حملة “تصحيح الخريطة”: حركة من أجل خريطة دقيقة لأفريقيا

تكشف الخرائط أو المخططات الجغرافية عن السمات الطبيعية للفضاء، وخاصةً ترتيباته الاجتماعية المكانية. وبهذا المعنى، تُبرز الخرائط التغيراتِ المكانية والزمانية، ووظائف البنى الاجتماعية، ومجموعة التناقضات المتشابكة في الظواهر الجغرافية. وكان إسقاط مركاتور قد أنشئ في الأصل عام 1569 على يد رسام الخرائط الفلمنكي جيراردوس مركاتور. واستخدم العديد من كبار رسامي الخرائط والمستكشفين في أوروبا إسقاطات إهليلجية مستمدة من شبكة خطوط الطول والعرض لبطليموس. وعلى الرغم من دقتها، كانت هذه الإسقاطات صعبة الاستخدام على الملاحين والمستكشفين لأنها تتطلب إعادة حساب الاتجاه باستمرار أثناء التنقل.

ومع ذلك، يُستخدم إسقاط مركاتور على نطاق واسع في خرائط الملاحة، لأن كل خطّ مستقيم على خريطة إسقاط مركاتور، خطّ اتجاه حقيقي ثابت، مما يُمكّن الملاح من رسم مسار مستقيم، غير أنه أقل استخداما في خرائط العالم، لأن مقياس الرسم مشوّه، حيث تبدو  المناطق البعيدة عن خط الاستواء كبيرة بشكل غير متناسب.

حملة “تصحيح الخريطة”

في عام 2017، أعلنت مدارس بوسطن العامة أنها ستتحول إلى استخدام خرائط العالم المستندة إلى إسقاط بيترز، وهي المرة الأولى التي تقوم فيها منطقة مدرسية عامة أمريكية بذلك، حسبما ورد. ويتجلى عند التساؤل عن السبب وراء هذا التحول، أن إسقاط بيترز يُظهر بدقة الأحجام النسبية لمختلف الدول. ورغم أنه يُشوّه أشكال الدول، إلا أن هذه الطريقة في رسم خريطة العالم تتجنب المبالغة في حجم الدول المتقدمة في أوروبا وأمريكا الشمالية، كما تتجنب أيضا تقليل حجم الدول الأقل نموًا في آسيا وأفريقيا وأمريكا الجنوبية.

هذا ما يحدث مع إسقاط مركاتور الأكثر شيوعًا، حيث يُبالغ في حجم الأرض حول القطبين ويُقلصه حول خط الاستواء. لذلك، يبدو “الشمال العالمي” المُتقدم أكبر من الواقع، بينما تبدو المناطق الاستوائية أصغر، وهي المناطق التي تميل إلى أن تكون أقل نموًا. ويُمثل هذا الوضع إشكالية خاصة بالنظر إلى أن أولى خرائط العالم المستندة إلى إسقاط مركاتور قد رسمها المستعمرون الأوروبيون.

لماذا تحدث هذه المشكلة؟ فالجواب بكل بساطة هو أن العالم كروي والخريطة مسطحة. تخيّل أنك ترسم خريطة للعالم على برتقالة، ثم تقشر القشرة لتبقى قطعة واحدة ثم تسويها، بالطبع ستتمزق. لكن تخيّل أنك تستطيع تمديدها. أثناء ذلك، ستتشوه الخريطة المرسومة على سطحها.

فالتشوهات الناتجة عن هذا الإجراء هائلة. والإسقاطات المختلفة تشوه الخرائط بطرق مختلفة. لذلك يُصوّر إسقاط مركاتور جرينلاند على أنها أكبر من أفريقيا، لكن الواقع يقرر بأن أفريقيا أكبر من جرينلاند بأربعة عشر ضعفًا. وهذا يُغيّر الطريقة التي ترى بها حجم أجزاء مختلفة من العالم. بناء على ذلك يبدو أن هذا الأمر ليس مجرد معضلة رسّام خرائط – إنها مشكلة سياسية.

قام رسام خرائط عصر النهضة، جيراردوس مركاتور، بهذا العمل للحفاظ على أشكال الدول، حتى يُمكن استخدام الخريطة لحساب اتجاهات البوصلة بدقة. وتُعد اتجاهات البوصلة الدقيقة بالغة الأهمية للبحارة في القرن السادس عشر. ولكن إذا كنت ترغب في الحصول على فكرة أفضل عن الحجم النسبي لكتـل اليابسة في العالم، فأنت بحاجة إلى خريطة تُشوّه الشكل مع الحفاظ على المساحة، كما يفعل إسقاط بيترز.

انضم الاتحاد الأفريقي إلى حملة تحث المؤسسات العالمية نحو اعتماد خريطة جديدة لأفريقيا تعكس حجم القارة بدقة أكبر. تُظهر خريطة مركاتور، المستخدمة على نطاق واسع منذ عام 1599، نسخة مُشوّهة لقارة أفريقيا لتبدو أصغر بكثير بسبب الشكل الكروي للكرة الأرضية. وتهدف هذه الحملة إلى إيجاد خريطة جديدة تعكس مقياس الأرض بدقة أكبر، حتى على سطح ثنائي الأبعاد. وصرحت نائبة رئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي، سلمى مليكة حدادي، لرويترز ما نصّه: “قد تبدو مجرد خريطة، لكنها في الواقع ليست كذلك”، موضحةً أن الخريطة تُروّج فكرة خاطئة مفادها أن أفريقيا “هامشية”. وأضافت حدادي أن تأييد الاتحاد الأفريقي للحملة يُعزز أهدافه في “استعادة مكانة أفريقيا المستحقة على الساحة العالمية”، في الوقت الذي تدعو فيه دول عديدة إلى محاسبة دولية للآثار الطويلة المدى للاستعمار والعبودية.

لماذا تستحق أفريقيا خريطة جديدة؟

تُعدّ الخرائط أهم إسهامات الجغرافيا في تفسير الوجود البشري في الفضاء. ويُعدّ رسم خرائط أفريقيا قضيةً محوريةً في النظام العالمي، حيث تُبرز القارة أهميةً في مختلف المواضيع، بما في ذلك ديناميكيات الاقتصاد القاري وتكامله مع عملية التقسيم الإقليمي. ويُغفل إلى حد كبير الإنتاج الخرائطي المُركّز على التجربة الأفريقية، وغالبًا ما يُغفل بسبب المنظور المُستبعد الذي يُحيط بالقارة وشعوبها وثقافاتها. لذلك، تتطلب خريطة أفريقيا نقاشًا واعترافًا عادلين.

وإن هذه الخريطة -بصفتها نتاجًا ثانويًا للأفكار الأفريقية الشاملة في حقبة ما بعد الاستعمار- كان الهدف الرئيسي منها تحديدَ المجموعات الجغرافية الكبرى، مع مراعاة الديناميكيات الجغرافية التي تجب ترجمتها إلى صيغة إقليمية ممكنة تقنيًا. وكانت نقطة انطلاق الخريطة الإقليمية لأفريقيا هي عمليات استقلال دول أفريقيا الجديدة. ففي عام 1960، بدأ العام المعجز في أفريقيا، حيث بدأت ما لا يقل عن 17 دولة جديدة ذات سيادة بالتصرف بخصوص الجغرافيا السياسية للقارة.

وبعد ثلاث سنوات، وتحديدًا في 25 مايو 1963، تأسست منظمة الوحدة الأفريقية (OAU) من قِبل 32 دولة حديثة الاستقلال في أديس أبابا، إثيوبيا، في قمةٍ قادها الإمبراطور الإثيوبي هيلا سيلاسي. واستُبدل بمنظمة الوحدة الأفريقية الاتحاد الأفريقي (AU) في 9 يوليو 2002، مع وجود مقره الرئيسي في أديس أبابا. وكان من أهم أهداف الاتحاد التكامل والتقدم نحو الوحدة الأفريقية.

فالخريطة السياسية لأفريقيا حاليًا تُظهر 54 دولة ذات سيادة، وهو أكبر عدد من الدول المستقلة الواقعة في قارة واحدة. وتجدر الإشارة إلى أن المقعد الأفريقي في الجمعية العامة للأمم المتحدة  (UNGA)، الذي يمثل ما يقرب من ربع الدول الأعضاء، هو أهم مجموعة في هذا الكيـان العالمي. ولهذا السبب أيضًا، تُعتبر أديس أبابا قطبًا دبلوماسيًا مؤثرًا، ومركزًا مرموقًا لصنع القرار في النظام العالمي.

وكذلك تجب الإشارة إلى أن آثار التدخل الاستعماري لا تزال قائمة في القارة. وبالتالي تشير هذه المسألة إلى السلطة التي مارسها الأوروبيون على الجزر الصغيرة والأرخبيلات والقلاع الساحلية، والتي، على الرغم من محدودية نطاقها الجغرافي، تُعد استراتيجية للغاية لأنها مسؤولة عن الممرات البحرية وتضمن الوصول إلى موارد بحرية هائلة.

لا يُعد انتقاد خريطة مركاتور أمرًا جديدًا، لكن حملة “تصحيح الخريطة” – التي تقودها منظمتا “أفريقيا بلا فلتر” و”تحدثوا  عن أفريقيا” – أحيت النقاش، وحثت المنظمات على اعتماد إسقاط الأرض المتساوية لعام 2018، الذي يحاول عكس الأحجام الحقيقية للدول. وصرح موكي ماكورا، المدير التنفيذي لمنظمة “أفريقيا بلا فلتر”: “الحجم الحالي لخريطة أفريقيا خاطئ. إنها أطول حملة تضليل ومعلومات مضللة في العالم، ويجب أن تتوقف بكل بساطة”.

قالت فارا ندياي، المؤسسة المشاركة لمبادرة “تحدثوا عن أفريقيا”: “إن جهاز ميركاتور أثر على هوية الأفارقة وفخرهم، وخاصةً الأطفال الذين قد يواجهونه في مرحلة مبكرة من الدراسة. وأضافت: “نعمل بنشاط على الترويج لمنهج دراسي يكون فيه عرض “الأرض المتساوية” المعيار الرئيسي في جميع الفصول الدراسية (الأفريقية)”، معربةً عن أملها في أن يكون هو المعيار الذي تستخدمه المؤسسات العالمية، بما فيها المؤسسات الأفريقية. وكذلك أكدت السيدة حدادي أن الاتحاد الأفريقي مؤيد للحملة، مضيفةً أنها تتماشى مع هدف الاتحاد المتمثل في “استعادة مكانة أفريقيا المستحقة على الساحة الدولية” وسط دعوات متزايدة لتعويضات عن الاستعمار والعبودية.

دعوة للتحرك

على الرغم من أن إسقاط مركاتور يُبسط الملاحة، إلا أن خطوط الرومب لا تُظهر أقصر مسافة بين نقطتين على الأرض، وهي التي تُسمى مسار الدائرة العظمى. وعلى عكس خطوط الرومب، تظهر هذه الخطوط منحنية في الإسقاط التوافقي. وبالطبع، فإن أقصر طريق حرفيًا من بروفيدانس إلى روما هو في الواقع خط مستقيم: ولكن يجب السفر تحت سطح الأرض لقطعه. وعندما نتحدث عن أقصر مسافة بين نقطتين على الأرض، فإننا نتحدث عمليًا عن السفر عبر سطح الأرض أو فوقه.

وهناك طريقة أخرى لتمثيل العالم وهي عرض أحجام الدول بما يتناسب مع المؤشرات الرئيسية التي تهم الجغرافيين اليوم، مثل السكان والبيئة والتنمية. وكما هو متوقع، تُهيمن أمريكا الشمالية وأوروبا على خريطة العالم للناتج المحلي الإجمالي، بينما تكاد أفريقيا تختفي. يُبرز رسم بياني السكان الهند والصين بشكل أكبر، ويجعل إندونيسيا أكبر بكثير من جارتها أستراليا. ولكن ربما يكون الأمر الأكثر إثارة للدهشة هو خريطة المشاركة في التصويت، حيث الاقتصادات الناشئة أكبر ــ وأميركا الشمالية أصغر ــ مما قد يتصوره كثير من الناس.

فإن استمرارية الأشكال المكانية الموروثة من الماضي الاستعماري هي أساس الهجرات الكبرى للأفارقة الفقراء. لذلك، كان من الضروري معالجة هذه المشكلة من جذورها في أفريقيا، بما يضمن حوكمة الدول التي لا تزال هشة في بيئات منشأ هؤلاء المهاجرين، ويعزز التكامل الفعال، ويواجه البنية الاقتصادية للصراعات مع مراعاة التنمية والتقدم الاجتماعي.

وفي الختام، تدعو حملة “تصحيح الخريطة” منظماتٍ مثل البنك الدولي والأمم المتحدة إلى اعتماد خريطة “الأرض المتساوية”. وصرح متحدث باسم البنك الدولي بأنهم يستخدمون بالفعل خريطة “وينكل-تريبل” أو “الأرض المتساوية” للخرائط الثابتة، ويتخلصون تدريجيًا من خريطة “مركاتور” على خرائط الويب.

أخبار الأفارقة وتقارير فعالياتها واستشاراتها.