مالي تصارع ضد تفكك الدولة الوطنية

ما كادت أطراف النزاع الدائر في شمال مالي بين الطوارق وحكومة باماكو تسترجع أنفاسها من جولات المفاوضات التي استمرت أشهرا عدة بالجزائر، حتـى أستيقظ مارد الجهاديون اللذين فضلوا اللحظة المناسبة لبعثرة أوراق المتنازعين والإجهاز على  أماني السلام في الإقليم الذي يشهد اضطرابات عنيفة منذ عام 2012.

نفـذت حركة التوحيد والجهاد في غرب إفريقيا (MUJAO) عمليتها الجديدة بين غاو- وانسونغو (حوالى 100 كلم إلى جنوب شرق غاو) ضد بعثة طبية تابعة للصليب الأحمر الدولي مما أسفر عن مصرع السائق وصرح أبو وليد صحراوي المتحدث باسم حركة التوحيد والجهاد في غرب إفريقيا “لقد قتلنا بعون الله قرب غاو، في الأراضي الإسلامية، سائقا كان يعمل لحساب العدو”، فيما اعتبر مصدر عسكري من بعثة مهمة الأمم المتحدة في مالي ان الهجوم “اعد له بشكل جيد”.

وفي سياق متصل، أحبط الجيش المـالي أمس الأربعاء هجوما على قاعدة للجيش في بلدة بولكسي مما أدى إلى مقتل ثلاث مهاجمين خلال تبادل لإطلاق النار، وفي تصريحات نقلتها وكالة “رويترز” قال سليمان جمبل المتحدث العسكري بإسم الجيش “صدهم جنودنا فقتلوا ثلاثة واعتقلوا اثنين.”، دون أن يحدد الجماعة التي ينتمي إليها المهاجمون.

إعلان الجزائر لا يحد من جموح الرجال الزرق

يدور في مـالي صراع مسلح منذ العام 2012 بيـن القوات الحكومية ومقاتلين ينتمون لجماعات انفصالية مختلفة بالإضافة إلى جهادييـن متشـددين، وزاد من حدة هذا الصراع سقوط نظام القذافي الذي كان حليفا قويا للرجال الزرق (الطوارق) .. وفي خضم الصِّـراع المُـحتدِم في ليبيا عاد أمراء الحرب السابقون إلى مواطنهم الأصلية في شمال مالي بعد سنوات من الاقامة في ليبيا وكان برفقتهم المئات من عناصر ميليشياتهم المسلحة، وكان على رأس هؤلاء زعيم المتمردين الطوارق “إبراهيم أغ بهانغا” قبل ان يسقط قتيلا اثر حادث سير مشبوه قرب مدينة كيدال.

و أمام تأخر عملية التنمية في شمال مالي وإبطاء الحكومة في تحقيق المطالب التنموية للمناطق الشمالية المهمشة عاد الرجال الزرق من الجنوب الليبي محملين بالاعتدة المتطورة من مخازن الجيش الليبي وتحركهم رياح الربيع العربي وحلم الانفصال سيرا على تجربة دولة جنوب السودان.

في ظرف لا يتجاوز الأسبوعين، بدء نظام الرئيس آمادو توماني توري بالسقوط على إثر الانقلاب العسكري الذي نفذه النقيب أمادو سانوغو، إثر احتجاج صغار الضبط في المؤسسة العسكرية على ما أسموه تقصير النظام الحاكم في مواجهة بوادر الثورة في أزواد.

سرعان ما عمت الفوضـى بشكل غير مسبوق أجزاء مالي، حيث استطاع متمــردوا الطوارق تأكيد السيطرة على أجزاء واسعة من الشمال المالي بما في ذلك كبريات المدن كغاو وكيدال بالإضافة إلى سيـطرة مجموعات جهادية متحالفة مع المتمردين على أجزاء من ولاية موبتي وتمبكتو، وبذلك استحوذ الانفصاليون على نسبة الـ60 بالمائة من الأراضي المالية، التـي انسحب منها الجيش النظامي دون إبداء أي مقاومة تذكر.

في منتصف أبريل 2012 أعلنت الحركة الوطنية لتحرير أزواد “استقلال أزواد”، على لسان الناطق الرسمي باسم الحركة السيـد موسى أغ الطاهر “نعلن رسمياً استقلال أزواد اعتباراً من اليوم الجمعة”، و أضـاف نؤكد عزم الحركة على احترام “الحدود مع الدول المحاذية”.

وكانت الحركة الوطنية لتحرير أزواد (MNLA) التي تتشكل أساسا من القوميين الطوارق والليبراليين والعلمانيين سباقة إلى إطلاق الشرارة الأولى لإعلان الإنتفاضـة الشعبية بعدما دخلت في مواجهة مسلحة مع الجيش المالي إثر هجومها على مدينة “منيكا” بشمال شرق أزواد في شهر يناير 2012، … سيطرت الحركة لاحقا على مدينة “ليرة” في القسم الغربي لإقليم أزواد قرب الحدود مع موريتانيا.

غير أن تحالفها مع جماعة أنصار الدين الإيفوغاسية المنشأ وذات التوجه السلفي الجهادي، كان بمثابة القشة التي قصمت ظهر بعير الإنفصاليين.. فقـد أعلن عدد من قادة الحركة الوطنية انضمامهم لجماعة أنصار الدين، وكان آخر هؤلاء القائد العسكري “اباه موسى” الذي أعلن مع العشرات من مقاتليه انضمامهم لحركة أنصار الدين.

يقـود جماعة أنصار الدين الزعيم الإيفوغاسي أياد آغ غالي؛ إنه شخصية غامضـة ومتحولة فقـد سبق له وأن وقـع اتفاقية للسلام عرفت بإسم اتفاق تمنراست في الجنوب الجزائري إلى جانب الحكومة المالية في يناير 1991 حيث نصت الاتفاقية على منح الإقليم وضعا خاصا.. لم تلبث الأطراف أن عادت للتناحر  مما تسبب في نزوج قرابة 130 ألف مواطن الى موريتانيا والنيجر وبوركينافاسو، وقـعت لاحقا اتفاقيات عرفت باسم “الميثاق الوطني” في أبريل ومايو 1992، وخلال هذه الفترة كان أياد آغ غالي الزعيم الأبرز للمتمردين الطوارق.

بموجب هــذه الإتفاقيات جرى دمج عــدد من المسلحين الأزواديين في الجيش المالي، كما استفاد قادة الحركات من مناصب سياسية ودبلوماسية، لكن الرئيس الأسبق توماني توري فضل تعيين أياد آغ غالي قنصلا عاما لدولة مالي في جدة بالمملكة العربية السعودية، إلا أنه أتهم بربط علاقات شخصية بتنظيم القاعدة، ولهذا طردته الرياض من أراضيها … وحتى تلك اللحظة ظل الرجل محافظا على  توجهه القومي اليساري.

في المرحلة المعاشة شكل أياد آغ غالي، رأس الحربة في الحرب ضد حكومة مالي قبل أن يختفي عن الأنظار بعد التدخل الدولي عسكريا في الأزمة، كما ظلت التوجهات الرئيسية لجماعة أنصار الدين نابعة من رفض انفصال شمال مالي والتأكيد على أن هدفها هو إقامة الشريعة الإسلامية في كل دولة مالي.

لكن آغ غالي كمقاتل بات يستمد قوته الأساسية من الامتداد القبلي للايفوغاس ومن التكوين العسكري في صفوف الكتيبة الخضراء التـي شكلها العقيد الليبي المطاح به معمر القذافي من الطوارق بغـرض تقديم المساعدة على إسقاط نظام الرئيس التشادي الأسبق حسين هبري، بالإضافة إلى كل ذلك تناغمت التوجهات السلفية الجديدة التي يحملها الزعيم الطارقي مع الدعوة الجهادية المنتشرة في المنطقة.

تحالفت جماعة أنصار الدين مع الحركات الجهادية والسلفية كتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي (AQMI)، بالإضافة إلى حركة الجهاد والتوحيد في غرب إفريقيا (MUJAO) التـي ظهـرت إثر انشقاق قادتها على تنظيم القاعدة بعدما رفض طلبها القاضي بتأسيس كتائب خاصة بالمقاتلين من أبناء القبائل العربية في أزواد، أسوة بسرية (الأنصار) التي تضم المقاتلين الطوارق.

حركة الجهاد والتوحيد في غرب إفريقيا (MUJAO) هـي حركة استطاعت بسط السيطرة على مدينة تمبوكتو الأثرية وتأتمر الحركة تحت إمرة القيادي البارز في مجموعة “الأمهار” القبيلة “سلطان ولد بادي” وبمعية الناشط الموريتاني السابق في القاعدة حمادة ولد محمد خيرو، المكنى “أبو القعقاع”. لقـد كانت أبرز مطالب هذه الحركات يتضمن تطبيق الشريعة الإسلامية وإقامة ما أسموه دولة الإسلام في مالي. شكل هذا التحالف المبرم بين الحركات المتشددة دينيا إجهازا حقيقيا على مشروع الحركة الوطنية لتحرير آزواد القاضي بتأسيس الدولة المدنية في شمال مالي.

نفذت حركة الجهاد والتوحيد في غرب إفريقيا (MUJAO) منذ بدايـة النزاع المسلـح العديد من عمليات الاختطاف، وإبان تحالفها مع جماعة أنصار كانت أعداد الرهائن الغربيين لديهما يناهز الـ14 رهينة من بينها 7 فرنسيين، من ضمن هؤلاء ثلاث غربيين تم اختطافهم من مخيمات اللاجئين الصحراويين بتندوف الجزائرية والقنصل الجزائري ومعاونيه المحتجزين في غاو من قبل تنظيم القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي..كما أصبحت مناجم اليورانيوم في النيجر التي تزود فرنسا بثلث حاجاتها من الكهرباء هدفا للإرهابيين.

ازدادت خشيـة الدول المجاورة جراء إمكانية تهريب الأسلحة الخفيفة والثقيلة التي جلبها المقاتلين الطوارق إلى أزواد بعد سقوط نظام العقيد الليبي الراحل معمر القذافي، إلى داخل أراضيها وقد خاضت بعض هذه الدول كموريتانيا حروبا استباقية ضد عناصر التنظيمات المتشددة من اجل إبعادها عن حدودها الجغرافية كما رصدت النيجر ونيجيريا بوادر علائق بين جماعة بوكو حرام والتنظيمات الجهادية في شمال مالي بالتحديد.

مع تسارع هذه التطورات الدراماتيكية ميدانيا وسقوط المدن المالية تباعا في أيدي الجماعات الإرهابية المتشددة، شكل استيلاء أنصار الدين وحركة التوحيد والجهاد في غرب إفريقيا على مدينة كونا التي تبعد 600 كلم عن العاصمة باماكو، مصدر تخوف من لدن الحكومة المالية التي رأت في تقـدم المتمردين نحو العاصمة، خطرا على وجود الدولة نفسها، وهنا أطلق الرئيس أبراهيما أبوبكر كيتا نداءه الشهير الى الرئيس الفرنسي نيكولاس ساركوزي والقاضـي بمساعدة مالي عسكريا لوقف زحف المتمـردين.

في 11 يناير 2013 بدأت فرنسا في نشـر بعض قواتها ضمن ما أطلقت عليه اسم ” عملية سيرفال أو القط المتوحش”، وهكذا شنت مقاتلات ميراج ورافال الفرنسية ضربات جوية طالت حزاما واسعا من معاقل الجهاديين ثم أعقب ذلك تدخل بري واسع في تمبكتو، وفي غضون أقل من شهر منذ بدإ التدخل تمكنت القوات الفرنسية من السيطرة على مناطق إقليم أزواد الثلاث كيدال، وغاو، وتمبكتو.

وجه تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي إلى القادة الأفارقة ينصحهم فيها بالابتعاد عن سياسة التوجه إلى الحرب التي دعت لها فرنسا وفق تعبيره، وهدد التنظيم بقتل سبعة من رعايا فرنسا المحتجزين لديه كرهائن، وبالإضرار بمصالح باريس في الساحل.

وهكذا غـدت المنطقة مصدر قلق بالغ ليس فقط بالنسبة لدولة مالي بـل للتجمع الإقتصادي لدول غرب أفريقيا الذي طالب مجلس الأمن بتفويضه للتدخل العسكري، قبـل أن يقبل بمساعي الوسيط الإقليمي والرئيس البوركينابي المطاح به بليز كومباوري للوساطة في النزاع، … استند كومباوري على خبرته الطويلة بأطراف الصراع وجهود نظامـه السابقة في مفاوضات الإفراج عن الرهائن الغربيين لدى التنظيمات الجهادية الناشطة في المنطقة.. وخلال انطلاقة جولات المفاوضات في ديسمبر 2012 تحدث ممثل الحكومة المالية عما اسماه “الخطوط الحمراء” لاي تفاوض مقبل والتى تتلخص في “احترام وحدة وسلامة اراضي البلاد والطابع العلماني للدولة”.

خلال قمة لزعماء مجموعة التعاون الاقتصادي لدول غرب افريقيا (ايكواس) اتفق الرؤساء على نشر قوات قوامها 3300 جندي في مالي لاستعادة شمالي البلاد من “المتشددين الاسلاميين”، و أعلنت  نيجيريا والنيجر وبوركينا فاسو عن استعدادها للإمداد بمعظم القوات خوفا على “إنهيار الدولة الوطنية” في مالي..

 أطلق الرئيس كومباوري دعوته لدعاة التدخل العسكري في شمال مالي إلى عدم التسرع، وإعطاء الفرصة لمبادرة الحوار مع الجماعات المسلحة”، .. سارعت الحكومة المالية إلى تبني المقترح البوركينابي فورا.

إلى جانب بوركينافاسو لعبت عديد الدول أدوارا تفاوضية مؤثرة فقد حاولت قطـر ربط صلات بجماعة أنصار الدين بغية جرها الى التفاوض، كما وصف تقرير صادر عن معهد كارنينجي الموقف الجزائري الموارب بالغامض و”الإهمال الخبيث” والذي تهدف من خلاله الجزائر الى معاقبة مالي بسبب “خطايا” رئيسها والذي طالما اتهمه الجزائريون “بالتواطؤ المتعمد”، لكن الجزائر عدلت عن مواقفها المترددة وطالبت كلا من مالي والنيجر وموريتانيا إلى تفعيل آلية دول “الميدان” قبل أن تبدي رغبتها في التوفيق بين المتناحرين.

في يوليو 2014 حسمت الجزائر أمرها و أطلقت أولى جلسات المباحثات بين الأطراف المالية المتحاربة، ما عدى التنظيمات الإرهابية المتشـددة، في الجولة الخامسة تبدت تباشير التوصل إلى ما يعزز من “دينامية التهدئة والانضمام إلى الحوار الشامل في كنف احترام الوحدة الترابية لمالي”، وفقا لإعلان الجزائر.

    فهل يكون مشروع الاتفاق هذا قادرا على الحد من جموح هؤلاء الرجال الزرق؟   

قراءة في مشروع السلم والمصالحة

وقعت 6 حركات عسكرية طارقية بالأحرف الأولى على مشروع الاتفاق المقترح من الوساطاء الدوليين وهي: “الحركة الوطنية لتحرير أزواد” وحركتان تحملان الاسم نفسه “الحركة العربية الأزوادية” (موالية لباماكو) و”الحركة العربية الأزوادية (معارضة)، و”التنسيقية من أجل شعب أزواد” و “تنسيقية الحركات وجبهات المقاومة الوطنية” و “المجلس الأعلى من أجل وحدة أزواد، فيما رفضت التوقيع تنسيقية الحركات أزوادية التي تضم ثلاث حركات مسلحة هي الحركة العربية الأزوادية والمجلس الأعلى لوحدة أزواد والحركة الوطنية لتحرير أزواد، وطالبت “التنسيقية ” الوسطاء بمنحها “الوقت والدعم اللازم قبل أي توقيع بالأحرف الأولى على هذا المشروع بهدف مشاركته مع شعب أزواد في غضون فترة زمنية معقولة”.

يوضح القيادي في منسقية الحركات الأزوادية، ورئيس لجنة السياسة والمؤسسات في وفد المنسقية في مسار الجزائر السيد امبيري أغ عيسي الأسباب التي منعت وفد تنسيقية الحركات أزوادية من التوقيع بالأحرف الأولى على مشروع الاتفاق بالقول : إن أهم نقاط الاختلاف بين الوفد الأزوادي والحكومة المالية تكمن أساسا في الجانب المؤسسي والجوانب الأمنية، حيث إن “مالي قدمت لنا نوعا من اللامركزية المشوهة” ونحن “ناضلنا من أجل أزواد في اتفاقات تمنراست، والميثاق الوطني… وقد اقترحنا اليوم أن يكون أزواد كيانا واحدا يضم جميع ولايات الشمال ولكن يبقى داخل مالي، وهو ما رفضته مالي، وتريد أن تتعامل مع كل ولاية منفصلة” وفيما يتعلق بقضايا الدفاع والأمن فإن “الاتفاق يكرس عودة الجيش المالي إلى مناطقنا، وهو ما يرفضه السكان”.

ويتضح جليا أن طبيعة الشروط ونوع المطالب التي تطرحها “الحركة الوطنية لتحرير أزواد” و«المجلس الأعلى لتحرير أزواد” “والحركة العربية لتحرير أزواد”، تتعدى مطلب الحكم الذاتي إلى استقلال آزواد، فالانفصاليون يطالبون بالتساوي بينهم وبين الحكومة في الموارد الطبيعة للبلاد وفي تمكينهم من الإدارة السياسية للبلاد، فعلى سبيل الذكر تورد صحيفة “أورور” (الفجر) المالية أن رافضي التوقيع على الاتفاق، يشترطون أن تكون 80 بالمائة من الدوريات الأمنية المشتركة، التي تم الاتفاق على تشكيلها في وثيقة الاتفاق، تتألف مما يسمونه “رعايا أزواد”! وأن يختار أولئك الرعايا بأنفسهم قيادات تلك الدوريات، وأن تعود رئاسة “الآلية العملياتية للتنسيق” المتفق عليها، لمهمة الأمم المتحدة في مالي (مينوسما)، بينما نيابة الرئيس تعود للطرفين مناصفة : الحكومة والتنسيقية.

 ومن جانبها أفادت صحيفة “لوماتان” الجزائرية بأن “التنسيقية”، التي تمثل جزءا من المعارضة المسلحة، اشترطت على الحكومة منح أزواد حصصا في المؤسسات والمصالح الكبرى وأجهزة السيادة في الدولة، وفي الممثليات الدبلوماسية والهيئات الدولية.

وعرض الوسيط الجزائري على الطرفين مشروع الاتفاق الجديد الذي ينص على “إعادة بناء الوحدة الوطنية للبلاد على قواعد تحترم وحدة أراضيها وتأخذ في الاعتبار تنوعها الاثني والثقافي”، وفـي محور “المبادئ العامة الالتزامات” استبعاد تام لأي فكرة من شأنها أن تؤدي لاستقلال مناطق الشمال حيث يشدد مشروع الاتفاق على “الوحدة الترابية وسلامة وسيادة دولة مالي وعلى طابعها الجمهوري والعلماني”.

كما تلزم الوثيقة سلطات باماكو بأن “مؤسسات الدولة المالية تأخذ الإجراءات اللازمة من أجل تعديل دستوري والإجراءات التشريعية والتنظيمية اللازمة لتطبيق مضمون الاتفاق”.

وينص المشروع في المحور الخاص بالأمن والدفاع على تشكيل لجنة مشتركة بين الحكومة المالية وحركات الشمال من اجل بحث عملية نزع السلاح من الحركات العسكرية في المنطقة مباشرة بعد توقيع الاتفاق على أن تستمر العملية سنة على أقصى تقدير في الوقت الذي يقوم الجيش الحكومي بالانتشار في المنطقة كما ان عناصر الحركات العسكرية في الشمال يتم إدماجهم في صفوف الجيش أو يحولون إلى مناصب مدنية حسب رغبتهم.

وفي أعقاب المفاوضات الطويلة والمكثفة التي خاضتها الأطراف المالية على مدى 5 جولات من الحوار بالجزائر العاصمة منذ يوليو 2014، ثمنت واشنطن الجهود التي بذلتها الحكومة الجزائرية لقيادة فريق الوساطة وبالدعم الذي حظيت به من لدن بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الأبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، والاتحاد الإفريقي، والمجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا، ومنظمة التعاون الإسلامي، والاتحاد الأوروبي، وحكومات بوركينا فاسو وتشاد والنيجر وموريتانيا وفرنسا ونيجيريا.

 و كما كان متوقعا فقد رفضت السلطات المركزية في باماكو، التعاطي إيجابا مع أطراف المعارضة المسلحة التي تطالب بالاستقلال الذاتي، فيما أكدت على أنها تتعامل مع قضايا الأمن والدفاع من منطلق سيادي، وبأن مهمتها العمل على تهيئة الأجواء في باماكو لاحتضان التوقيع النهائي على اتفاق السلام والمصالحة الذي يتضمن مشروعه الحالي 72 مادة موزعة على 8 محاور إلى جانب 3 ملاحق تخص القضايا الأمنية والمرحلة الانتقالية وكذا مشروع التنمية الاقتصادية والاجتماعية.

التحديات الأمنية أمام المنطقة

مكنت حالة التمرد والتململ التي عاشها شمال مالي طيلة عقود طويلة من تسريع احتـلال الجماعات الجهادية المرتبطة بتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي لأجزاء واسعة من الإقليم، لمدة تزيد على تسعة أشهر وهو وضع حتم على باماكو التسليم بشكل راسخ، بأنه ليس بمقدورها أن تواجه تلك التهديدات الإنفصالية التي كشفت عنها حركة أنصار الدين والحركة الوطنية لتحرير أزواد المدعومتين من قبل الحركات الإرهابية كحركة التوحيد والجهاد في غرب إفريقيا (موجاو) لوحدها لكونها ظاهرة تتطلب تعاونا مكثفا وشاملا بين الدول فجاء تدخل التحالف العسكري الدولي بقيادة فرنسا سنة 2013 …سرع هذا التحالف العسكري بطرد الجماعات الجهادية من الإقليم بعدما نشرت بين سكانه الرعب وأحرقت المكتبات في تمبوكتو وحطمت الأضرحة والمزارات، انتظرت المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا سماح مجلس الأمن الدولي السماح لها بالتدخل العسكري من اجل حماية الدولة في مالي من السقوط في يدي التنظيمات الجهادية المتشددة، لكن فرنسا لم تنتظر فتوى الأمم المتحدة فأطلقت في أغسطس 2014 بالشراكة مع حلفائه في المنطقة وعلى رأس هؤلاء موريتانيا ومالي وبوركينا فاسو والنيجر وتشاد في أغسطس 2014 عملية بارخان التي تشمل منطقة الساحل والصحراء بأكملها.

استبشـر الرئيس المالي ابراهيما بوبكر كيتا باستبعاد المجموعات المرتبطة بتنظيم القاعدة والتي تحالفت لفترة قصيرة مع الحركات المنضوية تحت لواء “التنسيقية” الرافضة ضمنيا مشروع اتفاق الجزائر، لكن رسالة التنظيمات التي تصفها باماكو بالإرهابية جاء سريعا فقد تسلل مقاتلو “المرابطون” (حركة التوحيد والجهاد في غرب إفريقيا سابقا) إلى داخل العاصمة باماكو مستهدفة مطعما شعبيا وتمكن الجهاديون من قتل 3 ماليين وفرنسي وبلجيكي، ولاحقا وصفت حكومة مالي الهجوم بأنه عمل إرهابي قبل أن تؤكد على  أن مالي لن تخضع لإرهاب “الجهاديين” وجهودهم لإبعاد احتمال تحقيق السلام بين الماليين و إفشال اتفاق الجزائر. 

بالرغم من طردهم من شمال مالي بفضل التدخل الدولي، لا يزال الجهاديون ينشطون في كافة أجزاء المنطقة، حيث أثبتوا أنهم ليسوا في حاجة إلى السيطرة الميدانية للحفاظ على قدرتهم الهائلة على زعزعة الاستقرار.

ويثار الكثير من الجدل حول إمكانية صمود الاتفاق الجديد في ظل التحديات الأمنية والاجتماعية والاقتصادية التي تواجهها دولة مالي، وخاصة شمال البلاد، الذي يمثل ثلثي مساحة الدولة والذي تقطنه أغلبية من الطوارق والعرب الذين يعانون الفقر والتهميش.

كما يواجه الاتفاق الجديد صعوبات كبيرة بسبب الخلافات العميقة بين الحركات المتمردة، وهي خلافات تقليدية بين القبائل الأزوادية التي تقود هذه الحركات، خاصة قبيلتي “إيفوغاس” و”إيمغاد”، إن مشاركة العديد من الجماعات المسلحة غير المتحدة في المحادثات، قد “لا يمكن من التوصل إلى حل طويل الأمد” بحسب بوكاري جاو، رئيس تحرير صحيفة لو ريبابليكان المالية.

وينظر الانفصاليون إلى رئيس الحكومة المالية الحالي موديبو كيتا بايجابيـة حيث سبق له وان كان ممثلا ساميا للرئيس المالي بوبكر كيتا في المفاوضات مع الطوارق والعرب بالجزائر مما ساعد على تسريع مباحثات السلام، ومن أقواله  “على الماليين أن يفهموا أن لا شيء يتقدم على عملية السلام”، مما يدل بالنسبة لغرمائه على سلامة نيته من اجل تحقيق المصالحة، بأقل الخسائـر الممكنة.

كاتب إعلامي وناشط حقوقي من موريتانيا.