تحويل الفرنك الأفريقي إلى اليورو على أن الفرنك الأفريقي غير قابلة للتحويل إلا على يورو فقط وبدون تحديد الكمية التي يمكن تحويلها دورياًّ، وحتى بين دول المنطقة لايمكن صرف الفرنك الأفريقي، فعملة منطقة الغرب غير قابلة للتحويل في دول منطقة الشرق والعكس كذلك غير ممكن، والعامل السلبي في هذا هو إعاقة حرية التجارة بين هذه الدول؛ ولذلك فمستوى التبادل التجاري بينها لا يتخطى 15% في حين أن الدول الأروبية وصلوا إلى 60%  بينما المبدأ الرابع وهو حرية تحويل رؤوس الأموال إلى فرنسا، والذييُمكِّن للمستثمر الأجنبي وحتى الوطني  بنقل رؤس الأمول من المنطقة إلى فرنسا دون قيد تشريعيّ، أدى إلى انتفاء الادخار العام [13] وهذا هذا ما جعل البنك المركزي لدول غرب أفريقيا يلغي من نظامه الأساسي بند الدعم في الميزانية المخصَّص للدول الأعضاء إذا تعرضوا للعجز الميزاني[14] مع أنه كان موجودا حتى عام 2002.[15]

يظهر جلياًّ مما سبق أن التخلف الاقتصادي وفشل البرامج التنموية الذي تعاني منه دول منطقة الفرنك الأفريقي الجزء الكبير منه يرجع إلى طريقة إدارة هذا النقد، فكلُّ دول المنطقة غير “غابون” في قائمة “الدول الأقل نموا”  وفي قائمة “الدول الفقيرة والمثقلة بالديون” حسب تصنيفات برنامج الأمم المتحدة للتنمية [16] وفي آخر بيانات الصندوق النقد الدولي للخمسِ وعشرين الدُّول الأكثر فقراً في العالم حسب الناتج المحلي، تتضمن ستُّ دول من دول المنطقة،[17] كما أن أربع أفقر دولة في العالم حسب مؤشر التنمية البشرية للأمم المتحدة  باستثناء إريتيريا تنتمي إلى منطقة الفرنك الأفريقي.[18]

مسارات النضال ضد الفرنك الأفريقي

اتّسم الحراك النضالي ضد الفرنك الأفريقي بملامح مختلفةٍ، واستمر في شكل مدٍّ وجزرٍ استطاعت فيه فرنسا استعمال سياسة العصا والجزرة مع القادة الأفارقة، ونجحت فيها بجدارةٍ، ففي حين جعلت فرنسا إثارة الموضوع خطاًّ أحمر، ظهر ثلاث اتجاهاتٍ في الطبقة السياسية الإفريقية، اتجاهٌ راضٍ بالواقع أعطى فرنسا ولاء كاملاً وهذا الاتجاه يتزعمه الرئيس العاجي “فيليكس أوفيت بواني” والرئيس السنغالي “لوو بول سدار سنغور” واتجاهٌ ثانٍ حاول تطبيق سياسة شعرة معاوية مع فرنسا، واكتفى بالمطالبة بإصلاحاتٍ داخليةٍ دون الانقطاع الكامل مع خزانة فرنسا، ومن فضل هذا الاتجاه تم خفض نسبة الاحتياطات من 100% إلى 65%، عام 1973 ويتزعم هذا الاتجاه رئيس دولة بنين  “نياسيكبي أياديما” في حين أن الاتجاه الثالث جاوز هذه الخطوط الحمراء داعياً إلى استقلالٍ نقدي كاملٍ، ويتزعم هذا الاتجاه الرئيس البوركينابي الثوري “توماس سنكارا” و رئيس دولة مالي “موديبو كيتا”، وفي حين أن الشعوب دفعت ثمن الاتجاهين الأوليين، وكسب زعماؤها جزرة فرنسا، كان دافعوا ثمن الاتجاه الأخير قادتُه أنفسهم، حيث لم يتأخر العصا الفرنسي بتصفيتهم بلا هوادة.

انعكس أثر هذه الاتجاهات في ملامح النضال الحالي، دون فرقٍ كبيرٍ في طبيعته، ففي منطقة الغرب الأفريقي بقي موقف ساحل العاج أكبر دافعٍ للاحتياطات لفرنسا منسجماً مع الموقف السنغالي ثاني أكبر اقتصاد هذه المنطقة، وفي تصريحات علنيةٍ دافع فيها كلاًّ من الرئيس العاجي الحالي[19] “الحسن وترا” والرئيس السنغالي الحالي[20] “ماكي صال” عن هذا النقد، وأنه جديرةٌ لتنمية دولهم ويجب الحفاظ عليه، بينما كان خروج[21] الرئيس التشادي “إدريس ديبي” بمثابة استلهامٍ مباشرٍ لتيار “توماس سانكرا” و”موديبو كيتا”، وترجمةٍ فعليةٍ لمشاعر عديد من الرافضين لهذه التبعية الاقتصادية، حيث صرح علناً على أن هذه العملة، هي المسؤولية عن التخلف الذي تشهده دولهم، وأنه آن الأوان للاستقلال النقدي، وانضاف في هذا الاتجاه العالي المستوى إلى جهود عديدٍ من الخبراء الاقتصاديين الأفريقانيين، الذين فنَّدوا بطرقٍ علميةٍ جدوى هذه السياسة النقدية، ووصفوها بالعبودية المقنَّنة، وقترحوا خطواتٍ عمليةٍ للخروج من هذا المأزق، كما كان للناشطين الشباب حضورا قويا لتوعية الرأي العام الوطني والإقليمي، حيال المخلفات السلبية التي تسببها هذه السياسة في مستقبل دولهم، كان أبرزهم الناشط والكاتب “كمي سيبا” والذي نجح من خلال المنظمة غير الحكومة التي يرأسها “Urgences Panafricanistes” عقدَ سلسلة لقاءاتٍ وفعالياتٍ جماهيرية بالتنسيق مع منظمات أخرى معنية، في عدة عواصم أفريقية وأروبية لتعبئة الرأي العام عند الشعوب الأفارقة المقيمين في دولهم والمغتربين في المهجر.

الفرنك الإفريقي ورحلة البحث عن البديل  

أغلب الدول التي تنضوي تحت مظلة الفرنك الأفريقي، نالت على الاستقلال مؤخراً مع العديد من الدول التي كانت تحت المستعمر الفرنسي نفسه، وبعضها كانت تحت المستعمر الانكليزي، إلا أن المستعمر الأخير وضع لمستعمراتها خيار الارتباط بالخزانة الانكليزية أو الاستقلال، فاختارت هذه الدول الاستقلال الاقتصادي، وعند المقارنة نجد أن هذه الدول من نيجيريا إلى كينيا تملك نقداً مستقلاً، وتتقدم على هذه الدول في كل المقاييس، أضف إلى ذلك أن بعض المستعمرات الفرنسية ذاتها والتي تحدَّى فرنسا وتجاوزت الخطوط الحمراء الفرنسية فاستقلت اقتصاديا، نجحت في إدارة عملتها بنجاحٍ، وعندنا المثل التونسي والمغربي والجزائري والغيني، واليوم فالواقع يفرض على دول المنطقة، إيجادَ رؤيةٍ واضحةٍ للخروج من عنق الزجاج، وليس بالضرورة أن يكون خروجاً مأساوياً، بل وفق خطة مدروسةٍ أطلق عليه الخبير الاقتصادي والوزير “البيني” السابق “كوكو نوبكبو” بــ” الخروج من الأعلى”.

 لكي يكون الخروج من هذه المنطقة خروجاً علوياًّ، اقترح الخبراء أن تتحد دول المنطقة في ضرب نقدٍ أفريقيٍّ مستقلٍّ يجمع دول المنطقة، وهو عمليةٌ متصورةٌ وممكنةٌ لأن جميع هذه الدول باستثناء جزر القمر يتموقع في منطقةٍ جغرافيةٍ واحدةٍ، وهذا أكبر قاسمٍ مشتركٍ لهذه الدول لإنجاح المشروع، ولتحقيق دعائم الاقتصاد القوي المتمثلة، في عدة أمور، تبدأ بإنشاء بنك موحَّدٍ لدول المنطقة، وتليها تقويةُ الصناعات التحويلية، باستخدام مواردها الخامة، بدل تصديرها إلى الخارج بتكلفةٍ رخيصةٍ، ثم استيرادها من جديدٍ بتكلفةٍ أعلى، بعد ذلك وبشكلٍ تلقائيٍّ سيحصل التنافس التجاري القوي بينهم، من خلال حماية منتجاتهم باستخدام سلاح التحكم على سعر الصرف وفرض الضرائب، فإذا نجحت جنوب أفريقيا وأنغولا ونيجيريا في تصدر قائمة الدول الأفريقية من حيث حجم التبادل التجاري مع فرنسا فلأنهم يمتلكون هذه الأسلحة فقط لاغير، والمليارات التي تُضخُّ في الخزينة الفرنسية، يمكن استخدامه في التمويل الاقتصادي ودعم ميزانيات الدول.

يكفي أن يكون المرء مواطناً عادياً يعيش في هذه الدول ليعرف حجم الكساد الاقتصادي الذي تغرق فيه دول منطقة الفرنك الأفريقي، فأفقر دولةٍ في العالم حسب مؤشر التنمية البشرية للأمم المتحدة توجد في هذه المنطقة، وهذه الدولة بذاتها تملك 8% من احتياطات اليورانيوم في العالم [22]  في المرتبة الرابعة بعد روسيا مباشرةً،  وهي التي تُزود فرنسا بـ 35% من احتياجاتها من الطاقة النووية عبر شركة “أريفا” [23] ولعلّ هذا الغيض من الفيض هو ما أثار حفيظة  “جاك شيراك” – الرئيس الفرنسي من 1995 إلى 2007 – فطفق يقول: “جزءٌ كبيرٌ من المال الذي في خزانتنا يأتي من استغلالنا لأفريقيا لمدة قرونٍ، لا أقول تكرُّماً لكن يلزمنا القليل من الحكمة والعدالة لنرجع للأفريقيين ماأخذناه منهم، وهذا ضروريٌّ إذا أردنا تلافي التشنُّجات والصعوبات مع ما قد يصاحبها من تداعياتٍ سياسةٍ في القريب العاجل” [24] كما تبنت هذا التوجه ” مارين لوبين” فلم تمنعها زعامتها لأشد حزب تطرفا في فرنسا-الجبهة الوطنية- من أن تقول: ” أن صورة الفرنك الأفريقي كارثةٌ على الاقتصاد الأفريقي وعلينا أيضا، و وهي واحدة من السلبيات الأساسية التي عملت على خنق الاقتصاد الأفريقي إلى الأسوأ، ونحن هنا بصدد قتل الاقتصاد الافريقي، وكما أدافع عن استقلالية اقتصادية لوطني أيضا أدافعها لكل الدول، فلكل الدول الحق في امتلاك نقد مستقلّ وهو عنصر من عناصر السيادة ” [25]

هذا القليل من الحكمة إذا كانت لازمةً على فرنسا، فألزم  مايكون على القادة الأفارقة، ولكن المؤسف هو أن نسبة الإداريين من رؤساء المنطقة الفرنسية غلبت على نسبة القادة أصحاب الرؤى، فغابت الرؤية في طريقة قيادة الدول وحلَّت مكانها التبعية والاتكاء على الآخرين، وأما قادة فرنسا وإن كانوا مدانين أمام الضمير الإنساني، فهم في منطق العقل غير مدانين لأنهم يعملون في تحقيق مصالح شعوبهم، وإنما الشجب والإنكار يُوجه على الرئيس الذي لم يُوظَّف طاقته في تحقيق مصالح أمّته، فالنقد ليس مسألة تقنية فحسب بل هو وسيلة سياسية متصلة مع سيادة الشعوب.       


[1] Ramona KALIN, Cornelia GRAF, Julia Blum, Isabelle ASCWANDEN, Paris sous l’Occupation allemande, Semaine d’étude à Paris, HEP Lucerne, p. 2

[2] Carl E. WALSH, Monetary Theory and Policy, third edition, Massachusetts Institute of Technology, 2010, p.1

[3] Ales DELACORDA, the role of monetary policy in pursuing economic activity in selected transition countries, research support scheme, p. 2

[4]  حازم الببلاوي، النظام الاقتصادي الدولي المعاصر، من نهاية الحرب العالمية الثانية إلى نهاية الحرب الباردة، ص 29

[5] Les principes de la coopération monétaire en Zone franc, Réunion des ministres des Finances de la Zone franc – Paris, 3 avril 2008, p.2

[6] Le Franc CFA et l’interrelation Economique en Afrique Centrale, Commission Economique pour L’Afrıque, Nation unis, p. 13

[7] Claude Kory KONDIANO et Facinet SYLLA,, L’Histoire de la monaei et de la bank central Guineennes, p. 11

[8] Patrick GUİLLAUMONT et Sylviane GUİLLAUMONT Jeanneney, Les accords de coopération monétaire de la Zone franc : atouts et contraintes, fondation pour les études et recherches sur le développement international, 2013, p. 2

[9] Nicolas AGBOHOU, LE FRANC CFA ET LE DEVELOPPEMENT DE L’AFRIQUE, p. 10

[10]  AGBOHOU, p. 22

[11] Nicolas AGBOHOU (GRANDE CONFERENCE SUR LE FRANC CFA A MARSEILLE) Oct 31, 2014

[12] La Fondation Jean-Jaurès  sur un débat public Kako Nubukpo Jan 6, 2017

[13] Nicolas AGBOHOU PAYS AFRICAINS: Pouvons-nous devenir émergent avec la monnaie imposée par la France? Reçoit par Thierry NGOGANG 17/07/2014

[14] Statut de la banque centrale des etats de L’Afrique de L’ouest art 36

[15] La Fondation Jean-JAURES  sur un débat public Kako Nubukpo Jan 6, 2017

[16] Demba Moussa DEMBELE : La Zone Franc : Perpétuation du pacte colonial, http://www.cadtm.org/ 17 avril 2013

[17] Data collected from International Monetary Fund, World Economic Outlook Database, October 2016, by global finance magazine  February 13, 2017

[18] Rapport sur le développement humain en Afrique 2016

[19] Côte d’Ivoire Franc CFA – Ouattara, avocat de la monnaie coloniale contre Idriss Déby Itno, http://www.connectionivoirienne.net,  jeudi 14 Avr 2016

[20] Macky Sall : «Le franc CFA est une bonne monnaie à garder», http://www.seneweb.com, Le 21 décembre, 2016

[21] Le Président tchadien Idriss Déby L’Afrique ne peut pas évoluer avec la monnaie Francs CFA. conférence de presse à Abéché, Tchad où était célébré le 55ème anniversaire de l’Indépendance Aug 12, 2015

[22] Réserves d’uranium naturel dans le monde, http://www.connaissancedesenergies.org.

[23]  سيد أحمد ولد شيخنا، النيجر ثروات في مهب الصرعات الدولية http://www.aljazeera.net

[24] Déclaration Chirac en mai 2008, http://www.dailymotion.com/video/xb98ui_chirac-declare-en-mai-2008-que-la-f_news#tab_embed

[25] Marine Lepen: Le Franc CFA est un Drame pour l’économie Africaine, publier en 28 Nov 2016

باحث سنغالي وأستاذ القانون بجامعة اسطنبول جليشيم - تركيا.