
طريق جنوب السودان نحو السلام: كيف التغلب على الصراع الداخلي بعد الاستقلال؟
فإن جنوب السودان في حاجة إلى إعادة تقييم التزامها بالسلام، ولا يمكنها فعل ذلك إلا من خلال إشراك جميع الأطراف المتضررة في عملية السلام السياسي. وهذا من شأنه أن يساعد في ضمان عودة البلاد إلى الحياة الطبيعية في ظل حكومة شرعية في السلطة بعد انتخابات موثوقة. والآن، لقد ظهر جليّا، أن زعماء الحكومة الانتقالية المنتفخة – وأبرزهم الرئيس سلفا كير ميارديت ونائب الرئيس ريك مشار ــ لا يرون أي مصلحة ذاتية في التسرع في إجراء الانتخابات.
يعتمد مجتمع جنوب السودان بشكل كبير على التقلبات الموسمية في هطول الأمطار والهجرة الموسمية، لكون البلاد موطنا لمجموعة متنوعة من المجموعات العرقية اللغوية النيلية التي استقرت في المنطقة في القرنين الخامس عشر والتاسع عشر. وتم غزو الأراضي التي تشكل جنوب السودان اليوم من قبل مصر أولاً، ثم حكمها لاحقًا الإداريون الاستعماريون المصريون والبريطانيون بشكل مشترك في أواخر القرن التاسع عشر. ولقد نشر فيها المبشرون المسيحيون انتشار اللغة الإنجليزية والديانة المسيحية، بدلاً من اللغة العربية والإسلام، ما أدى إلى اختلافات ثقافية كبيرة بين الأجزاء الشمالية والجنوبية من السودان. وبينما تستعد السودان للحصول على الاستقلال من الحكم البريطاني والمصري المشترك في عام 1956، اتهم زعماء الجنوب السلطات الجديدة في الخرطوم بالتراجع عن وعودها بإنشاء نظام فيدرالي.
وكما هي العادة، جرت العديد من المناقشات والاتفاقيات بين زعماء الجنوب ونظرائهم الشماليين، ولكنها لم تسفر إلا عن نجاح ضئيل للغاية حتى تم التوصل إلى اتفاق السلام الشامل في عام 2005، والذي أنهى الحرب وأولد مخططًا لإجراءات جديدة لتقاسم السلطة وتوزيع الثروة وتوفير الأمن في السودان. وكذلك منح الاتفاق لجنوب السودان وضعًا شبه مستقل، حيث نص على إجراء استفتاء على استقلال المنطقة في غضون ست سنوات. وعلى الرغم من بعض العقبات، فقد تم إجراء ذاك الاستفتاء. وتم إجراء التصويت لمدة أسبوع على استقلال جنوب السودان في فترة ما بين يناير 9 و 15 يناير 2011، فأشارت النتائج إلى استقلال وانفصال الجنوب عن الشمال، وبالتالي أعلنت دولة جنوب السودان استقلالها في 9 يوليو 2011.
وكان من المقرر – على الورق – أن تعقد البلاد أول انتخاب لها في عام 2015، لكن الحرب الأهلية اندلعت في عام 2013، حيث انخرط الرئيس سلفا كير وزعيم المتمردين ريك مشار، نائب الرئيس السابق لكير، في صراع على السلطة، ما أدى إلى اندلاع قتال بين القوات الموالية لكل رجل. وبدأت حركة تحرير شعب السودان في الحكومة (SPLM-IG) بقيادة الرئيس سلفا كير في استخدام بطاقة الانتخابات كتكتيك تفاوضي خلال عملية السلام التي أدت إلى اتفاقية عام 2015 لحل النزاع في جنوب السودان. فأصبح سلفا كير رئيسًا لجنوب السودان – التي كانت لاتـزال جزءًا من السودان آنذاك – و رئيسًا لحركة تحرير شعب السودان (SPLM) في عام 2005، خلفًا لزعيم المتمردين جون قرنق الذي توفي في حادث تحطم مروحية.
ومع استمرار القتال في السودان، هناك مخاوف من أن يؤدي إلى تضخم الأسعار في جنوب السودان، مع العلم بأنه قد ارتفعت تكلفة سلة الغذاء بنحو 30٪ في بعض ولاياتها على طول الحدود منذ اندلاع الصراع، وأن التجار، الذين يحصلون على الكثير من سلعهم من السودان، لن يكون لديهم أي شيء لبيعه. وقد أدى الصراع المستمر في السودان إلى تفاقم الوضع من خلال دفع أكثر من مليون شخص إلى جنوب السودان (برنامج الغذاء العالمي، 2025). وقد ساهم هذا في زيادةٍ قدرها ثمانية في المائة من إجمالي السكان في جنوب السودان. ويصل العديد منهم وهم في حاجة ماسة إلى المساعدة الإنسانية، مع ارتفاع معدلات سوء التغذية الواضحة بين الوافدين الجدد، لا سيما كون العديد من النساء والفتيات المراهقات الوافدات هن ناجيات من العنف القائم على النوع الاجتماعي.
ولقد نبّهت لجنة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان جنوب السودان، في بيان أصدرته في جنيف مؤخرًا، إلى وجود تهديد يعرقل دون اتفاق السلام المنشط في جنوب السودان، بسبب تصاعد العنف في ولاية أعالي النيل، وتصاعد التوترات السياسية في جوبا، والمؤامرات السياسية الأخرى، وبالتالي يعاني المواطنون بالمزيد من الألم والضرر. ومع ذلك، حث الرئيس الكيني ويليام روتو رئيس جنوب السودان سلفا كير، ونائب الرئيس الأول ريك مشار، على الجلوس وجها لوجه لإجراء حوار محاولةً لتعزيز السلام. وناشد الرئيس روتو الزعيمين وضع خلافاتهما جانبًا بينما تعمل المنطقة نحو استقرار جنوب السودان بموجب الإطار الاستراتيجي للهيئة الحكومية الدولية للتنمية (إيغاد). وتماشيًا مع المادة 7 من اتفاقية إنشاء هيئة إيغاد، فإن استراتيجيتها لــــ 2021-2025 ترتكز على الهدف الشامل المتمثل في بناء وتسريع التكامل الإقليمي والتعاون عبر الحدود بين الدول الأعضاء.
ما هو سبب الصراع في جنوب السودان؟
لا يزال الصراع وانعدام الأمن يشكلان محركين مهمين لاحتياجات الناس. وظلت حوادث العنف المنسوبة إلى الأطراف المحلية في الصراع منخفضة نسبيا بسبب الالتزام العام باتفاقية حل النزاع في جمهورية جنوب السودان. ومع ذلك، فإن أنماط العنف الراسخة التي تنطوي على الشباب المسلحين، مثل غارات على المواشي والنزاعات الحدودية والهجمات الانتقامية، تشكل المحركات الرئيسية للعنف المتزايد. وكان من المفترض أن ترى الاتفاقية الفصيلين المتحاربين يوحدان جيوشهما تحت وحدة واحدة، ويتفقان على دستور جديد، ويستعدان للانتخابات العامة، وينظمان تعداد السكان وينزعان سلاح جميع الجماعات المسلحة الأخرى. ومع الأسف، لم يتم تنفيذ أيّ من الإصلاحات. وعلى الرغم من اتفاقية السلام المتجددة وحكومة الائتلاف الظاهرية، لا تزال جنوب السودان تعاني من انعدام الأمن، ولا تزال مستويات العنف والصدمات المرتفعة باستمرار، – والتي تسببت في مقتل ما يقدر بنحو 400 ألف شخص – تسيطر على السكان، و تؤكد كذلك على الطبيعة غير المحلولة لهذا الصراع.
ويمثل وضع القوات العسكرية قضية رئيسية في عملية التفاوض؛ إذ يقدر عدد المقاتلين على الجانبين بنحو 200 ألف مقاتل، وبالتالي تطرأ تساؤلات حول كيفية دمج القوات، حيث دعا ريك مشار إلى سياسة إبقاء القوات منفصلة لبعض الوقت حتى يصبح التكامل ممكنًا. ويمكن فهم مثل هذا التناقض في ضوء التنافس المطول الذي نشأ عن تجربة الاشتباكات الطائفية المروعة وغير الموثوقة بين أتباعهما في جميع أنحاء جنوب السودان. واعتبارًا من ديسمبر 2016، عندما اندلعت الحرب الأهلية الثانية، أعلن كير مرارًا وتكرارًا عن تردده وعدم رغبته في العمل مع مشار، مشيرًا إلى قسوته في التعامل. علاوة على ذلك، إن هيمنة قبيلتي الدينكا والنوير على المجالات السياسية والخدمات العسكرية والعامة والمصادر الاقتصادية للدولة، تعتبر العقبة الرئيسية أمام السلام والاستقرار في جنوب السودان. وكذلك يُنظر إلى هذه الهيمنة باعتبارها أعلى أشكال القتال بين القبيلتين الرئيسيتين، وهو ما يؤدي إلى مزيد من الارتباك وانعدام الثقة بين المسؤولين الحكوميين. وعلاوة على ذلك، تعمل هذه الهيمنة على إضعاف شمولية الخدمات العامة والمؤسسات النشطة والتنمية متعددة الحكومات.
وقد سبق أن قال دانييل أكيش ثيونج، المحلل البارز في جنوب السودان في مجموعة الأزمات الدولية، في وقت سابق من هذا الشهر: أن جنوب السودان الغنية بالنفط تقف على شفا الحرب، بسبب زيادة الوصول إلى الأسلحة بسبب الصراع المستمر في السودان المجاورة لها. وقال لوكالة رويترز للأنباء: “السلام الهش الذي حافظ على توازن دقيق بين الزعماء المسلحين المتنافسين منذ عام 2018 معرض لخطر الانهيار”.
نحو استقرار جنوب السودان
لقد تعرض السلام، الذي كان يتزعزع دائما في جنوب السودان، لاختبارات شديدة في العامين الماضيين، حيث أدت الحرب الأهلية في السودان الشمالية، إلى جرح اقتصاد جنوب السودان الضعيف من خلال خفض إنتاج النفط الذي ينتج معظم عائدات البلاد. ومن المقرر الآن إجراء الانتخابات الرئاسية في العام المقبل بعد أن تم تأجيلها مرارًا وتكرارًا. ويقول المحللون بأنه من المرجّح أن تواصل التوترات في جوبا في تأخير المهام الحاسمة التي تنتظر الدولة الشابة، بما فيها توقيع دستور دائم وإجراء الانتخابات. وعلى الرغم من أن الانتخابات كانت من المخطط أن تُجرَى في ديسمبر، فقد أجّلتْها حكومة كير، مشيرة إلى تحديات التمويل و”عدم الاستعداد”.
فإن جنوب السودان في حاجة إلى إعادة تقييم التزامها بالسلام، ولا يمكنها فعل ذلك إلا من خلال إشراك جميع الأطراف المتضررة في عملية السلام السياسي. وهذا من شأنه أن يساعد في ضمان عودة البلاد إلى الحياة الطبيعية في ظل حكومة شرعية في السلطة بعد انتخابات موثوقة. والآن، لقد ظهر جليّا، أن زعماء الحكومة الانتقالية المنتفخة – وأبرزهم الرئيس سلفا كير ميارديت ونائب الرئيس ريك مشار ــ لا يرون أي مصلحة ذاتية في التسرع في إجراء الانتخابات. وطالما ظلت عملية الانتقال سارية المفعول، فسيظلون في السلطة غير منتخبين، ولكن راغبين وقادرين على نهب الموارد العامة. وفي حين أن الاستراتيجية الأكثر ملاءمة قد تركز على كسب قلوب وعقول الجهات الفاعلة الرئيسية، فإن المناخ الحالي يشير إلى أن القادة الرئيسيين غير قادرين أو غير راغبين في حماية السكان واستعادة السلام، وبالتالي يبدو أن إجراءات الإنفاذ الفعّالة ضرورية لإيجاد حل دائم.
وينبغي أن تصنف حماية المدنيين في جنوب السودان على أنها أولوية، كما لا بد من تحقيق العدالة لضحايا الجرائم الدولية المزعومة في البلاد. ونظراً لأن للأزمة بعدا إقليميّا قويّا، وخاصة فيما يتصل بتدفقات اللاجئين عبر الحدود، واحتمال انتشار العنف المسلح إلى البلدان المجاورة -وهو ما يشكل سبباً للتوتر على المستوى دون الإقليمي-، فإن الجهد الإقليمي الشامل، بدعم من الشركاء العالميين، ينبغي أن يكون محور الجهود الرامية إلى حلّ الأزمة وضمان أن تتمتع جنوب السودان بالسلام، ما يمهد بالطبع طريقها إلى الرخاء.

أخبار الأفارقة وتقارير فعالياتها واستشاراتها.