سياسة ترامب للترحيل: تأثيرها على سيادة الدول الأفريقية

يشكل مبدأ سيادة الدولة حجرا أساسيا ومهما في القانون الدولي وفي العلاقات الدولية.  فهو يعطي و يضمن لكل دولة الحق في الحكم الذاتي دون تأثير خارجي أو تدخل أجنبي. واليوم، لا تزال الجيو-سياسية عاملاً مهماً في العلاقات الدولية، إذ تسعى الدول إلى كسب مزايا استراتيجية على حساب بعضها البعض. لذلك، كان فهم الجيو-سياسية ضروريّا ولازما لفهم التحولات التي تحرك العلاقات الدولية وتشكل تقسيم القوة في العالم، حيث تؤثر عواملها -مثل الموقع الجغرافي، والموارد الطبيعية، والاعتبارات الاستراتيجية- على سياسة الدولة الخارجية، وقراراتها الأمنية، وتفاعلاتها الاقتصادية بشكل كبير. وعلى الرغم من الحق السيادي لجميع الدول في حكم أراضيها، والهيمنة على شؤونها، والسيطرة على حدودها، وتنفيذ قوانينها وسياساتها، تتمثل الدول القوية  كحجر عثرة لسيادة الدول النامية بفرض نفوذها السياسي والاقتصادي عليها، وتشكل لها تهديدات صعبة خلال ذلك.

لقد فاز الرئيس الأميركي دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية في عام 2024، وشرع منذ توليه المنصب في ترحيل المواطنين غير الأميركيين عبر رحلات جوية مستأجرة كانت أو تجارية، تنفيذا لوعوده الانتخابية التي شملت الترحيل الجماعي للمهاجرين، ومعظم المجرمين المدانين. وكافح كثيرا لزيادة مستويات الترحيل، حتى أنه فتح مسارات جديدة للترحيل كإرسال المهاجرين إلى دول غير أوطانهم الأصلية، مثل إرسال الفنزويليين إلى المكسيك أو السلفادور أو بنما. وبلغ عدد المرحلين خلال أربعة أشهر فقط نحو 200 ألف شخص،حسبما قاله مسؤول الحدود لحكومة ترامب، توم هومان، في أواخر مايو.

ومن الجدير بالذكر أنّ سياسة الترحيل إلى دولة ثالثة، شملت أفريقيا أيضاً، حيث برزت عدة دول أفريقية كخيارات مقترحة. ففي مايو 2025، تواصلت إدارة ترامب مع عدد من الدول الأفريقية لقبول المرحّلين، ورحبت به إسواتيني وجنوب السودان ورواندا، بينما رفض معظم هذه الدول الفكرةَ بشدة. وفي يوليو 2025، استقبلت كل من إسواتيني وجنوب السودان 12 مهاجراً – من المكسيك وميانمار واليمن – رُحِّلوا من الولايات المتحدة. وهذه خطوة تظهر اختلالاً في موازين القوى بين الولايات المتحدة والدول الأفريقية، مما يثير المخاوف بشأن تأثير واشنطن على سيادة هذه الدول وعلى القارة الأفريقية ككل.

أجندة الهجرة لدى ترامب: آليات سياسة الترحيل الأميركية

اعتمد الرئيس دونالد ترامب فلسفة “أميركا أولا” كحجر أساسي تنبني عليها أجندة إدارته وسياساتها، حيث كانت لهذه الفلسفة دور ملموس في تشكيل أجندة الإدارة الأميركية الحالية وفي تبني السياسات. وقد أدى هذا الوضع إلى تغييرات كبيرة في العلاقات الثنائية للولايات المتحدة مع دول أخرى، وخاصة الدول الأفريقية.  وتعني فلسفة “أميركا أولاً” بكل بساطة إعطاء الأولوية للأمن القومي والمصالح الاقتصادية الأميركية من خلال صياغة واعتماد وتنفيذ سياسات جديدة في مختلف القطاعات، يُنظر إليها على أنها تخدم المصالح الأميركية بدرجة كبرى.

ومن قبيل ذلك ما تم في اليوم الرابع من يوليو 2025، حيث وقّع الرئيس ترامب على قانون سمي “مشروع القانون الوحيد الجميل الكبير” (OBBBA)، وقد أحدث القانون في قوانين الهجرة والمساعدات الفيدرالية تغييرات قد تؤدي إلى زعزعة استقرار المجتمعات لأجيال، حيث جرد القانون الجديد العديدَ من المهاجرين المقيمين بشكل قانوني من حقهم في الحصول على التأمين الصحي والمساعدات الغذائية، وحرم ملايين الأطفال من ذوي الأصول المهاجرة من الاستفادة من إعفاءات ضريبية لمكافحة الفقر. كما خصص تمويلاً ضخماً لتوسيع ميزانية احتجاز المهاجرين وتنفيذ القوانين، بينما قوّض مبادئ العدالة والحماية الإنسانية.

وأشار المركز الوطني لقانون الهجرة في أمرييكا إلى أنّ القانون الجديد يمنح فور توقيعه وزارة الأمن الداخلي 45 بليون دولار لاحتجاز المهاجرين البالغين والأسرة، متاحة حتى 30 سبتمبر 2029. ويزيد هذا المبلغ من ميزانية الاحتجاز السنوية لإدارة الهجرة والجمارك أكثر من أربعة أضعاف، بزيادة تقدر بنحو 11.25 بليون دولار سنوياً. وستستفيد من هذه الأموال شركات السجون الخاصة، التي عبّر مسؤولوها التنفيذيون عن سعادتهم بأجندة الترحيل الجماعي لإدارة ترامب.

وإلى جانب الترحيل، استخدمت الإدارة الأميركية حظر السفر وقيود التأشيرات كأداة للضغط على الدول الأفريقية لقبول المرحّلين. وإن حظر السفر الذي صدر في يونيو 2025، والذي زاد على القيود السابقة، كان له تأثير سلبي على الدول الأفريقية، حيث منعت القائمة من دخول مهاجرين أو زائرين من 19 دولة أفريقية والشرق الوسطى، وحددت قدر المهاجرين من بعض الدول الأفريقية، وذلك يؤثر على أنواع مختلفة من التأشيرات مثل السياحة والأعمال والدراسة.

وبعد هذا الحظر، ظهر من مذكرة داخلية أن الإدارة الأميركية تخطط لإضافة 36 دولة أخرى إلى القائمة،  24 دولة منها في أفريقيا جنوب الصحراء. وتعتبر رغبة الدول في قبول المرحلين من الولايات المتحدة عاملا هاما في تحديد هذه الحظرات المستقبلية كما أفادت المذكرة. وهذا يعني أنّ الدول الأفريقية التي تقبل المرحّلين يمكن أن تُزال من قائمة الحظر. ويكشف مثل هذا الإجراء أسلوب الولايات المتحدة الإجباري في سياستها للهجرة، ويثبت أيضا أن سياسات التأشيرات التي يُفترض أن تكون لأسباب أمنية داخلية قد تحولت إلى أداة إجبارية للسياسة الخارجية.

 الدول الثالثة المعتبرة كالحل : سيادة أفريقيا على المحك

أصبحت القارة الأفريقية هدفا رئيسيا لسياسات الهجرة الجديدة لترامب. و كانت دولة إسواتيني أول دولة أفريقية وافقت على استقبال خمسة مرحّلين من الولايات المتحدة. لكن النشطاء من إسواتيني وجنوب أفريقيا المجاورة لها، وصفوا هذه الحركة غير دستورية، وأثبتوا عدم دعم جماعي من مجلس الوزراء وعدم موافقة البرلمان قبل اتخاذ رئيس الوزراء هذا القرار.

علاوة على ذلك، لقد جاء من تقرير  The African Report أن السرية التي أحاطت بالاتفاقية أثارت قلقاً كبيراً في إسواتيني، حيث لم يُذكر فيها أي مقابل مالي، بخلاف صفقات مشابهة عقدتها الولايات المتحدة مع السلفادور وبنما، حيث تم تبادل ملايين الدولارات. ولهذا السبب، رفع “مركز التقاضي في إسواتيني” دعوى قانونية ضد الحكومة، وانضمت منظمات غير حكومية أخرى إلى المعركة القانونية. ومن المقرر الاستماع إلى القضية يوم الجمعة 22 أغسطس.

لقد تبعت جنوب السودان دولة إسواتيني، و أصبحت الدولة الأفريقية الثانية الموافقة على صفقة “الدولة الثالثة” مع الولايات المتحدة، رغم أنّ تفاصيل الاتفاق لم تُعلن للرأي العام. وفي يوليو 2025، أعلنت حكومة جنوب السودان أن الولايات المتحدة رحّلت ثمانية رجال إلى البلاد، بينهم رجل جنوب سوداني. وذكرت وزارة الخارجية أنّ المرحّلين وُضعوا تحت رعاية الحكومة. ثم عبّرت الحكومة عن رغبتها واستعدادها لقبول المزيد من المرحّلين مقابل طلبات؛ أن ترفع الولايات المتحدة العقوبات عن مسؤول حكومي بارز، وإعادة تأشيرات أميركية مسحوبة، ورفع حظر حساب مصرفي في الولايات المتحدة، ودعم إجراءات قانونية ضد النائب الأول للرئيس المحتجز حاليا رياك مشار. لكن إدارة ترامب لم تخط أي حركة إيجابية استجابة لهذه الطلبات حتى الآن.

وبالنسبة لرواندا، لقد وضعت نفسها في السنوات الأخيرة كوجهة للهجرة، ولم يكن الأمر مفاجئا لما أعلنت في أوائل أغسطس عن اتفاقها مع الولايات المتحدة على قبول 250 مهاجراً. وسبق أن ذكر وزير الخارجية الرواندي في مايو أنّ بلاده والولايات المتحدة تجريان مفاوضات بشأن الاتفاق. وكذلك أكد المتحدث باسم الحكومة، يولاند ماكولو، أنّ لدولة رواندا القدرة على تقييم كل شخص يتم قبوله لإعادة التوطين. وسيحصل كل منهم على الرعاية الصحية، والمساعدة في السكن، والتدريب على العمل لبدء حياتهم في رواندا.

ومؤخراً، وافقت أوغندا أيضاً على استقبال مرحّلين من الولايات المتحدة. وكان الاتفاق -وفقاً لوزارة الخارجية الأوغندية- مشروطا بعدة معايير، منها ألّا يكون طالبو اللجوء من أصحاب السوابق الجنائية، وألّا يكونوا قُصَّراً غير مصحوبين. ويبدو أن الحملة الدبلوماسية المكثفة التي تقوم بها الولايات المتحدة لإجبار الحكومات الأفريقية بدأت تؤتي ثمارها تدريجياً. ولن يكون من المفاجئ أن تنضم دول أفريقية أخرى إلى أجندة الترحيل.

لم تزل نيجيريا إحدى الدول الأفريقية الرئيسة التي رفضت خطة الترحيل هذه بشدة، حيث رفضت المساومة على سيادتها، مشيرة إلى تحدياتها الداخلية. ففي مقابلة مع قناة Channels TV في يوليو 2025، أكد وزير الخارجية النيجيري يوسف توغار أنّ دلة نيجيريا لن تركع للضغط الأميركي لقبول مرحّلين فنزويليين أو سجناء أميركيين داخل أراضيها. وقال ما نصه : “يصعب على بلد مثل نيجيريا أن تقبل سجناء فنزويليين. لدينا ما يكفي من مشاكلنا؛ لا يمكننا قبول مرحّلين فنزويليين إلى نيجيريا، بكل بساطة.”

و أضاف قائلا: “يجب أن تعرفوا يقينا أن الولايات المتحدة تضغط بشكل كبير على الدول الأفريقية لقبول الفنزويليين المرحّلين من أميركا،و بعضهم خرجوا  مباشرة من السجون.”

ورداً على ذلك، أصدرت بعثة الولايات المتحدة في نيجيريا عبر حسابها على منصة X أمراً لمقدمي طلبات التأشيرة، بأنه يلزمهم الكشف عن جميع هوياتهم وحساباتهم على وسائل التواصل الاجتماعي خلال السنوات الخمس الماضية كجزء من عملية التقديم. وذكرت البعثة أنه يتعيّن على المتقدمين تقديم جميع هويات وحسابات التواصل الاجتماعي، وعناوين البريد الإلكتروني، وأرقام الهواتف المرتبطة بالحسابات المستخدمة خلال تلك الفترة.

ومقابل هذا، وعدت نيجيريا بفرض متطلبات تأشيرة مماثلة على المواطنين الأميركيين. وأعلن كيميبي إيبيينفا، المتحدث باسم وزارة الخارجية النيجيرية، أنّ الحكومة النيجيرية ستطبق نفس المتطلبات على الأميركيين المتقدمين للحصول على تأشيرات نيجيرية. وقال: “قد يرغب بعض الأشخاص من الولايات المتحدة في التقدم للحصول على تأشيرة، وسنطبق الإجراءات نفسها.  فقضية التأشيرة مبدأ المعاملة بالمثل. ما تفرضونه على مواطنينا، سنفرضه أيضاً على مواطنيكم عند طلب تأشيرة لبلدنا.”

في الختام، لم تؤثر أجندة الترحيل التي تبناها ترامب على المهاجرين الأفارقة الأفراد فقط، بل قوّضت سيادة أفريقيا بشكل منهجي من خلال الضغط على الدول الأفريقية لقبول المرحّلين، واعتماد دبلوماسية قسرية، واستخدام التجارة والسياسات الصارمة للتأشيرات كأدوات لإجبار هذه الدول على الامتثال، فضلاً عن تجاهل المبادئ القانونية الدولية، ما يشكل سابقة خطيرة في الحوكمة الدولية. وتشكّل اتفاقيات “الدول الثالثة” القسرية تحدياً بالغاً لسيادة الدول الأفريقية، حيث تُجبرها على تحمل أعباء قد تنتهك التزاماتها القانونية والإنسانية الخاصة. ويكشف هذا المشهد عن اختلال في موازين القوى، حيث تقوّض ادعاءات السيادة التوسعية لدولة ما سيادة دولة أخرى.

أخبار الأفارقة وتقارير فعالياتها واستشاراتها.