أبعاد إغلاق السودان حدودَها مع جمهورية إفريقيا الوسطى

من خلال تجربة القوات المشتركة السودانية التشادية يمكن القول بأن كلًّا من السودان وجمهورية إفريقيا الوسطى بحاجة إلى إنشاء قوات مشتركة أو توقيع برتوكول أمنى تُوضَّح فيه مهام واختصاصات هذه القوات وتبادل رئاستها كل عام بين البلدين. وقد تتخذ هذه المبادرة طرقا أو سيناريهات مختلفة.

يعتبر المثلث الحدودي بين السودان وتشاد وجمهورية أفريقيا الوسطى من أهم مناطق دارفور من حيث حركة التجارة وعبور البضائع والمنتجات. ويمكن فهم التطورات الأخيرة الخاصة بهذه المنطقة الحدودية من خلال عرض موجز للأزمة الجارية في جمهورية إفريقيا الوسطى واتهام “محمد حمدان دقلو” نائب رئيس مجلس السيادة السوداني جهات بمحاولة تغيير النظام في جارتها وتجربة القوات المشتركة بين السودان وتشاد.

وفيما يتعلق بجمهورية أفريقيا الوسطي؛ فقد شهدت صراعات مختلفة في السنوات الأخيرة أثّرت في علاقاتها وحدودها مع جيرانها. ولعل أبرز هذه الصراعات ما وقعت في ديسمبر 2012 عندما انغمست البلاد في انتفاضة من قبل القوات المتمردة التي أدانت حكومة الرئيس “فرانسوا بوزيزي” بدعوى عدم احترامها لاتفاقات السلام بعد حرب عام 2007. وقد فرّ “بوزيزي” في 24 مارس 2013 إلى الكاميرون, بينما أعلن “ميشيل دجوتوديا” نفسه رئيسًا للبلاد وأصبح بذلك أول مسلم يتولى المنصب الرئاسي (خدم دجوتوديا قبل الرئاسة وبعد اتفاق يناير 2013 كنائب أول لرئيس الوزراء للدفاع الوطني). ومع ذلك اتسمت فترة رئاسة “دجوتوديا” للبلاد بتصاعد العنف الطائفي، واضطرّ في النهاية إلى الاستقالة في 10 يناير 2014 بعد ضغوط من قبل القادة الإقليميين.

وقد تطورت الأزمة إلى مواجهة مسلحة بين مليشيا “أنتي بالاكا” المسيحية الموالية للرئيس “فرانسوا بوزيزي”، ومليشيا “سيليكا” المسلمة الموالية للرئيس “ميشيل جوتوديا”, مع دخول الأزمة منعطفات مختلفة منذ ذلك الوقت. وفي العام 2020 جرت الإنتخابات الرئاسية والتشريعية في جمهورية أفريقيا الوسطى وتمكّن خلالها الرئيس الحالي “فوستين ارشانغ تواديرا” – الذي تسيطر حكومته على ثلث مساحة البلاد – من الفوز بولاية رئاسية ثانية، وذلك بعد حصوله على 53 في المئة من الأصوات في اقتراع أجري وسط مقاطعة وحصار عسكري فرضته المليشيات والفصائل المعارضة للحكومة على العاصمة بانغي. وهناك مواجهات محتدمة في ديسمبر 2020، إثر قرار محكمة الدولة الدستورية إبعاد الرئيس الأسبق “بوزيزي” وغيره من السباق الرئاسي بدعوة تورطهم في جرائم حرب وقضايا دستورية أخرى, وهو ما أثار غضباً واسعاً لدى الفصائل المسلحة المعارضة للحكومة. فأعلن قادة هذه الفصائل المسلحة المسيطرون بحكم الأمر الواقع على معظم أراضي الدولة الإندماج وتشكيل تحالف تحت اسم “تحالف الوطنيين من أجل التغيير”, حيث دعا هذا التحالف إلى تأجيل الإنتخابات في وقت وسّع فيه من عملياته العسكرية مضيقاً الخناق على الحكومة عبر الاستيلاء على أربعة مدن إستراتيجية.

على أن الرئيس “فوستان آرشانج تواديرا” استعان بالروس لحمايته والحفاظ على حكومته مقابل السماح لهم بالتنقيب في البلاد، إضافة إلى تقارير بأن هؤلاء الجنود الروس استغلوا التقدم التكنلوجي بضرب مقاتلي حركة “سيليكا” مما أدى إلى تراجع الحركة واختفاء دورها من المشهد بجمهورية أفريقيا الوسطى. وهناك اعتقاد بأن الحركة كانت في مرحلة إعادة ترتيب الصفوف للعودة من جديد, وخاصة أن تقارير من جمهورية إفريقيا الوسطى ذكرت وجود عمليات تشمل قوات الدعم السريع وجيش جمهورية إفريقيا الوسطى ومجموعة “فاغنر” ضد الجماعات المتمردة في المنطقة الحدودية مع السودان وشمال جمهورية إفريقيا الوسطى حيث يتمركز أيضًا متمردين تشاديين.

إغلاق السودان حدودها مع جمهورية أفريقيا الوسطى

اتهم نائب رئيس مجلس السيادة السوداني، “محمد حمدان دقلو” – المعروف بـ “حميدتي” – في 2 من يناير 2023، جهات داخلية في السودان بالشروع في مخططات لتغيير النظام في جمهورية أفريقيا الوسطى التي يمتد طول حدودها مع السودان 108 أميال. وأشار “حميدتي” أن جهات ارتدت زي الدعم السريع وعملتْ على تغيير النظام الأفرو-وسطي من داخل الحدود السودانية، وذلك بحشد عسكريين سابقين وقوات من عدة قبائل لتنفيذ المخطط. وقد أكّد “حميدتي” أيضا كشف المخطط واعتقال الضالعين فيه، حيث قال إن هذه القوات تجمعت في منطقة “أم دافوق” في ولاية جنوب دارفور.

وفي حين يرى “حميدتي” أن هذه المخططات تأتي ضمن محاولات البعض لزرع الفتن بين السودان وجمهورية أفريقيا الوسطي بإستخدام زي الدعم السريع؛ إلا أن تصريحاته تتوافق مع محاولات سابقة من مليشيات أفرو-وسطية يُعتقد أنها قد عادت من جديد وبتكتيك عسكري مغاير للمرات السابقة. وهناك من يتّهم مليشيا “سيليكا” باحتمال استخدامها لزي الدعم السريع وتنفيذها لأحداث منطقة” أم دافوق” التي قُتِل فيها 3 أشخاص، وكذلك أحداث منطقة “بليل” الأخيرة.

وقد أعلن “حميدتي” إغلاق حدود السودان مع جمهورية إفريقيا الوسطى وفتح معسكرات لضبط ورقابة حدود البلدين – درءا للفتنة والحفاظ على حسن الجوار وتفادي جرّ السودان في أزمة جمهورية إفريقيا الوسطى. ومع ذلك, تذكّر هذه التطورات بتجربة القوات المشتركة السودانية التشادية وكيف يمكن استنساخها في حالة الحدود مع جمهورية إفريقيا الوسطى.

تجربة القوات المشتركة بين السودان وتشاد

تاريخياً يعتبر إقليم دارفور مسرحاً لكل المعارضين لأنظمة الحكم في تشاد، حيث شهد تدريبات قوات “قوقوني عويدي” الذي استعان بامتداد قبيلته في السودان وقام بتدريبهم وتسللّهم إلى دارفور ثم سعى لتغيير نظام “حسين حبرى”. وكذلك الرئيس التشادي السابق “إدريس ديبي” الذي انطلق من دارفور واستولى على الحكم في بلاده، حيث ساعده في ذلك نظام “البشير” قبل أن تسوء علاقتهما ودعم كل منهما (أي البشير وديبي) المعارضة للتأثير في بلديهما، وعلى أثر ذلك وصلت المعارضة التشادية في العام 2008 عاصمة تشاد وحاصرت القصر الرئاسي لمدة 3 أيامٍ جرت فيها المفاوضات بين المعارضين التشادين والنظام الفرنسي. وفي حين ساعدت فرنسا الرئيس “ديبي” للتغلب على خصومه المعارضين في تلك الأزمة؛ فقد توصّل النظامان السوداني والتشادي إلى توقيع برتوكول أمني وعسكري في منتصف يناير 2010 الذى نصّ على إنشاء القوات المشتركة السودانية التشادية.

وقد نجحت تجربة إنشاء القوات المشتركة السودانية التشادية في عدة نواحٍ, منها: أنها ساعدت على حفظ الأمن في كلا البلدين وعلى إثرها أُغلِق الحدود بين البلدين مما قلّل من الحراك المسلح للمعارضين والمدعومين من أحدي النظامين تجاه الآخر انطلاقا من دارفور.

وقد ساهمت مبادرة القوات المشتركة السودانية التشادية أيضا على تعزيز تجارة السكان المحليين وتفاعلهم الاقتصادي نتيجة لتوفّر الأمن والاستقرار النسبي. كما أن إنشاء هذه القوات سهّلت عمليات القبض على المتفلتين, وتؤكد على هذا حادثة سرقة الإبل الأخيرة بين السودان وتشاد. بالإضافة إلى أن المبادرة أدت إلى وجود بوابات محددة لحركة المواطنين, مما يجعل دونها تفلتاً وبالتالي سهولة الإدارة والتعامل الأمني.

ومع ذلك, واجهت تجربة القوات المشتركة بين السودان وتشاد انتقادات, منها:

أ. ضعف الرقابة على هذه القوات مما يشجعها على الفساد وأخذ “ضرائب” خارج الأطر القانونية، وهو ما يحجم من دور الأفراد في ممارسة الأنشطة التجارية. ويمكن تدارك هذا الضعف عبر تعاون استخباراتي عسكري مشترك مهمته رصد مثل هذه المخالفات.

ب. تدخّل هذه القوات في مسائل تختص بالإدارة الأهلية السودانية. وقد عزّز هذا عدم تواجد شبكة اتصالات تربط سكان هذه المناطق الحدودية مع السودان. ويمكن معالجته بإيصال شبكة الهواتف النقالة للتبليغ الفوري وربط الإدارة الأهلية السودانيه بزعاماتها على مستوي مركز الولاية والعاصمة القومية.

ج. الفساد الأخلاقى لهذه القوات حيث اشتكى سكان المناطق الحدودية من انتهاكات هذه القوات لأعراضهم. ويمكن معالجته من خلال الرقابة وإنشاء دور محاكم القضاء المدني والعسكري والمستشفى حتى يتم الحدّ من مثل هذه الحالات والكشف عنها وإحالتها للقضاء فوراً.

وعلى الرغم من السلبيات سابقة الذكر والتي يمكن معالجتها؛ إلا أن تجربة القوات المشتركة بين السودان وتشاد ساعدت في الاستقرار النسبي بين حدودي البلدين كما جنبتهما تُهَم متبادلة حول تهديد الأمن القومي ومساعي قلب نظام أحدهما الآخر. بل وساهمت هذه التجربة في تعزيز علاقات البلدين وتبادل الزيارات والتي آخرها في يوم الأحد الماضي (29 يناير 2023) عندما اتفق زعماء المرحلة الانتقالية السودانية والتشادية على ضرورة تعزيز القدرة العملياتية للقوة التشادية السودانية المشتركة لمواجهة التحديات الأمنية التي تزداد تواترا في المنطقة الحدودية بين البلدين, كما شدّدا على إقامة “علاقات مباشرة ومستمرة” وتبادل المعلومات والاستخبارات بين الأجهزة الأمنية, إلى جانب مناقشة المخاوف التشادية الفرنسية بشأن الوجود الهائل لقوات الدعم السريع على طول الحدود مع جمهورية إفريقيا الوسطى.

أبعاد إغلاق الحدود من الجانب الأحادي السوداني

يرى البعض أن نائب رئيس مجلس السيادة “حميدتي” غير موفق في قرار إغلاق حدود السودان مع جمهورية إفريقيا الوسطى منفردا, حيث اتهمت جمهورية إفريقيا الوسطى جارتها السودان بإرسال مقاتلين لزعزعه استقرارها، وهي تهمة نفاها قائد الجيش السوداني “عبد الفتاح البرهان” أثناء خطابه في مهرجان الرماية 56 بمدينة الدمازين. ومن خلال التهم الموجهة للسودان تتضح أهمية إشراك قوات جمهورية إفريقيا الوسطى في إغلاق الحدود حتى تكون حكومته على علم تام بما يجري في الشريط الحدودي، وذلك لتفادي دخول السودان في صراع مع جمهورية أفريقيا الوسطى أو ورود اتهامات مماثلة في المستقبل بزعزعة أمنها أو محاولة تغييرها نظامها.

ومن خلال تجربة القوات المشتركة السودانية التشادية يمكن القول بأن كلًّا من السودان وجمهورية إفريقيا الوسطى بحاجة إلى إنشاء قوات مشتركة أو توقيع برتوكول أمنى تُوضَّح فيه مهام واختصاصات هذه القوات وتبادل رئاستها كل عام بين البلدين. وقد تتخذ هذه المبادرة طرقا أو سيناريهات مختلفة وفق ما يلي:

السيناريو الأول: أن تقوم القوات السودانية بتأمين حدودها منفردةً لفترة من الزمن (قد يكون لمدة عامين كاملين على وجه التقدير). وهذا ما يُتَوقّع حدوثه أولاً نظرا لإعلان إغلاق الحدود من الجانب السوداني.

السيناريو الثاني: أن تطلب جمهورية أفريقيا الوسطى من السودان توقيع بروتوكول أمني لنشر قوات على الشريط الحدودي بينهما. وقد يحدث هذا السيناريو بعد انقضاء العامين المذكورين في السيناريو الأول، حيث تقوم جمهورية أفريقيا الوسطى خلال هذه الفترة بالتجنيد الوطني لقلة عدد جيشها الذي لا يكفي لحمايتها من المليشيات الداخلية فضلا عن تأمين حدودها مع السودان.

السيناريو الثالث: أن يتفق الجانبان السوداني والأفرو-وسطي على إنشاء قوات مشتركة بعد البروتوكول الأمنى خلال عامين من الآن. وهذه الخطوة ستعيد الثقة بين السودان وجمهورية إفريقيا الوسطى وستعزز العلاقة بينهما, كما أنها ستجعلهما مسؤولين على إدارة حدودهما وما يجري فيها.

هذا, وبالرغم من السيناريوهات السابقة إلا أنه قد لا يحدث أي تعاون أمني بين السودان وجمهورية إفريقيا الوسطى نظرا لحقيقة أن نظام الرئيس الأفرو-وسطي الحالي يعتمد على المرتزقة الأفارقة والروس لتأمين بلاده, حيث انهارت المؤسسة العسكرية الوطنية في البلاد.

الخاتمة

من خلال ما سبق يتضح أن جمهورية أفريقيا الوسطى لا تزال تواجه أزمات أمنية متعددة الأوجه والأسباب, وأن هذه الأزمات بدأت تهدد علاقاتها مع الجيران. ويمكن القول أيضا إن منافسة القوى الخارجية في جمهورية إفريقيا الوسطى لا تزال محتدمة حيث تستمر رغبة الفاعلين الدوليين للتحكم في البلاد من أجل مصالحها. وفيما يتعلق بحدودها مع السودان, فإن القرار الأحادي من السودان سيزيد من انعدام الثقة بينهما وتبادل التهم بدعم المتمردين لزعزعة استقرار بعضهما البعض. وبالتالي سيكون الأفضل للسودان استنساخ تجربتها مع تشاد في هذه الحالة الأفرو-وسطية أو على الأقل إشراكها في القرارات والتطورات الأمنية المرتبطة بهذه الحدود.

- باحث في الدراسات الأمنية والإستراتيجية.
- عضو اللجنة العلمية للخبراء والمختصين والمهتمين بدراسات البحر الأحمر – السودان.
- حاصل على دكتوراة في التخطيط الاستراتيجي من جامعة أم درمان الإسلامية, أم درمان - السودان.