انتفاضةُ النُّخَبِ في جنوب أفريقيا

شهدت مدنٌ في جنوب أفريقيا بين 9 و 17 من يوليو (2021) أعمالَ عنف ونهبٍ إثر اعتقال الرئيس السابق “جاكوب زوما” لقضاء عقوبة بالسجن لمدة 15 شهرًا بتهمة ازدراء المحكمة. وكانت هذه الأعمال العنيفة تزامنت مع موجة من الإصابات بوباء كورونا المستجد (كوفيد-19) في المناطق الأكثر اكتظاظا بالسكان في البلاد.

وقد نتج عن هذه الاضطرابات مقتلُ ما لا يقل عن 212 شخصًا واعتقال أكثر من 2500 شخص. وانهارت محافظة “كوازولو ناتال” – موطن الرئيس السابق المعتقل “زوما” وفصيله في “المؤتمر الوطني الأفريقي” الحاكم، وألحقت الأزمة أضرارًا بمحافظة “خاوتينغ” – المركز الاقتصادي الذي يضم منازل لمهاجرين وعُمال من “كوازولو ناتال”, لتكون هذه الاضطرابات أسوأ عنف عام شهدته جنوب أفريقيا منذ نهاية الأبارتايد (نظام الفصل العنصري) في عام 1994.

وإذا كانت الحكومة لم تحسم بشكل نهائي عن حجم الكوارث التي خلفتها الاضطرابات خاصة فيما يتعلق بالتكلفة البشرية والاقتصادية والسياسية؛ فإن طبيعة الأزمة ورد الحكومة المرتبك يؤشران على أن الأزمة ليست احتجاجا من قبل الفقراء, وأن جذورها متأصلة في عملية البناء غير المكتملة للمؤسسات المدنية في جنوب أفريقيا.

اعتقال “زوما”

لقد وصف البعض عملية اعتقال الرئيس السابق “جاكوب زوما” بأنها “سقوط” مفاجئ لأحد المناضلين من أجل الحرية الذي حارب الأبارتايد إلى جانب “نيلسون مانديلا” وغيره من الزعماء؛ فـ “زوما” الذي يبلغ 79 عاما سلّم نفسه طواعية لمسؤولي السجن يوم الأربعاء الموافق 7 يوليو (2021) بحوالي 40 دقيقة قبل الموعد النهائي الذي حدّدته الشرطة في منتصف الليل, وذلك بعدما أمرت المحكمة الدستورية – أعلى هيئة قضائية في جنوب أفريقيا – بسجنه في شهر يونيو لإدانته بتهمة الازدراء لعدم مثوله ورفضه الإدلاء بشهادته أمام لجنة تحقيق بقيادة القاضي “ريموند زوندو” – نائب رئيس المحكمة الدستورية – في اتهامات الفساد التي شوّهت فترة رئاسة “زوما” لجنوب أفريقيا من 2009 إلى 2018.

وكانت قضايا فساد في عهد “زوما” مشهورة اليوم بـ “السيطرة على مؤسسات الدولة“. كما أن لجنة التحقيق الخاصة بالنظر في المسألة منذ 2018 أصبحت تعرف بـ “لجنة السيطرة على الدولة” – بدلا من اسمها الرسمي الذي كان “اللجنة القضائية للتحقيق في مزاعم السيطرة على الدولة”.

وقبل هذا الحكم الأخير الذي أودى به إلى السجن, تحدى “زوما” أمرًا في يناير 2021, ودخل في عملية انتقاد القضاء علنًا بشكل حاد. وكان أمر المحكمة باعتقاله أدخل جنوب أفريقيا في نقاشات محتدمة وتوترات بين قادة الحزب الحاكم. وكان موقف “زوما” وحلفائه أنه كان ضحية مؤامرة – بالرغم من أن اتهامات الفساد الموجهة له كانت من العوامل الأساسية التي أجبرته على الاستقالة من المنصب الرئاسي. وقد أشارت الحكومة الحالية إلى أن عشرات المليارات من الدولارات قد سُلبت من خزائن الدولة خلال فترة حكم “زوما”، وهي تهمة نفاها “زوما” تماما.

وقد ساهم وصف قرار المحكمة بالمؤامرة في إشعال غضب أنصار “زوما” الذين قالوا إن خصومه داخل حزب “المؤتمر الوطني الأفريقي” الحاكم يسعون إلى  استخدام المحاكم لمنع “زوما” من استعادة السيطرة على الحزب من يد نائبه السابق والرئيس الحالي “سيريل رامافوسا”.

ومع ذلك, فقد أشاد العديد من الجنوب أفريقيين بحكم المحكمة واعتقال “زوما” باعتباره تأكيدًا للنظام الديمقراطي في البلاد وإرساء لمبدأ المساواة في إنفاذ القانون.

حكومة غير متماسكة

أكّد فشل خطاب الرئيس الحالي “سيريل رامافوسا” (في 11 يوليو) في تهدئة الوضع على أن مسؤولي الحكومة أنفسهم منقسمون فيما بينهم تجاه الاضطرابات الأخيرة في جنوب أفريقيا؛ فالرئيس الحالي “رامافوسا” يرى في أحد خطاباته أن جذور الاضطرابات قد تكون في تصريحات وأنشطة الأفراد ذوي الأغراض السياسية, وفي خطاب آخر رأى أن الاضطرابات قد تكون تمرّدا أو أداة للتعبير عن الإحباط والغضب حيال أمر المحكمة.

على أن هناك داخل الحزب الحاكم من انتقد موقف الرئيس “رامافوسا” من الأزمة, وخاصة فيما يتعلق بتصريحاته بأن من وراء الاضطرابات هم “بعض الأشخاص الذين سعوا للتحريض على العنف والفوضى على أسس عرقية”؛ إذ عارض قادة الأمن في جنوب أفريقيا دعوة الرئيس “رامافوسا” وغيره إلى نشر الجيش للسيطرة على الوضع. بل ورفضت وزيرة الدفاع “نوسيفوي مابيزا-نكاكولا” استعدادها لتنفيذ حالة الطوارئ.

وفي وجهة نظر وزيرة الدفاع التي تعدّ أيضا عضوة بارزة في الحزب الحاكم وشغلتْ منصب وزيرة الدفاع في عهد الرئيس السابق “زوما”؛ فإن الجيش لا يرى أي علامات على تمرّد أو محاولة انقلاب، بل ما رآه الجيش هو “ثورة مضادة” في شكل “إجرام وبلطجة”.

ومع ذلك, لم يتراجع الرئيس “رامافوسا” عن موقفه؛ حيث كرّر مرة أخرى بعد ساعات من تصريحات وزيرة دفاعه بأن الاضطرابات كانت تمردًا، وأن أيام النهب كانت “هجومًا متعمدًا ومنسقًا ومخططًا له بشكل جيد”.

الشوفينية العرقية

كشفت الاضطرابات أن “زوما” لا يزال يتمتع بشعبية كبيرة وخاصة بين “زولو” في موطنه الأصلي بـ “كوازولو ناتال”. وقد تحول قرار سجنه إلى فرصة لإثارة النعرات الإثنية في بعض المناطق وتشبيه قرار المحكمة بمعاناة الجنوب أفريقيين في حقبة الأبارتهايد (الفصل العنصري). بل لوّح أتباع “زوما” أثناء خطابه قبل أيام من اعتقاله – لافتاتٍ حملتْ رسائل مثل: “نطالب بأرضنا التي سُرقت قبل 573 عامًا”، و “نحن نرفض أن يحكمنا جواسيس الفصل العنصري”.

وفي حدّ تعبير “زوما” للحشد في قريته: “لقد ناضلتُ من أجل الحرية. كنت أقاتل من أجل هذه الحقوق بالذات. لن يأخذ أحد حقوقي. بل سيتحرك الموتى الذين حاربتُهم خلال نضال التحرير في قبورهم (بسبب هذا القرار)”. وأضاف في خطاب آخر: “لدي واجب والتزام لضمان عدم المساس بكرامة واحترام قضائنا من خلال الأحكام التي تذكّر شعبنا بأيام الفصل العنصري”.

وقبل اعتقال “زوما”, كان أعضاء حزب “المؤتمر الوطني الأفريقي” الحاكم منقسمين فيما بينهم تجاه محاكمة “إيس ماغاشولي” وإيقافه من منصب الأمين العام للحزب في 10 نوفمبر 2020 بعد صدور مذكرة من مديرية التحقيقات الجنائية الأولية بشأن 21 تهمة تتعلق بالفساد والسرقة والاحتيال وغسيل الأموال. وكان “ماغاشولي” حليفا وثيقا لـ “زوما” ومنتقدا معروفا لـ “رامافوسا”.

وعليه, يرى البعض أن بإمكان تطورات الأشهر الثمانية الأخيرة أن تعمّق الخلافات داخل حزب “المؤتمر الوطني الأفريقي” الحاكم, وأنها قد تؤدي إلى ظهور أحزاب انفصالية صغيرة في ظل تنامي النعرات العرقية.

وقد اضطرت مجموعة من قادة الحزب إلى زيارة منزل “زوما” قبل اعتقاله لتهدئة الأوضاع والتوسط لحل. كما أن الحزب أصدر بيانًا قال فيه: “إن استدامة ديمقراطيتنا تتطلب أن نضمن باستمرار تأكيد قيم اللاعرقية ورفض أي مظاهر من مظاهر الشوفينية العرقية”.

انتفاضة النخب

إن البصمات التي تركتها الاضطرابات الاخيرة في جنوب أفريقيا وطريقة اندلاعها جعلتْ باحثين سياسيين واجتماعيين إلى اتخاذ موقف مغاير للرأي العام تجاه الأزمة. ويتمثّل هذا الموقف في أن الفوضى التي شهدتها جنوب أفريقيا انتفاضةٌ وهجومٌ من قبل النُّخب, وليست عنفا ناتجا عن التعبير عن الغضب من قبل الفقراء أو إظهارا للإحباط بسبب تفاقم تداعيات كورونا من قبل المواطنين العاديين؛ وذلك لأن العنف الذي وقع في محافظتي “كوازولو ناتال” و “خاوتينغ” لم يتبع النمط المألوف للصراع في جنوب إفريقيا ودول أخرى.

وفي وجهة نظر “ستيفن فريدمان” – أستاذ الدراسات السياسية بجامعة جوهانسبرج, فإن أعمال النهب غالبا ما تكون ردَّ فعلٍ مشترك على الصراع من قبل الذين يعيشون في فقر، ولكن وقوع الهجوم على البنية التحتية وتدمير الأعمال والشركات و “اختفاء” مخزون كبير من الرصاص لا ينسجم مع ما قد يفعله الفقراء أو الذين يكافحون من أجل لقمة العيش أثناء النزاع. ولا ينافي هذا أيضا انضمام بعض الفقراء إلى النهب بعد اندلاعها – كما يتوقع من أي مجتمع فقير.

ولكن, كيف يمكن تحديد النخب المسؤولة عن هذه الاضطرابات؟ الإجابة على السؤال ستكون وفق طريقة تفسير كل باحثٍ سياسي ومنظّرٍ اجتماعي لحقيقة ما حدث, وقراءت كل منهم للعناصر التي جاءت في التقارير حول الحادثة.

أما بالنسبة لـ “ستيفن فريدمان”؛ فإن هناك عنصرين بارزين في تقارير الاضطرابات اعتمادا على نتائج الوقائع الجلية منذ سنوات في جنوب أفريقيا.

العنصر الأول: أن الديمقراطية في جنوب أفريقيا نتاجُ تسوية تفاوضية, ولكنها جاءت بعد صراع مسلح بين حكومة “الأقلية البيضاء” والقوى التي كانت تقاتل من أجل حقوق “السود” أصحاب الأرض. وقد أطلق البعض على ما حدث “انتقالات الحرب” – حيث يوجد مسلحون على جانبي الانقسام رغم تغير البلاد من نظام سياسي إلى آخر. ويعني هذا أن العنف غير محتكر للدولة وحدها, إذ هناك أشخاص يملكون أسلحة وشبكات مسلحة, وقد يكون هؤلاء داخل الحكومة أو خارجها، ولكنهم لا يلتزمون بالقواعد الوطنية أو القوانين الضابطة.

العنصر الثاني: أن أعضاء المجالس المحلية لعبوا دورًا مهمًا في أعمال العنف. ويمكن فهم هذا من خلال حقيقة أنه بالرغم من أن الكثيرين في جنوب أفريقيا يصبون اهتمامهم على الحكومة الوطنية عندما يتعلق الأمر بالفساد، إلا أن مجموعة من أعضاء الحكومات المحلية والإقليمية تكرس جهودها لزيادة ثرائها على حساب الحكومة الوطنية. ويؤكد على هذا أن محافظة “كوازولو ناتال” وحدها شهدت عمليات قتل لأعضاء المجالس البلدية والمسؤولين المحليين الذين حاولوا محاربة الفساد.

وعلى أساس العنصرين السابقين, يمكن القول إن الأشخاص المسلحين أو الشبكات المحلية هي التي حشدت قوتها لخلق الفوضى؛ إذ قد يعني سجن الرئيس السابق “زوما” أن السلطة قد تحولت بطريقة تهدد بقاءهم أو أن هناك خطوات حكومية تعرقل مصالحهم, وبالتالي حاولوا القيام بأشياء قد تضمن بقاء شبكاتهم – أو على الأقل إثبات وجودهم.

ويلاحظ من الأزمة أيضا أن الاضطرابات نتاجُ عمليات بناءٍ غير مكتملة للمؤسسات القانونية والمدنية بجنوب أفريقيا؛ إذ بالرغم من أن البلاد لم تشهد حجم تلك الفوضى منذ عقود, إلا أن أصولها وعواملها ليست جديدة لأنها متجذرة في الرحلة السياسية وفشل البلاد في إنشاء مصدر موحد للنظام العام وتغير توازن القوة الاقتصادية لصالح مجموعات محددة تجمع الثروة على حساب المواطنين.

جدير بالذكر أنه يُعزى الفضل في الشروع في بناء المؤسسات المدنية ودولة القانون إلى الزعيم والرئيس السابق “نيلسون مانديلا”, وذلك لدعمه المطلق لمبدأ الدستورية وسيادة حكم القانون. وتبعه في ذلك أيضا خليفته “ثابو مبيكي” الذي حاول تعزيز تماسك الحكم الديمقراطي ولكن الانقسام داخل حزبه “المؤتمر الوطني الأفريقي” أدى أحيانا إلى تقويض الدستور وسيادة القانون.

أما “زوما”, فإن الرأي السائد أنه خالف الدستور وانتهك حرمته, وأنه أساء استخدام السلطة الموكلة إليه كرئيس جنوب أفريقيا ومكّن الشكل المنهجي للفساد؛ ليصبح أمام الرئيس الحالي “رامافوسا” الاستلهام من “مانديلا” و “مبيكي”, وتحمّل مشقات إعادة البناء في ظل الأزمات الاجتماعية والمالية والاقتصادية والصحية المتشابكة.

وأخيرا, يلاحظ التفاؤل في وجوه الجنوب أفريقيين العاديين بعد أيام من استعادة السيطرة على الوضع في الأسبوع الماضي, حيث انتشرتْ لقطات للمواطنين وهم ينظفون واجهات محلاتهم. وفي المقابل يواجه السكان في مدن مثل “ديربان” و “بيترماريتسبورغ” نقصًا في الغذاء, بينما بدأت الشركات تحدد خسارتها وتكلفة إعادة البناء وإنعاش أعمالها مرة أخرى.

- المدير التنفيذي للأفارقة للدراسات والاستشارات.
- باحث نيجيري مهتم بالتحولات السياسية والقضايا الاجتماعية والتنموية والتعليمية.
- حاصل على دكتوراه في الأصول الاجتماعية والقيادة التعليمية من الجامعة الإسلامية بماليزيا.