عن ظاهرة العنف وجدلية العرق وتصفية الاستعمار: قراءة في كتاب “معذبو الأرض”
في عام 1961 صدر كتاب “Les Damnés de la Terre” لـ “فرانز فانون”, وتُرجِم إلى لغات مختلفة, بما في ذلك الانجليزية “The Wretched of the Earth” والعربية “معذبو الأرض”. واعتُبِر ضمن أكثر الكُتب قراءة في فترة ما بعد الحرب “العالمية” الثانية, كما أن الكتاب منذ صدوره أثار نقاشات ودراسات حول مفاهيم وأفكار ومواقف متعلقة بمواضيعه. وفي هذه الورقة سيتم تناول أهم هذه المواضيع بدءا من شخصية المؤلف واتجاهاته الفكرية.
شخصية المؤلف واتجاهاته الفكرية
ولد “فرانز فانون” (Frantz Fanon) في “فور دو فرانس” عاصمة جزيرة مارتينيك الكاريبية في يوليو من عام 1925. كان طبيبا وفيلسوفا اجتماعيا. مارس الطب النفسي بعد أن التحق بالمدرسة الطبية في ليون. رسمت تجاربه المتعددة، ملامح تركيبته الشخصية وصقلت قدرته على الكتابة والتفكير. والواقع، أن سيرورة تشكل شخصية فرانز فانون كانت تعكس معاناته الكبيرة بعد أن اختار طريق النضال والفكر التحرري.
عندما وصل فانون إلى فرنسا في عام 1947، كانت البلاد في حال من التغير المستمر؛ فبعد أن هزتها الحرب، أخذت تواجه حركات راديكالية تعمل من أجل التغيير، بما فيها (عالم ثالث) يناضل من أجل الاستقلال. وعرفت فرنسا في تلك السنوات التي أعقبت الحرب العالمية الثانية مباشرةً، موجة عاتية من موجات الحراك الفكري الذي كان يروم تغيير بنية التفكير وأسس الفلسفة الاجتماعية والسياسية التي أصيبت بجرثومة حرب لا معقولية فيها. وهو الوقت الذي انقسم فيه التفكير بين معسكرين لا يمكن مصالحتهما، فكل شئ كان يصنف بمصطلحات مانوية” – كما يرى المؤرخ طوني جوت. مثل: شيوعيون/ رأسماليون، الاتحاد السوفيتي/ الولايات المتحدة الأمريكية، صحيح / خطأ، خير / شر، هم / نحن…
مع دراسته الأكاديمية وتخصصه في حقل الطب النفسي، انكب فانون على المعرفة، وتأثر كغيره من الانتلجنسيا الفرنسية، بالظروف الاجتماعية التي فرضت عليه الاهتمام بالسياسة. فانتمى فانون فكريا وسياسيا إلى الاتجاه الاشتراكي الذي كان متأثرا في فرنسا بمحاضرات ألكسندر كوجيف بشأن ديالكتيك “هيغل” عن السيد / العبد، في ثلاثينيات القرن العشرين. وبحسب بيتر غيسمار، فإن فانون، حضر اجتماعات عمالية وتروتسكية، وبالتالي لم يكن ثمة شك في اتجاهاته الاشتراكية. ومع ذلك، فإن القضية المحورية لمتعاطي فانون وفكره، تتعلق، بالمكانة التي يمكن وضعهما فيه – أي الأفكار وصاحبها فانون نفسه، والذي وعلى الرغم من اتفاق الكثيرين على اشتراكيته – إلا أنه كان ولا يزال من الصعب تصنيفه، فهو – أي فانون – كان موضوع تصنيفات لا تحصى، تتراوح بين الملك الفيلسوف لأفريقيا، ونبي العنف؛ واعتبره البعض سارتريًّا (نسبة إلى سارتر)، وماركسيا، وهيغليا، ولاكانيا (نسبة إلى عالم التحليل النفسي الفرنسي جاك لاكان)، ومعتنقا مذهب الزنوجة، واشتراكيا، وداعية للوحدة الإفريقية (آفروعمومي)، ومؤسسا لمدرسة ما بعد الكولينيالية. وأكثر من ذلك أن أكثر أفكاره تأثيرا والتي اعتبرت جوهرية بالنسبة لعدد لا يحصى من الناس، معقدة ومتشابكة ومتداخلة، ولعل الأمثلة الأبرز لأفكاره المتشابكة تتمثل في ديالكتيك العرق والطبقة ومكانتهما في انطلاقاته التحليلية.
بعد سنين قليلة من تخرجة وعمله، التحق فانون بالثورة الجزائرية، وهناك بدأت فصول مشروعه الفكري التحرري في التبلور. حيث ألف فانون عددا جد معتبر من الكتب، لكن – ومن غير إنكار عمق مؤلفاته الأخرى – فإن كتابيه (إهاب أسود.. أقنعة بيضاء)، و(معذبو الأرض) يبدوان مختلفين تماماً من حيث أنهما يعكسان تجارب مختلفة بشأن الاستعمار الكولينيالي الفرنسي. فالكتاب الأول يناقش اشكالية عقدة النقص المشتقة، في آن واحد، من النزعة الفرنسية التي سادت جزر المارتينيك قبل الحرب. ومن تجربة أن تكون أسود البشرة في الأعوام التي تلت الحرب مباشرة في المركز الاستعماري فرنسا؛ أما الكتاب الثاني، فهو نتاج لثورة ضد الاستعمار الكولينيالي في مستعمرات الاستيطان. ورام فانون في كتابيه المذكورين، معالجة اشكاليتين معقدتين بحسابات تلك الأيام، باعتبار تجذرهما في أعمق أعماق المجتمعات الأوروبية؛ وهي إشكاليتي العنصرية الممنهجة وظاهرة الاستعمار. ويعتبر ما جاء في الكتابين من طرح بشأن الاشكاليتين، من أقوى المحاججات التي شكلت لاحقا أسس معرفية لما عرفت بدراسات ما بعد الاستعمار.
كتاب “معذبو الأرض” (Les Damnés de la terre)
نال هذا الكتاب الذي صدر في أزمنة معاناة الشعوب الإفريقية مع الاستعمار، (في ستينيات القرن الماضي)، مكانة مرموقة من بين مؤلفات فرانز فانون الأخرى لاعتبارات ثورية بحتة. وبعبارة أخرى، أصبح هذا الكتاب بعد صدوره، “إنجيلا لثورات التحرر الإفريقية” وبه عرف فانون ككاتب عميق وفيلسوف صاحب مدرسة فكرية وضعت الأسس النظرية لما تعرف الآن بدراسات (ما بعد الاستعمار). حيث عد هذا الكتاب (معذبو الأرض)، حجر زاوية في التأسيسات التي استهدفت تفكيك أبنية الاستعمار وخطابه الفكري والنظري (الأيديولوجي). وتنبع أهمية كتاب (معذبو الأرض)، من كونه السفر الذي حوى خلاصة تجربة مؤلفه (فرانز فانون) السياسية والثورية، وجل خبراته التي استقاها كوطني مارتنيكي أسود، في مقابل الآخر الفرنسي الغازي، إلى جانب تجربته مع جيش التحرير الوطني الجزائري. وفي هذا الكتاب أيضا، حاول المؤلف كشف استراتيجيات الاستعمار العسكرية وتقنياته السيكولوجية التي يخضع من خلالها الشعوب، وأبان من ثم الوسائل القمينة بمجابهة ذلك الاستعمار ومداخل الخلاص منه نهائيا وطوي صفحته.
ككل كاتب، اهتم فرانز فانون في متن(معذبو الأرض)، بقضايا رئيسية جسدت الثيمات الأساسية لكتاب متوسط الحجم. وعبر طرح متماسك، جادل فانون في ثنايا مؤلفه بشأن العنصرية العرقية وظاهرة الاستعمار بصيغتيه القديم والجديد، وظاهرة العنف (كسلاح ثوري)، واتجاهات البرجوازية الوطنية أثناء وبعد الثورات التحررية.
ومن المواضيع التي تناولها الكتاب:
أولا – ظاهرة العنف: الفانونية الراديكالية
تلقب الكثير من الدوائر المعرفية مؤلف كتاب معذبو الأرض (فرانز فانون) بفيلسوف العنف. وهذا يتناقض مع ما عرف عنه كشخص. وهو الذي عرف بحسه الأخلاقي العالي وإنسانيته وطيبة قلبه إبان ممارسته الطب العلاجي في الجزائر. والواقع، أن طرح فانون للعنف لم يكن أنطولوجيا. أي أنه لم يكن يبرر لملازمة العنف للوجود الإنساني والاجتماع البشري عموما.
في كتابه المذكور، نظر المؤلف إلى العنف كظاهرة تاريخانية يرتبط وجودها بضرورة تبديل حالة عصية على الإدراك والعقلنة كالاستعمار. إن المستعمر – حسب مؤلف الكتاب – يدرك منذ ولادته إدراكا واضحا أن هذا العالم المضيق، المزروع بأنواع المنع، لا يمكن تبديله إلا بالعنف المطلق.
وكان مؤلف الكتاب يرى أن علاقة المستعمر والمستعمر، علاقة مختلة قائمة على حالة غير موضوعية،هي: الظرف الاستعماري. هذا، بينما تقوم استمرارية هذا الظرف الاستعماري على العنف العاري الذي يمارسه المستعمر بأجهزة قمع كالشرطة والدرك. إن العنف الفانوني ما هو إلا عنف القوى الاستعمارية نفسها مرتدا إليها، ذلك لأن “محو الاستعمار حين يعرض عاريا، يكشف من خلال مساماته كلها، عن رصاصات حمر وخناجر دامية”. إن إرادة المستعمر للفكاك من هذا المأزق الوجودي، “لا يمكن أن يتم (لها النجاح) إلا بعد قتال حاسم مميت يخوضه الطرفان المتنازعان”. كما أن هذه الإرادة (إرادة المستعمر)، لن تتمكن من الانتصار “إلا إذا ألقيت في الميزان جميع الوسائل، ومنها وسيلة العنف طبعا”. إن العنف هو اللغة التي يفهمها الاستعمار ويخشاها. ولا سبيل للتخلص منه إلا من خلالها.
ثانيا – مكافحة العنصرية: جدلية العرق والطبقة
ربما يمكن الجزم بأنه: لم يتلقى أي عرق معاملة سيئة ومهينة بناء على ثيمة اللون مثل السود. وقد تمت كل معاملة سيئة من خلال تبريرات ومداخل أيديولوجية مختلفة، إن أبسط مثال لذلك: علاقات الرق في شكلها الحديث، والتي انبنت على علاقات اجتماعية أخذت طابعها من أيدولوجية التفوق السلالي للبيض، بالاضافة إلى بعض التفسيرات الأنطولوجية المتعلقة بنصوص دينية معينة. فلقد أعاد القادة المؤمنون بأسطورة “لعنة كنعان” وجمعوا مع العلماء المزيفين كل المناهج المتاحة عن الدونية السلالية واستكملوها؛ وكررت المدارس المتناثرة ودورياتها الأساطير واعتبرتها أساسا للتفسير. وعلى هذا تم بناء بعض التصورات الإنسانية والعلوم التي تبرر استرقاق الأفارقة.” لقد ناضل السود زرافات ووحدانا، وقاتلوا من أجل تغيير المكانة الاجتماعية التي وضعو فيها بسبب هذه التصورات. ولأجل هذا الغرض ظهرت العديد من الأفكار والاتجاهات، وكذلك ظهر عدد كبير من القادة والمفكرين، والذين كان فرانز فانون من بين الأبرز فيهم والأكثر تأثيرا في عملية بناء سردية تحرر السود – وكل معذبو الأرض – السياسي والاجتماعي، والأهم تحررهم الذهني.
يقول فانون: إن إزالة اغتراب (disalienation) الانسان الأسود بشكل فعال ينطوي على اعتراف فوري بالوقائع الاجتماعية والاقتصادية. (و)إذا كانت هناك عقدة نقص/عقدة دونية، فهي نتيجة عملية مزدوجة: – اقتصادية في المقام الأول؛ – بعد ذلك، الاستبطان (internalization) – أو بتعبير أفضل – البشرنة لهذه الدونية.
وفي هذا الكتاب، جادل المؤلف بأننا “لسنا مطالبون فقط بالاهتمام بهذه العنصرية اللونية وما ينتج عنها من تمييز عنصري، بل والدخول في صميم التقسيمات الناتجة عن مثل هذه الممارسات لنعين خطوط التداخل بينها وبين باقي الميكانيزمات المؤثرة في عملية تحديد المكانة الاجتماعية. بما في ذلك الميكانيزم الاقتصادي. وأوضح من ثم، “أن على الانسان الأسود شن حربه على كلا المستويين (مستوى الفرد)، و(مستوى الجماعة). أي مستوى تأثيرات العامل الاقتصادي على الوضعية الطبقية للأفراد، ومن ثم مستوى تأثيرات العنصرية الممنهجة والتمييز اللوني المؤسسي على المكانة الاجتماعية للجماعات السوداء وقدراتها التنافسية. ذلك باعتبار أن العرق لطالما اعتبر محددا للمكانة، حيث لونت (مريلة الخدم) باللون الأسود خلال قرون طويلة.”
“وبالكاد أثرت القيود التي فرضها الانتاج الصناعي على الاطار الاجتماعي والثقافي للمجتمعات في أوروبا والأمريكتين، حيث قاسى السود أوضاعا صعبة. وحيث بدا أيضا، أن الاستجابة الفكرية للنظام الاجتماعي الجديد (الرأسمالي)، كان بطيئا، بحيث لم يكن سهلا بلورة وعي طبقي وحراك حقوقي مشترك بين السود والبيض الأنغلوساكسون الذين لم تكن حراكاتهم قاصرة على السلوكيات الطبيقة أو الاقتصادية. لقد جعلت الميول البيورتانية (النقاء) العمال البيض رافضين لمساواتهم بالعمال السود، ودفعت نفس هذه الاتجاهات والتصورات أصحاب وملاك الشركات والمصانع إلى تخصيص الأعمال التي تحتاج إلى قوة بدنية هائلة للسود دون غيرهم. اللهم إلا إن كان الايرلنديين. لقد أثرت هذه الاتجاهات والمشاعر القومية في طبيعة الموجة الأولى من ثورات السود في العالم الجديد، والتي لم تكن محكومة بنقد المجتمع الغربي، ولكنها كانت محكومة بالرفض الكامل لتجربة الرق والعنصرية. ونظرا لأنهم كانوا أكثر حرصا على الحفاظ على الماضي منهم على تحويل المجتمع الغربي أو الإطاحة بالرأسمالية (الناشئة وقتها) فقد أسسوا مستوطنات الهاربين وأصبحوا خارج المجتمع، وحاولوا ان يجدوا طريقة للعودة إلى إفريقيا، حتى إذا كان ذلك يعني فناءهم.”
إن مكانة العرق في فكر المؤلف تتجلى في أنه عمل كل جهده الفكري والفلسفي والعلاجي لاعادة الاتزان للانسان الأسود، على الأقل عبر تخليصه من عقدة الذنب المصطنعة وأسطورة اللعنة التي قيد بها. إن فانون يكاد يكون فيلسوف المطرقة التي كسرت الصور النمطية والتمثلات التي خلقتها أوروبا حول الإنسان الأسود. حيث الذي يقوم بالتعذيب هو الرجل الأسود، الشيطان أسود، يتحدث المرء عن الظلال، عندما يكون المرء قذرا فهو أسود – سواء كان المرء يفكر في القذارة الجسدية أو الأخلاقية. ولقد أبان المؤلف في هذا الكتاب (معذبو الأرض)، أن الانسان الأسود، وبهذه الكمية الهائلة من التمثلات المجحفة في حقه، والتي من ثم وضعت له إطارا لا يجب أن يخرج منه، إنما هو ضحية حضارة أوروبا. لأنه وإن بدا عصابيا وغارقا في الفصامية فهو نتيجة وأثر لفعل ما.. إنه بلا شك فعل أوروبا. لكن في كل الأحوال، لا يجب على هذا الانسان الأسود انتظار العلاج من أوروبا نفسها التي هي مائتة لا محالة وذاهبة نحو الهاوية: إن عليه اطلاق ثورته التحررية ونضاله ضدها.
وللأمانة، لم يكن مؤلف الكتاب يقدم العرق على الطبقة أو العكس، ولكنه، وبخلاف كل الماركسيين – الكلاسيكين على الأقل – كان يضع اعتبارا كبيرا لتأثيرات كل منهما على عملية حيازة السلطة والوضعية الاجتماعية، ويمتد هذا التأثير ويصل احيانا لدرجة إمكانية إنقلاب البنيتين الفوقية والتحتية رأسا على عقب. على الأقل حيث تمارس العنصرية المؤسسية وحيث “المستعمرات، والطابع الذي يطبع النظام فيها، وهو أن الوقائع الاقتصادية، هو أن الفروق الاقتصادية والتفاوت الكبير في طراز المعيشة، لا تستطيع أبدا أن تحجب الوقائع الإنسانية. فحينما يتم ادراك النظام الاستعماري في واقعه المباشر، نلاحظ أن ما يقسم العالم إنما هو أولا انتساب المرء أو عدم انتسابه إلى نوع معين، إلى (عرق) معين. إن البنيان التحتي الاقتصادي هو في المستعمرات بنيان فوقي أيضا. السبب هنا نتيجة: المرء غني لأنه أبيض، وأبيض لأنه غني. لذلك كان على التحليلات الماركسية أن تخفف من حدتها قليلاً حين تعالج مشكلة المستعمرات…”، وربما حتى البلدان التي شهدت أشكال التمييز العنصري الممنهج والمؤسسي.
ثالثا – الاستعمار
مثل الاستعمار الإنحراف الإنساني الأكبر بعد ظاهرة الرق. وبالنسبة إلى مؤلف كتاب معذبو الأرض، فإن الاستعمار لم يكن شيئا طبيعيا منذ البداية ولم يكن من المتوقع أن يقود إلى نتائج طبيعية في النهاية. لقد كان – الاستعمار – تجريدا للمستعمر من إنسانيته. لقد عد المستعمر حيوانا. ويقول المؤلف: “أنظر إلى اللغة التي يتكلمها المستعمر حين يتكلم عن المستعمر، تجد أنها اللغة المستخدمة في وصف الحيوانات: إنهم يستعملون هذه التعابير: زحف العرق الأصفر، أرواث المدينة الأصلية، قطعان الأهالي، تفريخ السكان، تنمل الجماهير، الخ. إن المستعمر حين يريد أن يحسن الوصف وأن يجد الكلمة المناسبة، يرجع دائما إلى الألفاظ المستعملة في وصف الحيوان”. إن الاستعمار تنزيحا وجوديا، لأنه يقوم على تبرير “أن المستعمر “الشيء” ليس له ماهية”. حيث لم تكتفي الأيديولوجياالاستعمارية بوصف المجتمع المستعمر بأنه خال من القيم. إن المستعمر لا يكتفي بالقول إن القيم قد نزحت عن المجتمع المستعمر، أو أنها لم توجد فيه يوما. إنما هو يعلن أن السكان الأصليين لا سبيل لنفاذ الأخلاق إلى أنفسهم، وإن القيم لا وجود لها عندهم، بل إنهم إنكار للقيم، أو قل إنهم اعداء للقيم”.
لقد جادل المؤلف – والحقيقة في أكثر من كتاب – بأن الاستعمار كسياسة استغلالية، لم يكن ليبدو ممكنا ما لم يعطى مبررات أيديولوجية. لذلك أحالنا في هذا الكتاب إلى حديث مسيو ماير في (الجمعية الوطنية الفرنسية)، ويقول مسيو ماير: “إن عادات المستعمر وتقاليده وخرافاته، خاصة خرافاته، هي بعينها علامة هذا الانحطاط وهذا الفساد القائم في تكوينه ذاته. ولذلك يجب أن نضع على مستوى واحد مبيدات الحشرات التي تنقل الأمراض، والدينانة المسيحية التي تحارب الهرطقات والغرائز في مهدها”.
وأخيرا، اعتقد مؤلف الكتاب أن الاستعمار بناءا اجتماعيا مختلا. “فالعالم الذي يسوده النظام الاستعماري هو عالم مقسم”. وهو عالم يقوم على خطوط وهمية ترسخ التمايزات التي بين المستعمر والمستعمر. ف”هناك مدنا للسكان الأصليين ومدنا للأوروبيين. إن هناك مدارس للسكان الأصليين ومدارس للأوروبيين”. إن كل شيء في عالم الاستعمار يحمل توكيدا على أنه، عالما “منقسما إلى عالمين. والخط القاسم، أو الحدود الفاصلة، إنما هي لثكنات ومراكز الشرطة.” ولا تشابه بين عالمي المستعمر والمستعمر ولا مناطق سكنهما. ف”المنطقة التي يسكنها المستعمرون لا تكمل المنطقة التي يسكنها المستعمرون. إن هاتين المنطقتين تتعارضان، ولكن لا في سبيل وحدة أعلى. إنهما تخضعان لمنطق أرسطي صرف، إنهما تخضعان لمبدأ التنافي المتبادل..”.
رابعا – تصفية الاستعمار
أخذ المؤلف مكانته الرائدة في الفكر التحرري بما خطه في هذا الكتاب من فرضيات تعكس الضرورات الأخلاقية والسياسية لتصفية الاستعمار. وبحسب فانون، فإن تصفية الاستعمار، وبما تجلبه من فرص لخلق علاقات اجتماعية وسياسية واقتصادية جديدة بين المستعمر والمستعمر، هو مدخل لتاريخ مغاير. ذلك “لأن أناسا مشاهدين يسحقهم أنهم ليس لهم ماهية، يأتي محو “تصفية” الاستعمار هذا فيحيلهم أناسا فعالين ممتازين يدخلون تيار التاريخ دخولا رائعا”. وبحسب المؤلف، فإنه لا سبيل لتوكيد علاقات إنسانية معقولة إلا بتصفية الاستعمار، “لأن تصفية الاستعمار يبث في الوجود ايقاعا خاصا يجيء به الرجال الجدد، ويحمل إلى الوجود لغة خاصة وإنسانية جديدة”. ولا سبيل أيضا لاستعدال القيم إلا بالتحرر من الاستعمار. لأن “محو “تصفية” الاستعمار، وهو يستهدف تغيير نظام العالم، إنما هو، كما ترون، برنامج لقلب النظام قلبا مطلقا”. إن المستعمر حين يسعى لتصفية الاستعمار، فإنه يعمل على أخذ مكانته الطبيعية. “لذلك فإن كل محو “تصفية” للاستعمار هو من ناحية الوصف نجاح”.
خامسا – البرجوازية الوطنية والاستعمار الجديد
عرف المؤلف فئة البرجوازية الوطنية: بأولئك المثقفين “الذين يتصفون بالبراعة والمكر والحذق في تحقيق أغراضهم الشخصية”. لقد لعبت هذه البراجوازية الوطنية أدوارا مختلفة في أزمنة مختلفة، والواقع، أن المؤلف يعتقد أن هذه الفئة لم تلعب دورا حقيقيا أثناء الثورة التحررية، ولن تلعب أدوارا ايجابية بعده أو أثناء الاستقلال الوطني، ذلك بحكم “أنماط السلوك وأشكال التفكير التي التقطوها من معاشرتهم للبرجوازية الاستعمارية”. ف”لقد كانوا للاستعمار أبناءه المدللين، وهم الآن للسلطة أبناءها المدللون أيضا، ينهبون الموارد الوطنية نهبا، ويندفعون إلى الإثراء بالصفقات والسرقات المشروعة اندفاعا لا يعرف الرحمة، عن طريق الاستيراد والتصدير، والشركات المغفلة، ومضاربات البورصة، والرشوة
لقد نظر مؤلف الكتاب للبرجوازية الوطنية في اطار علاقتها بالسلطة. وإذا كانت السلطة في فكره، هي مجرد أداة سياسية وليست غاية في ذاتها، فإنه لا ينبغي على أولئك الذين يسعون للتحرر الوطني، النظر إلى (من) يمتلك تلك السلطة، بل الاهتمام (بكيف) يتم توظيفها طبقيا ومصلحيا. فالحاكم الوطني والمستعمر (سيان) إذا ما وظف الوطنيين السلطة لمصلحة فئة صغيرة في المجتمع. إن إشكالية البراجوازية الوطنية في اعتقاد المؤلف، تكمن، في أنها تطالب “في إلحاح أن تكون الأعمال التجارية في أيدي أبناء الأمة وحدهم. ومعنى ذلك عندهم أن تحصر سرقة الأمة في أبناء الأمة”.
مثلت صناعة البرجوازية الوطنية واحدة من استراتيجيات الاستعمار الجديد. ووصف فانون الاستعمار الجديد بقوله: “إن القصف بالمدافع وسياسة الأرض المحروقة، قد حلت محلهما الآن سياسة الإخضاع الاقتصادي. إن الاستعماريين لا يخوضون الآن حربا تأديبية ضد السلطان المتمرد. إنهم الآن أكثر لباقة، وأقل دموية”. بمعنى آخر، يشير الاستعمار الجديد، إلى سياسات مغايرة للحفاظ على استمرارية مصالح القوى الاستعمارية. وتلعب البرجوازية الوطنية، عبر الأحزاب السياسية التي تقودها، دور الشريك الذي يبحث مع المستعمر “في جو هادئ لا تعكره العواطف عن حل يكفل مصالح الطرفين”. إن مصلحة الاستعمار تتمثل في بقاء قدرته على نهب الثروات المحلية وتتبيع الدول في ظل استقلال صوري وعلاقات سلطة أو توازنات قوى غير متكافئة. هذا، بينما تكمن مصلحة البرجوازية الوطنية في الحظوة والامتيازات القليلة التي تنالها بحلها محل الحكم الاستعماري.
إن النهاية الطبعية لسياسة البرجوازية الوطنية وممارستها، تنتجان، إذا ما دانت لها السيطرة على الحكم الوطني، بؤسا وطنيا وشقاءا لأغلبية الشعب الذي ناضل من أجل تحرره الذاتي، بينما تتمتع فئة محلية صغيرة بثمرة الاستقلال الوطني.
وأخيرا, في عالم كانت أصداء الاستعمار تتردد في جنباته، مثل فرانز فانون صوت المهمشين، المضطهدين، والتابعين. وأراد بكتابه (معذبو الأرض)، كتابة التاريخ من أسفل، أو إظهار فاعلية المستعمر وتأكيد ذاتيته. لقد أحدث هذا الكتاب، ثورة على مستوى الفكر التحرري، واعتبر مدخل لنسف إدعاءات الاستعمار وسياسات القوى الاستعمارية.
كاتب ومؤلف سوداني.