الأزمة السياسية في تنزانيا وانعكاساتها على الانتخابات العامة لعام 2025
تجد تنزانيا نفسها وسط تصاعد التوترات والانقسامات العميقة، غارقةً في أزمة سياسية حادة، ترددت أصداؤها في جميع أنحاء البلاد ولفّتت الاهتمام الدولي. وقد شكلت هذه الأزمة، التي تمتد جذورها إلى تاريخ معقد من الديناميكيات السياسية والأحداث السياسية الأخيرة، تحديا كبيرا لهيكل الحكم والمبادئ الديمقراطية في البلاد، ما قد يخلف آثارا بعيدة المدى على الانتخابات المقبلة. ومع تصاعد التوترات والشكوك التي تظهر في الوسط، تخضع ديناميكيات مشاعر الناخبين، والعمليات الانتخابية، والحكم الديمقراطي، لتحولات عميقة محتملة. فبناء على هذا، تتناول السطور التالية تحليل كيف يمكن لهذه الأزمة السياسية المستمرة أن تؤثر على نتائج الانتخابات في تنزانيا.
المشهد السياسي في تنزانيا
تشتهر تنزانيا بالحياة البرية الوفيرة والمناظر الطبيعية الخلابة، وتتميز بمشهدها السياسي المتنوع، بحيث قد شهدت البلاد العديد من التحولات والتطورات السياسية التي أثرت على وضعها الحالي منذ عصر ما قبل الاستقلال إلى يومنا هذا. ولقد سلكت تنزانيا بعد الاستقلال في عام 1961، نهجا اشتراكيا للتنمية الاقتصادية حتى منتصف الثمانينيات،كدولة يهيمن عليها حزب واحد، حيث شرعت تنزانيا في سلسلة من الإصلاحات السياسية والاقتصادية خلال إدارة الرئيس علي حسن مويني. ثم اتخذت الحكومة قرارًا بتبني الديمقراطية التعددية في يناير وفبراير 1992، ما أدى إلى تسجيل 11 حزبًا سياسيًا. وقد أثر بشكل كبير على الحوار السياسي لاعبون رئيسيون في الساحة السياسية للبلاد منذئذ، مثل حزب تشاما تشا مابيندوزي الحاكم (CCM) وأحزاب المعارضة مثل تشاديما وحزب ACT وازاليندو، وكذلك شاركوا في الممارسات الديمقراطية في البلاد. ومنذ تحول البلاد من دولة الحزب الواحد إلى دولة تعمل بنظام متعدد الأحزاب في أوائل التسعينيات، كانت تنزانيا قد أجرت انتخابات متعددة الأحزاب بشكل منتظم. ومع ذلك، لا تزال المعارضة ضعيفة نسبيًا، حيث احتفظ حزب تشاما تشا مابيندوزي (CCM) بالسلطة لأكثر من 60 عامًا.
أجرت تنزانيا أول انتخابات رئاسية لها في عام 1995، وتم انتخاب بنيامين مكابا من حزب CCM الحاكم كأول رئيس في ظل نظام متعدد الأحزاب، ما يمثل تحولاً كبيراً ملموسا في المشهد السياسي في البلاد. وعلى الرغم من تصنيف المراقبين الدوليين للانتخابات على أنها حرة، إلا أن عضوية حزب CCM الساحقة وقدرته على الوصول إلى موارد مادية لتمويل الحملة الانتخابية، أعطته ميزة الغالبية الواضحة على أحزاب المعارضة. وقد اتبعت الانتخابات الرئاسية التالية في عام 2000 نمطاً مماثلاً، حيث حافظ حزب CCM الحاكم على موقعه المهيمن في السياسة التنزانية. و واصل في طمس الخطوط الفاصلة بين الحزب والدولة، باستخدام تكتيكات مثل إشراف الشرطة على التجمعات السياسية وتقييد وصول المعارضة إلى وسائل الإعلام التي تسيطر عليها الحكومة. وسلطت هذه الإجراءات الضوء على التحديات التي تواجهها قوى المعارضة في تحدي هيمنة حزب CCM الحاكم، كما سلطت الضوء على الحاجة إلى مزيد من الإصلاحات لتحقيق تكافؤ الفرص في العملية الانتخابية في تنزانيا.
ثم أجرت تنزانيا انتخاباتها العامة الثالثة في ديسمبر 2005، والتي تم تأجيلها بسبب وفاة مرشّح نائب رئيس حزب تشاديما، جومبي محمد جومبي. فقام الرئيس بنجامين مكابا بعد أن قضى فترتين في الولاية، بتسليم السلطة إلى جاكايا كيكويتي، الرئيس الجديد من حزب CCM الحاكم، الذي خرج منتصراً في الانتخابات الرئاسية، وحصل على 80% من الأصوات. وبالإضافة إلى ذلك، فاز حزب CCM بـ 264 مقعدًا من أصل 323 مقعدًا في الجمعية الوطنية. ومرورا إلى أكتوبر 2010، أجرت تنزانيا انتخاباتها العامة الرابعة، وهي لحظة تاريخية فذّة لأنها كانت المرة الأولى التي يفوز فيها حزب معارض بأصوات ومقاعد كبيرة في الجمعية الوطنية منذ الاستقلال، ويرجع ذلك أساسًا إلى حزب المعارضة تشاديما، بقيادة إدوارد لواسا، حيث شكل ائتلافًا مع ثلاثة أحزاب أخرى، عُرفت باسم UKAWA، و وعدت بتحدٍّ كبير في الانتخابات. فكانت النتيجة أن مسّ المرشح الرئاسي لحزب CCM الحاكم، جاكايا كيكويتي، انخفاض ملموس في أصواته من 80% في عام 2005 إلى 61%، حيث حصل مرشح حزب تشاديما، الدكتور ويلبرود سلا، على 26% من الأصوات، في حين حصل مرشح الجبهة المتحدة، البروفيسور إبراهيم ليبومبا، على 8%. وعلى الرغم من المنافسة، تم إعلان فوز الرئيس الحالي حينئذ جاكايا كيكويتي، من الحزب الحاكم للفترة الثانية.
وفي عام 2010 تم إجراء الانتخابات العامة الخامسة لتنزانيا، وفاز فيها مرشّح الحزب الحاكم، جون ماجوفولي، وعلى الرغم من رفض لواسا الاعتراف بانتصار ماجوفولي، و وصفه بأنه معركة خاسرة لا حربًا خاسرة، إلا أن غالبية التنزانيين قبلوا انتصار ماجوفولي بسبب فوزه الساحق. انتقالا إلى الانتخابات العامة السادسة في تنزانيا، التي أجريت في 28 أكتوبر 2020، حيث خرج الحزب الحاكم CCM منتصرًا مرة أخرى. حصل الرئيس ماجوفولي على 84% من الأصوات، متغلبًا على مرشح المعارضة توندو ليسو من حزب تشاديما المعارض. وارتفعت نسبة إقبال الناخبين إلى 50.7%، حيث حصل ماجوفولي على 14.8 مليون صوت من أصل 29.8 مليون ناخب مسجل. وفي الانتخابات البرلمانية أيضًا، حصل مرشحو حزب CCM على 256 مقعدًا من أصل 264 مقعدًا في الدائرة الانتخابية. ثم أثارت أحزاب المعارضة في تنزانيا مخاوف بشأن تدخل الحكومة في العملية الانتخابية، زاعمة التلاعب بصناديق الاقتراع بعد منع الوكلاء من الوصول إلى مراكز الاقتراع. واتهم توندو ليسو، مرشح تشاديما، الحزبَ الحاكم باستخدام أجهزة الدولة للحفاظ على السلطة بشكل غير قانوني، كما أبلغ زعيم حزب ACT-وازاليندو، زيتو كابوي، عن حالات تزوير في دوائر انتخابية مختلفة في جميع أنحاء البلاد، مشيرًا إلى اكتشاف الآلاف من أوراق الاقتراع التي تم التلاعب بها والتناقضات في تصريحات الضباط العائدين.
تصاعد الأزمة السياسية في تنزانيا بعد انتخابات 2020
كانت انتخابات عام 2020 في تنزانيا مليئة بالعيوب، وأبرزها غياب لجنة انتخابية مستقلة تتسم بالكفاءة، وكذلك شابتها قوة شرطة تخدم السياسة، وادعاءات كثيرة بحدوث مخالفات، وانعدام الشفافية. وقد أثارت هذه القضايا استياء واحتجاجات واسعة النطاق بين أحزاب المعارضة ومنظمات المجتمع المدني، بحيث تمت إعادة انتخاب الرئيس ماجوفولي بنسبة 84٪ من الأصوات للفترة الثانية، الأمر الذي عزز هيمنة الحزب الحاكم شبه الكاملة على البرلمان بنسبة 93٪ من المقاعد. ثم أثار مخاوفَ الشعب قيامُ الحكومة بإجراء تعديلات دستوريـة بشأن النزعات الاستبدادية وتوحيد السلطة، ما يزيد في تقسيم المشهد السياسي وتصاعد التوترات. وكذلك أدت التقارير عن انتهاكات حقوق الإنسان، مثل قمع حرية الإعلام والمعارضة السياسية، إلى تأجيج الاضطرابات السياسية. ومن المؤسف أن الرئيس ماجوفولي توفي في مارس 2021 بعد معاناة من مضاعفات في القلب، ما نتج في أداء نائبته السيدة سامية سولوهو حسن، اليمينَ كأول رئيسة لتنزانيا. وكانت هذه اللحظة التاريخية بمثابة تحوّل كبير في قيادة البلاد، وانبعث بها آمال الشعب في مستقبل سياسي أكثر شمولاً وشفافية.
لم تهدر سامية سولوهو حسن أي وقت في تفكيك النظام الاستبدادي لسلفها، بعد توليها منصب رئيسة تنزانيا في مارس 2021، وسرعان ما استعادت الحقوق المدنية الأساسية، ورفعت الحظر عن التجمعات العامة وحررت وسائل الإعلام من القيود. ثم شرعت في حوارات مع أحزاب المعارضة لمناقشة الإصلاحات الضرورية، واقترحت تشكيل لجنة تشمل الأعضاء الخبراء للإشراف على عملية مراجعة الدستور التي طال انتظارها. وفي السنوات الثلاث عقب تولي سامية صولوهو حسن الرئاسة، نجحت في إلغاء العديد من السياسات التي نفذها ماجوفولي. فهي لم تقم بإعادة هيكلة الحزب الحاكم والحكومة فحسب، بل أدخلت أيضاً إصلاحات أدت إلى توسيع نطاق الحرية السياسية والمدنية بشكل كبير. وجدير بالذكر أنها أنشأت فريق عمل خاص للإصلاحات السياسية، وتوصل هذا الفريق إلى توصيات لإصلاح النظام الانتخابي. أضف إلى ذلك أنه أعادت سامية الأفرادَ الذين تم تهميشهم خلال فترة ماجوفولي، مثل يناير ماكامبا، ونابي ناوي، وعبد الرحمن كنانة، لتقوم بإقالة الموالين الرئيسيين لماجوفولي، مثل إقالة السكرتير الأول باشيرو علي، ووزير الخارجية بالاماجامبا كابودي، ورئيس المخابرات ديواني أثوماني مسويا، وهؤلاء من بين الذين لعبوا أدوارًا مهمة في قمع الحريات المدنية في ظل النظام السابق.
غير أنه في أواخر العام الماضي، بدا أن إصلاحات الرئيسة سامية صولوهو حسن قد بدأت تسلك منحى آخر مخالف، مع عودة المؤيدين لسلفها ماجوفولي إلى الظهور من جديد في مسرح السياسة والحكم، بحيث عينت بعضَهم في مناصب رئيسية. ففي أغسطس 2023، عينت دوتو بيتيكو، الحليف المقرب من ماجوفولي، نائبًا لرئيس الوزراء، وهو منصب جديد لم يتم تحديده في الدستور أصلا، كما تولى بيتيكو منصب وزير الطاقة بموافقة من الرئيسة سامية. وبالإضافة إلى ذلك، أعادت بول ماكوندا، المفوض الإقليمي السابق لدار السلام، بصفته سكرتير الأيديولوجية والدعاية للحزب الحاكم. ولقد اعتبر الكثيرون في تنزانيا هذه الخطوة محاولة لاستعادة الدعم من معسكر ماجوفولي، ولقمع المعارضة داخل الحزب وخارجه. ومن المرجح أن يهدف تعيين بيتيكو وماكوندا إلى تعزيز دعم الحزب في منطقة ليك، حيث تسكن مجموعة سوكوما العرقية، التي ينتمي إليها ماجوفولي. علاوة على ذلك، تراجعت سامية عن بعض مبادرات الإصلاح، مثل المراجعة الـمتوقعة لدستور البلاد، وتأجيلها إلى ما بعد الانتخابات الوطنية في عام 2025.
وقد ترك هذا التحول في الاتجاه العديد من المراقبين غير متأكدين بشأن نوايا الرئيسة سامية، حيث يزعم البعض بعودة السياسات المتشددة في حين يبدو أن الإصلاحات الديمقراطية تتقدم بشكل أبطأ من المتوقع، تنزانيا قد تتراجع إلى العهد الاستبدادي للرئيس السابق جون ماجوفولي، نتيجة أحداث عديدة مثل اعتقال اثنين من كبار زعماء المعارضة عدة مرات ومسؤول آخر، علي كيباو، الذي اختطف وقتل وتشويه جثته على يد مجهولين. أعرب توندوليسو، نائب زعيم حزب المعارضة الرئيسي تشاديما، والذي أُطلق سراحه بكفالة في أغسطس/آب 2024، عن مخاوفه بشأن الوضع وما ورد عن اختفاء العديد من منتقدي الحكومة الآخرين.
الانعكاسات المحتملة على الانتخابات المقبلة
إن الأزمة السياسية المستمرة في تنزانيا، تفرض تحديات كبيرة على نزاهة العمليات الانتخابية في تنزانيا، وتـثير مخاوف بشأن مصداقية النظام الانتخابي وإجراء انتخابات حرة ونزيهة بحلول عام 2025، كما تهدد استقرار المؤسسات الديمقراطية في تنزانيا،وتؤكد على ضرورة حماية القيم الديمقراطية في البلاد بشكل مستمر. ومن الواضح أن ثقة الشعب في الحكومة قد تآكلت، بحيث بدأ المواطنون يتساءلون عن أسس ديمقراطيتهم ويطالبون بالشفافية والمساءلة بشكل لم يسبق له مثيل.
وبينما تكافح تنزانيا في أعقاب هذه الأزمة السياسية، يظل الطريق إلى الصلاح والاستقرار غير مؤكد، حيث لم يتم تحديد ما إذا كانت إرادة الرئيس لدعم الديمقراطية الحقيقية لا تزال ثابتة أم لا. وإن قدرة المؤسسات الديمقراطية في تنزانيا على الصمود، وعزيمة شعبها، ومشاركة المجتمع الدولي في عمليات الانتخاب، سوف تلعب جميعها أدواراً محورية في تشكيل مستقبل البلاد. وبينما تلوح التحديات كبيرة في الأفق، هناك أيضًا أمل في الأخذ بالحوار والمصالحة وتجديد الالتزام بين الأحزاب السياسية بدعم القيم الديمقراطية. و ستكون الأيام المقبلة حاسمة في تحديد مسار المشهد السياسي في تنزانيا وآفاق مستقبل أكثر شمولاً واستقرارًا.
أخبار الأفارقة وتقارير فعالياتها واستشاراتها.