أزمة شرق الكونغو الديمقراطية: أسبابها وأطرافها وجهود حلّها
في حين يرى البعض أن الحل الوحيد للأزمة تنفيذ الاتفاقيات مع الجماعات الموقعة بين الحكومة والجماعات المتمردة؛ فقد كان موقف الآخرين أن للعقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة على الأفراد أثرا ضعيفا مع تردد الدول الغربية في فرض عقوبات على رواندا، وأن الحل بيد كيغالي من خلال وقف دعمها لـ “حركة إم 23”.
تقع جمهورية الكونغو الديمقراطية في وسط أفريقيا، حيث يحدها في الغرب الساحل الأطلسي القصير وجيب كابيندا الأنغولي، وجمهورية الكونغو (برازافيل)، وتحدها من الشمال جمهورية أفريقيا الوسطى وجنوب السودان، ومن الشرق أوغندا ورواندا وبوروندي وتنزانيا، وفي الجنوب الشرقي زامبيا، وفي الجنوب الغربي أنغولا، وإلى الغرب يوجد الساحل الأطلسي القصير للبلاد.
وتعدّ الكونغو الديمقراطية ثاني أكبر دولة في قارة إفريقيا (بعد الجزائر). وتقع عاصمتها كينشاسا على نهر الكونغو على بعد حوالي 320 ميلاً (515 كم) من مصبّه. وتتمتع البلاد بموارد طبيعية استثنائية، بما في ذلك المعادن مثل الكوبالت والنحاس، وإمكانات الطاقة الكهرومائية، والأراضي الكبيرة الصالحة للزراعة، والتنوع البيولوجي الهائل، وثاني أكبر غابة مطيرة في العالم.
وتشهد الكونغو الديمقراطية منذ استقلالها عن بلجيكا في عام 1960 حالات عدم الاستقرار الناتجة عن المعارك على السلطة، والتي بلغت ذروتها باغتيال الزعيم “باتريس لومومبا” والحكم العسكري الذي دام ثلاثة عقود تحت قبضة عهد “موبوتو سيسي سيكو”. وفي السنوات الأخيرة تصاعدت أعمال العنف والتي تشمل الاشتباكات بين الجماعات المسلحة على الأراضي والموارد الطبيعية، وعمليات القتل خارج نطاق القضاء على أيدي قوات الأمن، والعنف السياسي. وقد استقطبت الأزمة في شرق الكونغو الديمقراطية أكب الاهتمام في الشهور الأخيرة، حيث تشارك فيها عدة جبهات مسلحة وأطراف إقليمية، بما في ذلك رواندا وأوغندا المجاورتان. و قد أدت أعمال العنف والقتال إلى نزوح أكثر من 1.6 مليون شخص خلال العامين الماضيين.
أسبابها
تعود أزمة شرق الكونغو الديمقراطية إلى الإبادة الجماعية في رواندا عام 1994، حيث أعمال العنف واسع النطاق وحملة الإبادة ضد توتسي والمعتدلين من الهوتو دفعتا مليوني شخص إلى جمهورية الكونغو الديمقراطية المجاورة، واستقر معظمهم في مخيمات اللاجئين في مقاطعتي شمال كيفو وجنوب كيفو. وكانت مجموعة صغيرة من الروانديين الذين دخلوا الكونغو الديمقراطية من متطرفي الهوتو وبدأؤا تنظيم الميليشيات داخل الكونغو الديمقراطية.
أدى ما سبق إلى وقوع حرب الكونغو الأولى في عام 1996، حيث غزت رواندا وأوغندا شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية في محاولة للقضاء على مرتكبي الإبادة الجماعية المتبقين الهاربين. وهذه المحاولة تزامنت مع انهيار الكونغو الديمقراطية نتيجة حكم موبوتو سيسي سيكو. وبالفعل تمكّن تحالفٌ مؤلّف من الجيشين الأوغندي والرواندي، إلى جانب زعيم المعارضة الكونغولية لوران ديزيريه كابيلا، من هزيمة موبوتو، وأصبح المعارض السياسي لوران كابيلا في مايو 1997 رئيسًا للكونغو الديمقراطية.
وقعت حرب الكونغو الثانية في عام 1998، حيث طلب لوران ديزيريه كابيلا من القوات الرواندية والأوغندية مغادرة شرق الكونغو الديمقراطية خوفًا من سيطرتهما على الإقليم الغني بالمعادن وضمّهما إياها إلى أراضيهما. وهذا القرار سمحت لجماعات الهوتو المسلحة بتنظيم نفسها على الحدود مرة أخرى، لترد رواندا بغزو الكونغو الديمقراطية بهدف معلن متمثل في إنشاء منطقة في المناطق الحدودية تسيطر عليها القوات الرواندية الخاصة لخلق مسافة أكبر من مليشيات الهوتو في شرق الكونغو الديمقراطية. وقد شارك في هذه الحرب أنغولا وناميبيا وزيمبابوي وإريتريا والسودان.
في عام 2001 اغتِيل الرئيس كابيلا وقُتِل، وعيّن ابنه جوزيف كابيلا رئيسًا للكنغو الديمقراطية. ووُضِعت سلسلة من الاتفاقات لتهدئة الأوضاع، بما في ذلك اتفاق أبريل 2002، واتفاق بريتوريا في يوليو 2002 بين رواندا والكونغو الديمقراطية، واتفاق لواندا بين أوغندا والكونغو الديمقراطية والذي أنهى الحرب رسميا حيث تولت الحكومة الانتقالية للكونغو الديمقراطية السلطة في البلاد في يوليو 2003. وتشمل الاتفاقات أيضا دمج بعض الحركات المسلحة في الجيش الوطني الكونغولي.
وفي عام 2008، تعاونت الكونغو الديمقراطية ورواندا للقضاء على “القوات الديمقراطية لتحرير رواندا” في مقاطعتي جنوب وشمال كيفو. كما أن رواندا اعتقلت زعيم “المؤتمر الوطني للدفاع عن الشعب” (CNDP)، و وضعته تحت الإقامة الجبرية كجزء من اتفاق كيغالي مع الكونغو الديمقراطية. بيما الفصيل المنشق من “المؤتمر الوطني للدفاع عن الشعب” والمفترض أن يندمج في الجيش الوطني الكونغولي تحوّل إلى جماعة متمردة جديدة باسم “حركة إم 23”.
أطراف الأزمة
تنشط أكثر من 200 جماعة متمردة مسلحة في شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية الغنية بالمعادن، ولكن أربعة حركات منها تعتبر الأكثر نشاطا في المنطقة، وهي:
- “القوات الديمقراطية لتحرير رواندا” (FDLR): هي جماعة متمردة مسلحة تنشط في شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية ومتكونة من إثنية الهوتو التي تعارض نفوذ التوتسي في رواندا. وتأسست نتيجة اندماج مجموعات من اللاجئين الروانديين في سبتمبر 2000، بما في ذلك “جيش تحرير رواندا” السابق (ALiR)، التي كانت نشطة في أواخر حرب الكونغو الثانية والصرعات اللاحقة في كيفو.
- قوات “المؤتمر الوطني للدفاع عن الشعب” (CNDP): والتي تأسست من قبل مقاتلين سابقين من “التجمع الكونغولي من أجل الديمقراطية” –غوما” (RCD-G). ومن خلال “المؤتمر الوطني للدفاع عن الشعب” خرجت “حركة إم23” (M23) التي تتكون بشكل رئيسي من إثنية التوتسي، وتقاتل الجيش الكونغولي بعنف من أجل السيطرة على “غوما” والمنطقة المحيطة بها منذ سنوات عديدة.
- “القوات الديمقراطية المتحالفة” (ADF): منظمة إرهابية تابعة لتنظيم داعش. وقد تأسست في عام 1996 في غرب أوغندا وزعمت في البداية أنها تقاتل من أجل إقامة دولة إسلامية في أوغندا حيث تتراوح نسبة بين 15 و35 بالمئة من السكان. وتوسعت لاحقا إلى الكونغو الديمقراطية المجاورة، حيث تنشط في مقاطعة شمال كيفو بالقرب من الحدود مع أوغندا. انقطعت الأخبار عن الحركة من عام 2001 حتى عام 2013 عندما عادت إلى الساحة لتواصل هجماتها الدامية إلى اليوم رغم جهود الجيش الأوغندي وحملات الجيش الكونغولي ضد مقاتليها.
- قوات “تعاونية تنمية الكونغو” (CODECO)، التي تأسست في عام 1999 خلال حرب الكونغو الثانية، وتنشط في مقاطعة إيتوري بشرق جمهورية الكونغو الديمقراطية. وقد بدأت كتعاونية زراعية قبل أن تنخرط في الدفاع عن إثنية ليندو بدعوى أن الإثنية خاضعة لهيمنة غير عادلة من إثنية هيما. وسكنت الأخبار عن الجماعة قبل أن تعود في عام 2017 بشن هجمات، حيث واصلت منذ ذلك مهاجمة المدنيين المحليين وقوات الجيش الكونغولي، إضافة إلى استهداف مناجم الذهب وغيرها.
تتهم “حركة إم 23” السلطات الكونغولية بالفشل في مكافحة متمردي الهوتو الروانديين في شرق الكونغو الديمقراطية، والجماعات المسلحة الأخرى التي تشكل تهديدا للتوتسي الكونغوليين. وتتبادل رواندا والكونغو الديمقراطية تهمة دعم جماعة مسلحة في المنطقة, وخاصة “حركة إم 23” التي تتهم الكونغو الديمقراطية والأمم المتحدة والولايات المتحدة دولةَ رواندا بدعمها.
رواندا وأوغندا والطمع في موارد الكونغو
لقد اتهمت تقارير كثيرة كلا من أوغندا ورواندا بزعزة اسقرار الكونغو الديمقراطية في محاولة للسيطرة على الموارد الطبيعية في المنطقة. وقد كان الذهب في قلب الخلاف عند الحديث عن أزمة شرق الكونغو الديمقراطية والمستفيدين منها خاصة بين أوغندا ورواندا والكونغو؛ إذ الذهب مصدر مهم للعملة الأجنبية لرواندا، والنسبة الكبرى من ذلك الذهب يأتي من شرق الكونغو. وبحسب ورقة بحث من الكونغو؛ كانت نسبة صادرات رواندا من الذهب الكونغولي قبل أن يبدأ تمرد “حركة إم 23” هي 1 في المئة فقط في عام 2014، وارتفعت النسبة إلى 47 في المئة في عام 2020. وفي أوغندا أيضا ارتفعت النسبة وبلغت ذروتها في عام 2021 عندما شكل الذهب 56 المئة من صادرات البلاد.
وقد أشار الكثير من الكونغوليين إلى أن تصرّفات رواندا في شرق الكونغو الديمقراطية توحي بأن كيغالي تعتبر المنطقة جزءا من منطقة نفوذها. وفي خطوة مفاجئة لرواندا أرسلت أوغندا قواتها إلى شرق الكونغو الديمقراطية في هجوم مشترك مع الجيش الكونغولي ضد متمردي القوات الديمقراطية المتحالفة في نوفمبر 2021. وفي وجهة نظر الكثير من المحللين كانت هذه العملية وخاصة تدخّل أوغندا ما أدى إلى ظهور “حركة إم 23” (وليس عدم تنفيذ اتفاقية السلام من قبل الحكومة الكونغولية كما تزعم الحركة).
تجدد الأزمة والجهود لحلها
نفّذت “حركة إم 23” في عام 2012 هجومًا كبيرًا على غوما واستولت عليها، ولكنها طُرِدت من قبل قوة قوات خاصة تابعة للأمم المتحدة، وعادت مرة أخرى في عام 2022 بهجمات مكثفة وفرض ضغوطات على المدينة وسكانها. وتنسب الحركة عودتها إلى عدم تنفيذ اتفاق السلام الذي تم التفاوض عليه، بما في ذلك دمج “حركة إم 23” في الجيش الكونغولي. وقد اضطر أكثر من 100 ألف مدني إلى الفرار، مع تقدّم مقاتلي “حركة إم23” المتمردة نحو غوما عاصمة مقاطعة شمال كيفو، على الحدود مع رواندا وأوغندا. كما أنه منذ فبراير 2023 احتدم القتال العنيف بين الجيش الكونغولي ومقاتلي “حركة إم 23”.
وقد استضاف الرئيس الأنغولي جواو لورينسو قمة مصغرة في أديس أبابا في فبراير الماضي لإحياء جهود السلام، حيث شارك فيه الرئيسان الكونغولي فيليكس تشيسكيدي والرواندي بول كاغامي، ورؤساء دول آخرون. ومع ذلك، يفيد تجدد الصراع إلى أن المؤتمر لم يترك سوى أثر ضئيل للحد من التوترات ودفع جهود إنهاء الأزمة.
أما “بعثة منظمة الأمم المتحدة لتحقيق الاستقرار في جمهورية الكونغو الديمقراطية” (MONUSCO) التي أنشأها مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في القرارين 1279 (عام 1999) و1291 (عام 2000) لمراقبة عملية السلام في حرب الكونغو الثانية؛ فقد بدأت عملية الانسحاب من البلاد في فبراير 2024، بعد طلب حكومة الكونغو الديمقراطية في عام 2023 من البعثة وقوات “مجموعة شرق إفريقيا” (East African Community) مغادرة البلاد. بل في حالة قوات “مجموعة شرق إفريقيا”؛ فقد غادرت البلاد بعدما قررت حكومة الكونغو الديمقراطية عدم تجديد ولاية القوة الإقليمية بعد انتهاء صلاحيتها في 8 ديسمبر 2023، حيث اتّهمها الرئيس فيليكس تشيسكيدي بعدم الفعالية والتواطؤ مع المتمردين.
وفي 15 ديسمبر 2023 نُشِرَت “بعثة الجماعة الإنمائية للجنوب الأفريقي في جمهورية الكونغو الديمقراطية” (SAMIDRC) في شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية، وتضم جنودًا من جنوب أفريقيا وتنزانيا ومالاوي. وبعد نشر البعثة تصاعدت المخاوف من أنها قد يدخل دول إفريقيا الجنوبية في صراع مباشر مع رواندا المتهمة بالسبب الرئيسي لأزمة شرق الكونغو الديمقراطية.
وفي حين يرى البعض أن الحل الوحيد للأزمة تنفيذ الاتفاقيات مع الجماعات الموقعة بين الحكومة والجماعات المتمردة؛ فقد كان موقف الآخرين أن للعقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة على الأفراد أثرا ضعيفا مع تردد الدول الغربية في فرض عقوبات على رواندا، وأن الحل بيد كيغالي من خلال وقف دعمها لـ “حركة إم 23”.
- باحث نيجيري مهتم بالتحولات السياسية والقضايا الاجتماعية والتنموية والتعليمية.
- حاصل على دكتوراه في الأصول الاجتماعية والقيادة التعليمية من الجامعة الإسلامية بماليزيا.