كانت فرنسا محطّ الانتقادات منذ عام 1994 بشأن دورها في الإبادة الجماعية في رواندا, وأدى توجّه الرئيس الفرنسي الحالي “إيمانويل ماكرون” نحو إعادة ضبط علاقات بلاده مع الدول الأفريقية – وجعلها محور سياسته الخارجية – إلى إصدار تقرير فرنسي في عام 2019 لتسليط الضوء على دور بلاده في الفظائع.
وقد جمع التقرير الفرنسي 15 مؤرخًا مُنِحوا حرية غير مسبوقة للوصول إلى الأرشيفات الحكومة الفرنسية. وانتهى التقرير – الذي نُشِر في مارس 2021 – إلى: أن دور فرنسا تمثّل في كونها عمياء عن كل الإشارات حول استعدادات القوات الحكومية (من عرقية هوتو) لإبادة عرقية توتسي (والمعتدلين من عرقية هوتو)؛ وأن القوات الفرنسية كانت بطيئة في ردها رغم بدء المذبحة. وبالتالي لم يُفِد التقرير بتواطؤ فرنسا بشكل مباشر في الإبادة الجماعية, وسانده في ذلك تقرير آخر من المدعين العامين في باريس نُشر في وقت سابق من مايو 2021.
على أنه رغم الروايات الفرنسية بعدم وجود أدلة على تواطؤ فرنسي في الإبادة الجماعية, ورغم طلب اليمين المتطرف بفرنسا عدم الانصياع لمطالب الاعتذار, إلا أنه في أواخر مايو 2021 أقرّ الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” بشكل علني أثناء زيارته – التي تُعدّ الأولى لزعيم فرنسي إلى رواندا منذ أكثر من عقد – بمسؤولية بلاده في الإبادة الجماعية, وطلب العفو من الروانديين في النصب التذكاري للإبادة الجماعية المقيمة في “جيزوزي” بالعاصمة الرواندية “كيغالي” حيث دُفن قرابة ثلث ضحايا الفظائع.
وجاء في خطاب الرئيس الفرنسي “ماكرون” بعد وضع إكليل من الزهور على النصب التذكاري في كيغالي, قائلا:
“فرنسا تتحمل مسؤولية سياسية في رواندا ومن واجبها الاعتراف بنصيب المعاناة التي ألحقتها بالشعب الرواندي. .. لقد جئتُ لأعترف بمسؤولياتنا؛ لا يمكن (طلب) المغفرة والعفو إلا من الذين نجوا (من الإبادة الجماعية) فقط”.
الإبادة الجماعية في رواندا ودور فرنسا فيها
كانت أكبر المجموعات العرقية في رواندا هي هوتو التي تشكل حوالي 85 في المئة من عدد سكان رواندا, ثم توتسي التي تشكل 14 في المئة, و توا (Twa) التي تشكل حوالي 1 في المئة من عدد سكان البلاد – وفق تقدير الأمم المتحدة لعام 2018. وتختلف رواندا (ومنطقة البحيرات العظمى) عن باقي الدول الأفريقية في أنها لم تكن ضمن تقسيم مؤتمر برلين لعام 1884-1885, إذ بدلا من ذلك حُدِّد نطاق ملكيتها الجغرافية في مؤتمر بروكسل لعام 1890 الذي منح رواندا (وبوروندي) للألمان مقابل تنازل ألمانيا عن جميع مطالباتها في أوغندا.
وقد قبلت بلجيكا في نهاية الحرب العالمية الأولى انتداب عصبة الأمم لعام 1916 للحكم البلجيكي لرواندا (كواحدة من المملكتين اللتين شكلتا رواندا-أوروندي) – إلى جانب الكونغو في الغرب. وكان أساس هذا الحكم البلجيكي استغلال الانقسام العرقي وإشعال الاختلاف الثقافي والتنافس السياسي – النهج نفسه الذي سارت عليه ألمانيا عند حكمها لممالك ومجتمعات المنطقة, إضافة إلى تأجيج الصراع بالترويج لـ أفضلية عرقية معيّنة وأحقيتها للحكم على المجموعات العرقية الأخرى (كدعم حكم توتسي على هوتو, وغير ذلك).
وفي ظل الصراعات والانقسامات بين المجموعات العرقية انشغلت بلجيكا بتحقيق مصالحها في المنطقة متفرِّجةً على نزاعاتها. بل غيّرت بلجيكا معادلة القوة المهيمنة بشكل مفاجئ في أوائل عام 1960 عندما استبدلتْ معظم زعماء توتسي التقليديين بآخرين من هوتو, ونظّمت رواندا-أوروندي في منتصف العام نفسه انتخابات بلدية منحت هوتو أغلبية ساحقة؛ أُطِيح بالملك وأُلْغِي النظام الملكي في عام 1961 بدعم بلجيكا, وانفصلت رواندا عن أوروندي (بوروندي) حاصِلةً على استقلالها في 1 يوليو 1962 لتكون جمهورية سيطر عليها هوتو في أجواء مزقتها الصراعات.
وقد أُجريت الانتخابات في عام 1962 تحت رعاية الأمم المتحدة وفاز فيها حزب “حركة تحرير هوتو” (Parmehutu) بقيادة “غريغوري كايباندا” – أول رئيس رواندي منتخب. ومع استمرار الهجوم على توتسي وسياسات مؤيدة لهوتو؛ اضطرّ توتسي على مغادرة رواندا والاستقرار في دول الجوار كـ بوروندي وأوغندا وتنزانيا والكونغو الديمقراطية (زائير سابقا).
على أن الصراع الداخلي بين السلطة الرواندية التي هيمنت عليها هوتو أدى إلى انقلاب عام 1973 بقيادة “جوفينال هابياريمانا” – وزير الدفاع في حكومة “غريغوري كايباندا”. ومع ذلك، لم يُحدِث الانقلاب أي تغيير في وضع توتسي – وبالتالي واصلوا مقاومتهم (أي توتسي) ضد القوات المسلحة الرواندية من دول الجوار التي لجأوا إليها – خاصة أوغندا التي تركّزت فيها “الجبهة الوطنية الرواندية” (RPF) المتمردة بقيادة “فريد رويغيما” و “بول كاغامي”.
وفي حين أجبرت الاحتجاجات الرئيس “جوفينال هابياريمانا” على التفاوض مع “الجبهة الوطنية الرواندية” المتمردة وأحزاب معارضة محلية, ووقّع على اتفاقيات أروشا في أغسطس 1993 رغم استمرار القتل من قبل متطرفين من هوتو الذين عارضوا إبرام أيّ صفقة, إلا أن إسقاط الطائرة التي كانت تقل الرئيس “جوفينال هابياريمانا” (وهو من هوتو) في 6 أبريل 1994 حوّل المذبحة (الجارية قبل إسقاط الطائرة) إلى إبادة جماعية قُتل فيها ما بين 800 ألف ومليون شخص أغلبهم من توتسي خلال الأشهر التي أعقبت إسقاط الطائرة فقط, لتمتد فترة “الحرب الأهلية” الرواندية من 1 أكتوبر 1990 إلى 18 يوليو 1994.
ولكن, كيف قُتل أكثر من مليون شخص في غضون 100 يوم فقط؟
الإجابة تكمن في أن فرنسا قدمت للحكومة الرواندية في عام 1975 معونات عسكرية, وطوّرت علاقاتها مع رواندا في تسعينيات القرن الماضي عندما حلّت مكان بلجيكا – القوة الكولونيالية السابقة لرواندا. وبالتالي تمكنت القوات الرواندية -التي سيطر عليها هوتو – من التسلّح بأنواع الأسلحة الفرنسية الخطيرة التي استخدمها الجيش في استهداف مجموعة عرقية معينة (توتسي).
بل لم تذعن فرنسا لـ إنذارات بعض أفراد الجيش الفرنسي الذين حذروا هيئة الأركان الفرنسية وقتذاك بأن الدعم العسكري المقدم لـ هوتو كان يُستخدم في قتل الأبرياء بوحشية. وهناك من شككوا في حقيقة محاولة الرئيس الفرنسي وقتذاك “فرانسوا ميتران” بالتدخل في تلك المذابح عبر عملية عسكرية, بينما أشار باحثون آخرون إلى أن الجناة في هذه الفظائع كانوا محميين من قبل السلطات الفرنسية, وأن صمت فرنسا بشأن الجريمة يعني أن الفظائع كانت تدخل ضمن نطاق مصالحها ويفسر موقفها من النظر إلى مستعمراتها كملكيتها الخاصة.
وهناك وجهة نظر أخرى (مرفوضة لدى بعض الباحثين)؛ وهي أن الإبادة الجماعية في رواندا كانت نتيجة التنافس الفرنسي-البريطاني في بلد بريء؛ إذ كان هناك من يعتبر عرقية هوتو فرنكوفونيّة ومقرّبة إلى فرنسا, بينما كانت توتسي تحظى بدعم بريطانيا.
وقد بدأ الروانديون عمليات التعافي من الفظائع التي تحملها ذاكرة بلادهم بقيادة “بول كاغامي” – رئيس رواندا السادس والحالي التي تولى منصبه في عام 2000 وقاد “الجبهة الوطنية الرواندية” المتمردة من أوغندا والتي غزت رواندا في عام 1990. ويمكن ملاحظة ما يبذله الروانديون من جهود لإعادة بناء بلادهم من خلال التطورات التي تشهدها رواندا – بدءا من تغيير السياسة الوطنية للاعتراف بعرقية رئيسية واحدة فقط – وهو “الرواندي”. إضافة إلى مطاردة المتورطين الروانديين فى الإبادة الجماعية ومحاسبتهم بالتعاون مع المجتمع الدولي.
جدير بالذكر أن بعض المنظمات غير الحكومية والكنائس ومنظمات الإغاثة داخل رواندا وخارجها بدأت تعترف بدورها أيضا في الإبادة الجماعية في رواندا وتطلب “العفو” بشأن تورطها فيها. وقد اعتذر البابا “فرنسيس” في مارس من عام 2017 لرواندا وحمّل الكنيسة مسؤولية مؤسسية بسبب استسلام الكهنة والراهبات “للكراهية والعنف وخانوا رسالتهم الإنجيلية” من خلال مشاركتهم في الجريمة.
اعتذار فرنسا.. لماذا الآن؟
كانت سجلات فرنسا مثيرة للجدل في كل مستعمراتها بأفريقيا والانطباعات تجاهها غالبا ما تكون سلبية لدى معظم سكان أفريقيا. ولذا يرافق الشك كل خطوة تخطوها فرنسا داخل القارة.هذا بالرغم من إعلان الرئيس “ماكرون” – بعد فترة وجيزة من انتخابه في خطابٍ ألقاه في جامعة واغادوغو في بوركينا فاسو عام 2017 – أنه يرغب في الابتعاد عن السياسة الفرنسية التقليدية في إفريقيا والتراث الكولونيالي.
وبالنسبة لاعتذار فرنسا لرواندا بشأن دورها في الإبادة الجماعية؛ فقد يكون مجرد استراتيجية تبنّتها فرنسا بسبب تراجع نفوذها الاجتماعي والاقتصادي ولخسارة مَواطن تحكّمها داخل أفريقيا منذ العقدين الماضيين. ويؤكد هذا أن هناك راتفاع حادّ للأصوات الأفريقية المناهضة لفرنسا, كما أن محاولات تنمية القارة وتعزيز ازدهارها أدّت إلى مساعي إطلاق مشاريع ثقافية وبرامج اقتصادية ودعوات ضرورة استخدام الموارد الأفريقية لمصلحة أبنائها.
وعليه, فإن الاعتذار محاولة فرنسية لفتح صفحة جديدة مع الأفارقة من خلال طيّ الصفحات الماضية – بدءا من الاعتراف بأخطاء الماضي وطلب العفو عن المآسي التي خلفتها. وهذا يعني أن رواندا قد تكون الحلقة الأولى من الحلقات القادمة من فرنسا والتي قد تشمل دولا أفريقية أخرى بما فيها الجزائر, حيث يمكن ملاحظة نبرة صوت “ماكرون” الذي سافر من رواندا إلى جنوب إفريقيا وتعهّد فيها بـاستعداد فرنسا لدعم أفريقيا لإنتاج لقاحات كورونا, كما ناقش مع رئيس جنوب أفريقيا “سيريل رامافوسا” أزمات إقليمية بما فيها التمرد المسلح في موزمبيق.
وقد قال مصدر من الإليزيه:
“قضية تورط فرنسا في رواندا لا تتعلق فقط بتاريخنا الوطني أو بالعلاقة الثنائية مع رواندا. .. الأمر يتعلق أيضا بعلاقة فرنسا مع القارة بأكملها”.
على أنّ فرنسا – إذ تحاول استيعاب المشاعر المناهضة لها بين سكان أفريقيا؛ فإنها أيضا تواجه تصاعد التحذير ودوات الاجتناب عنها بين رجال الأعمال الأفارقة داخل القارة وفي الشتات. كما أن الساسة المعارضين ومنظمات حقوق الإنسان في أفريقيا ينتقدونها على سكوتها عن ارتكابات الحكومات والرؤساء المدعومين من قبل فرنسا في الدول الفرنكوفونية.
وفي وجهة نظر الفيلسوف الكاميروني البروفيسور “أشيلي امبمبي”, فإن وقوف فرنسا وراء الأنظمة المستبدة ضمن أسباب طلب سكان أفريقيا مغادرتها لأراضيهم. إذ قال “امبيبي”:
“أستطيع أن أقول هذا … ما يغضب الناس قبل كل شيء هو دعم فرنسا الأعمى للأنظمة الوحشية والدموية في بعض الأحيان باسم الاستقرار، وهو استقرار زائف لا يبدو أن السكان يستفيدون منه”.
وعلى ما سبق, لا جدوى من اعتذار فرنسا حول دورها في الإبادة الجماعية الرواندية ما لم تتراجع عن التلاعب بحكومات الدول الأفريقية والتخلي عن استرايتجية فرض سيطرتها لمصالحها السياسية والاقتصادية الخاصة. بل الخطوة الأولى والأساسية التي يجب اتخاذها أن تعترف فرنسا أولا بسوء خياراتها السياسية التي دفعتها إلى دعم الإبادة الجماعية في رواندا, ثم الاعتراف بتواطئها في هذه الفظائع مع التعهد بالتخلي عن هذه الخيارات وتلك السياسات.
وفي حدّ تعبير “فرانسوا غرانر” – أحد أبرز الباحثين الفرنسيين في الإبادة الجماعية برواندا:
“لقد غضّت فرنسا طرفها عن المجازر وواصلت دعم هوتو من أجل الحفاظ على نفوذها في المنطقة. .. القضية هي أننا إذا لم نستخلص هذه الدروس السياسية الحاسمة، فلا داعي لعدم تكرار التاريخ نفسه، لأن السياسة الفرنسية لم تتغير (إلى اليوم)”.
اعتذار لإعداد سيناريوهات أخرى؟
من المفارقات المثيرة أن اعتذار فرنسا لرواندا تزامن مع جهود فرنسية أخرى لإحكام سيطرتها في دول أفريقية أخرى, كالكاميرون وتشاد ومالي, وكأن فرنسا لا تبالي بالمضي قدما نحو تنفيذ الخيارات السياسية التي تغذي المشاعر الشعبية المناهضة لها – في ظل ادعاء السعي وراء فتح صفحة جديدة مع سكان القارة.
ففي أواخر العام الماضي (2020) اتضح أن الطريق مسدود أمام المشروع الطموح المتمثل في عملة “ايكو” الغرب أفريقية, وأن إطلاقه سيستغرق خمس سنوات أخرى بعدما اختطفته فرنسا بإدخال مشروع العملة تحت وصايتها وجعْلِها نسخةً جديدة من عملة “فرنك سفا” الكولونيالية الفرنسية.
وفي المسار نفسه, تستمرّ التدخلات العسكرية للجيش الفرنسي في منطقة الساحل؛ ففي حين تقول فرنسا إنها تدعم جيوش مالي وبوركينا فاسو وتشاد وموريتانيا والنيجر في محاربة الإرهابيين, فإن الرأي العام يرى أن التدخل الفرنسي يفاقم الوضع وأنه كان للمصلحة الفرنسية غير المعلنة. وقد اتُّهِم الجيش الفرنسي في يناير الماضي بشنّ ضربات جوية على مواطنين عزل في مالي, بينما تجري حاليا محاكمة مواطن فرنسي مُتّهم بالتجسّس في جمهورية أفريقيا الوسطى.
ويدخل في السياق السابق أيضا مزاعم دعم فرنسا للاستقرار في تشاد – الحليف الفرنسي الرئيسي في منطقة الساحل، وادعاء وقوفها وراء الديمقراطية في مالي؛ إذ في خطابه في جنازة الرئيس السابق “إدريس ديبي” أعلن الرئيس “ماكرون” استعداده للتعاون مع النظام الجديد مع إشارة باستمرار وجوده في المنطقة وإضفاء الشرعية على استيلاء “محمد ديبي” – نجل الرئيس الراحل – والقيادة العسكرية للسلطة. وفي المقابل تدّعي فرنسا السعي وراء إرساء الديمقراطية في مالي التي تسحب دعمها عنها وتدفع المجتمع الدولي إلى فرض العقوبات عليها بعد انقلاب مايو الأخير.
ومهما يكن, فإن إصلاح فرنسا علاقاتها مع رواندا أو معالجة المشاعر المناهضة لها قد يكونان حلا مؤقتا فقط. بل من المحتمل ألا يؤثرا في سكان الدول الأفريقية الأخرى (غير رواندا), وذلك لأن فرنسا تحفر لنفسها وفي الوقت الراهن حُفَرًا جديدة في دول مثل تشاد ومالي, ولموقفها المتشدد في الآونة الأخيرة تجاه الإسلام ومسلمي فرنسا الذين ترجع أصول نسبة كبيرة منهم إلى مناطق مختلفة بأفريقيا.
- باحث نيجيري مهتم بالتحولات السياسية والقضايا الاجتماعية والتنموية والتعليمية.
- حاصل على دكتوراه في الأصول الاجتماعية والقيادة التعليمية من الجامعة الإسلامية بماليزيا.