كيف نفهم الصراع بين فرنسا وروسيا في جمهورية إفريقيا الوسطى؟

في السنوات الأخيرة، عززت روسيا وجودها العسكري في جمهورية إفريقيا الوسطى، مما أثار استياء فرنسا التي اعْتَبَرت هذه الدولة غير الساحلية حديقتها الخلفية وضمن الدول التي لا تزال تهيمن عليها لكونها مستعمراتها السابقة. ومنذ استقلال جمهورية إفريقيا الوسطى في عام 1958م شهت البلاد خمس انقلابات عسكرية آخرها انقلاب قاده “ميشيل دوتوجيا” عام 2013م وعلى إثره انزلقت البلاد في فوضى لم تخرج منها حتى الآن رغم الانتخابات الرئاسية التي شهدتها البلاد في كل من 2015/2016 و2020 والتي فاز فيهما الرئيس الحالي “فوستين أركانشج تواديرا”؛ هذه الفوضى أفسحت المجال لتدخل دول ومنظمات إقليمية وعالمية في شؤون البلاد، من ضمنها روسيا ومنظمتها الأمنية الخاصة “فاجنر”.

وقد فقد الساسة والقادة العسكريون في جمهورية إفريقيا الوسطى الثقةَ في الإدارة الفرنسية التي كانت تتدخل باستمرار في شؤون البلاد مما عرقل عمليات النمو والاستقرار منذ الاستقلال، وأصبحوا يبحثون عن أي مخرج يمكنهم من التخلص من القبضة الفرنسية ولو نسبيا؛ فوجد الرئيس المنتخب “فوستين أركانشج تواديرا” في الحليف الروسي مبتغاه وذلك منذ عام 2018م عندما قام بإحياء الاتفاقيات القديمة بين روسيا وجمهوية إفريقيا الوسطى، وطلب رسميا من روسيا مساعدات عسكرية وتدريب الجيش الوطني وتأهيله.

انتهزت روسيا الفرصة ونزلت بكل ثقلها في جمهورية إفريقيا الوسطى, وكشفت تطورات الأشهر الماضية أن لديها خطة أبعد من مجرد مساعدات وتدريب عسكري؛ إذ أصبح الروس يحتلون مكانة مرموقة في القصر الرئاسي ومن خلاله يتحكمون في الوزارات والمرافق الحكومية الأخرى.

وقد حاولت فرنسا تدارك أخطائه الاستراتيجية في البلاد، ولكنها فشلت في ذلك بسبب تراكم المعارضات على وجودها والأزمات السياسية والأمنية في أكثر من دولة بمنطقة أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، مثل أزمة مالي والنيجر وتشاد وليبيا.

التواجد الروسي في جمهورية إفريقيا الوسطى

لروسيا تواجد في أكثر من دولة أفريقية، بما فيها السودان وجمهورية الكونغو الديمقراطية وغينيا وغيرها, ولكن تواجدها في جمهورية إفريقيا الوسطى يعتبر المختبر الفعلي لاستراتيجيات روسيا في إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى, حيث استغلت روسيا الفرصة للتدخل في عندما استنجد بها الرئيس “تواديرا” في يوليو عام 2018م؛ فأرسلتْ مجموعة من الضباط والمدربين “المدنيين” الذي تبيّن لاحقا أنهم تابعون للشركة الأمنية الروسية “فاجنير”. وكانت مهمة هؤلاء اختبار الوضع في البلاد مع تقديم تقارير استخباراتية للسلطات الروسية – وهو النموذج نفسه الذي استخدم في كل من سوريا وليبيا.

وقد تفاجأت فرنسا, التي لم تُعِرْ اهتماما كبيرا للتدخل الروسي في بدايتها, بأن روسيا قد توغّلت في أماكن حيوية كثيرة ومناطق ثروة هائلة شملت مناجم الماس والذهب، فضلا عن التحكم في مرافق الدولة بما فيها القصر الرئاسي؛ حيث أصبح الروسي “فاليري زاخاروف” مستشار الأمن القومي لرئيس جمهورية إفريقيا الوسطى “تواديرا”، وأصبح الهدف الرئيس للروس فكّ الارتباط التاريخي بين فرنسا وجمهورية إفريقيا الوسطى حتى تستطيع أن تبرهن للدول الأخرى أنها الحليف البديل لفرنسا والأقوى في المنطقة.

وبناء على هذا التقارب الروسي الأفرووسطي، حصلت الشركات الروسية التابعة لمجموعة “فاجنر” على تصاريح حكومية لتعدين الماس والذهب في مناجم مختلفة بالبلاد. وفي المقابل تقوم موسكو بتزويد جمهورية إفريقيا الوسطى بالأسلحة وتناضل على المستوى الدولي من أجل رفع الحظر الذي تفرضه الأمم المتحدة على جمهورية إفريقيا الوسطى منذ عام 2013.

وبالتالي, خسرت فرنسا تأييد الحزب الحاكم بقيادة الرئيس “تواديرا”، وأصبحت تراهن على الميلشيات المسلحة من “سيليكا” و “أنتي بالاكا”, كما زاحمتْ الروس في استخدام الحروب الإعلامية والأخبار المزيفة كاستراتيجية التأثير على الرأي العام؛ إذ كشفت فيسبوك في ديسمبر الماضي أن بعض الحسابات, التي نشرت معلومات كاذبة خلال الحملة الانتخابية في جمهورية إفريقيا الوسطى في عام 2020, كانت مرتبطة بأجهزة المخابرات الروسية والجيش الفرنسي.

جدير بالذكر أنه في عام 2019 استطاع الروس إقناع حكومة جمهورية إفريقيا الوسطى والجماعات المسلحة بالتفاوض وتوقيع اتفاقية سلام من أجل الخروج من هذه الأزمة السياسية والأمنية. ولعبت حكومة الرئيس السوداني السابق “عمر البشير” دور الوسيط حيث نجحت في عقد لقاء بين حكومة “تواديرا” وميليشيات “سليكا” و “أنتي بالاكا” في الخرطوم في 17 أغسطس 2019. ونتج عن هذا الاجتماع توقيع اتفاق شمل عدة بنود، منها وقف إطلاق النار وضمان حرية تنقل الأفراد والبضائع في جميع أنحاء جمهورية إفريقيا الوسطى وأن تحافظ كل مجموعة مسلحة على أماكن سيطرتها لتضمن الأمن وغيره، إضافة إلى تشكيل حكومة توافقية تضمّ أعضاء من المليشيات المسلحة والأحزاب المعارضة الأخرى.

ومن الواضح أن هذا الاتفاق الذي قادته الخرطوم لعبَ دورا كبيرا في تحقيق سلام نسبي في جمهورية إفريقيا الوسطى، إذ على إثره بشهدت البلاد نسبة من الازدهار وكما تنفّس المواطنون البسطاء الصعداء بسبب الاستقرار الأمني الذي استمرّ لأكثر من عام، لتعود الاضطرابات مرّة أخرى وقت بدء الحملة الانتخابية في ديسمبر 2020.

انتخابات عام 2020 وتحالف الميليشيات

كان الاعتقاد السائد أن فرنسا حاولت عرقلة عملية الانتخابات من خلال عملائها السياسيين, وفي مقدمتهم رئيس البرلمان “عبد الكريم ميكاسوا”؛ حيث طالب هؤلاء السياسيون تأجيل الانتخابات الرئاسية بحجة عدم توفر الأمن لجميع المواطنين من أجل المشاركة في الانتخابات، وعندها تنتهي الفترة الرسمية للرئيس الحالي “تواديرا” وسيجب عليه تشكيل حكومة انتقالية لإدارة البلاد حتى موعد الانتخابات الذي سيحدد لاحقا.

على أن الهدف وراء مطلب السياسيين المعارضين وإجراءاتهم أنهم يريدون إحداث فراغ دستوري، ومن ثم يصبح الرئيس “تواديرا” غير شرعي ويكون مثله مثل أي مواطن عادي يجب عليه تقديم ملف ترشحه للمحكمة الدستورية لتنظر فيه – وهذه المحكمة قد تمنعه من الترشح لسباق منصب الرئاسة. وهي الإجراءات نفسها التي واجهها الرئيس الأسبق المخلوع “فروانسوا بوزيزي”.

وقد رفضت الحكومة هذا المطلب جملة وتفصيلا، وأصرتْ على إجراء الانتخابات في موعدها المجدول؛ واعتراضا على هذا الرفض أعلن الرئيس المخلوع “فرانسوا بوزيزي” تمرده المسلح ضدّ الرئيس الحالي “تواديرا”، والتحق بالميليشيات المسلحة وكوّن تحالفا جَمَع بين فصائل من “سيليكا” (ذات الأغلبية المسلمة) وأخرى من “أنتي بالاكا” (ذات الأغلبية النصرانية), وسموه بـ “الائتلاف الوطني من أجل التغيير” (Coalition of Patriots for Change = CPC), وذلك في 15 ديسمبر 2020.

وقد قام التحالف الجديد بهجمات منظمة ومنسقة قُبيل الانتخابات بأسبوع، بهدف تطويق العاصمة وإجبار الرئيس “تواديرا” على إجراء مفاوضات ومحادثات بشأن تأجيل الانتخابات والمطالبة بالمشاركة السياسية والعسكرية في الحكومة. لكن “تواديرا” رفض هذه المطالب, فاندلعت معارك في جبهات مختلفة؛ فاستعانت الحكومة بحلفائها العسكريين, وعلى مقدمتهم روسيا ورواندا والكونغو الديموقراطية, بالإضافة إلى تدخل قوات حفظ السلام الدولية التابعة للأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي.

ومن جانب آخر, وجدتْ روسيا أن الفرصة سانحة لقطع يد فرنسا الممتدة والمتمثلة في عملاء فرنسا المعارضين لـ “تواديرا”, وخاصة الحركات المسلحة في التحالف الجديد؛ فعززت روسيا قواتها ومعداتها العسكرية، وشنّت حربا ضروسا ضدهم مما أدى إلى استعادة قوات الحكومة لأكثر المدن والمناطق التي كان يسيطر عليها تحالف الميليشيات.  وقد أجريت الانتخابات فقط في العاصمة بانغي وبعض مدن مجاورة لها, واكتسب الرئيس “تواديرا” شعبية كبيرة بين الناخبين، بينما خسر تحالف المتمردين المسلحين شعبيته بين أطياف المجتمع , حيث تغيّرت النظرة العامة للتحالف من حركة تسعى إلى التغيير إلى حركة تبحث عن مصالحها الشخصية فقط. وقد طُورد التحالف المسلح إلى الحدود التشادية والكاميرونية، بل ودخل بعض مقاتليه تشاد بينما اختبأ آخرون في الغابات والمغارات المختلفة.

العامل التشادي في أزمة جمهورية أفريقيا الوسطى

تشترك جمهورية إفريقيا الوسطى وتشاد بحدود برية طولها 1197 كيلومترا، وهي أطول حدود برية دولية لجمهورية أفريقيا الوسطى وثاني أطول حدود دولية لدولة تشاد (بعد حدودها مع السودان). فبحكم الجوار والتداخل الثقافي والإثني والجغرافي بين تشاد وجمهورية إفريقيا الوسطى, يصعب أحيانا التفريق بين الشعبين خاصة أولئك الذين يعيشون في المناطق الحدودية. كما أن الحضور التشادي ملاحظ في جمهورية إفريقيا الوسطى, حيث تمّ التعاون العسكري من خلال طلب خاص لرئيس البلاد أو ضمن نطاق قوات حفظ السلام الإقليمية.

على أن العلاقة بين البلدين اتخذت منحى آخر منذ عام 2003 عندما دعمت تشاد التمرد الذي قاده الرئيس المخلوع “فرانسوا بوزيزي” ضدّ أول رئيس منتخب لجمهورية أفريقيا الوسطى “آنج فيليكس باتاسي”. كما أن قوات حرس “بوزيزي” الرئاسي تكونت من القوات الخاصة التشادية، حيث يقومون بحمايته في بيته وفي جميع تنقلاته من عام 2003 حتى عام 2013 عندما اختلف “بوزيزي” مع هذه القوات التشادية واستبدلهم بآخرين من جنوب إفريقيا, ما أدى إلى ظهور تمرد في شمال جمهورية أفريقيا الوسطى بقيادة “سيليكا” ذات الأغلبية المسلمة التي أطاحت بـ “بوزيزي” في مارس 2013م. وقد أشارت تقارير إلى وجود مرتزقة من السودان وتشاد في صفوف “سيليكا” وقتئذ؛ ولكن “سيليكا” فشلت في إدارة البلاد بعد “بوزيزي” وعمت الفوضى مما استدعى تدخل قوات حفظ السلام الإقليمية والدولية.

والجدير بالذكر أيضا أن الجيش التشادي شارك ضمن قوات حفظ السلام الإقليمية في جمهورية إفريقيا الوسطى, واتُّهِم الجيش التشادي بارتكاب جرائم ضدّ المدنيين والتعاطف مع “سيليكا”. وعلى إثر هذه الاتهامات قررت تشاد الانسحاب الكلي من جمهورية إفريقيا الوسطى وأعلنت عن إغلاق حدودها بشكل تام. ومع ذلك لم تمنع هذه الإجراءات من التسلل عبر الحدود لعناصر “سيليكا” وغيرهم. بل في وجهة نظر حكومة “بانغي”؛ كانت تشاد شريك أساسي في زعزعت أمن  واستقرار جمهورية إفريقيا الوسطى.

على أنه في يونيو 2021 نفّذ جيش جمهورية إفريقيا الوسطى، مدعوما بمرتزقة “فاجنر”، هجوما على قرية تقع سبع كيلومتر داخل الحدود التشادية أثناء مطاردة بعض عناصر من التحالف المسلح في شمال شرقي البلاد، وقُتل بسببها ستة جنود تشاديين مما سبب أزمة دبلوماسية بين البلدين أجبرت الرئيس “تواديرا” إلى إرسال وفد رفيع المستوى إلى انجامينا لتسوية الأمور. وقد رأى مراقبون أن هذه العملية متعمدة من قبل روسيا, حيث كانت بمثابة رسالة روسية موجهة من إلى فرنسا وعملائها بأنها مستعدة لتصعيد الأمر، وأنها مستعدة لدخول حرب طويلة المدى مع فرنسا، التي تمثّلها تشاد وتحالف المليشيات.

وإذا كان البعض يرون أن وفاة الرئيس التشادي”إدريس ديبي” قد قلّبت المعادلة بسبب ما تواجهه تشاد من أزمة سياسية؛ فقد استطاعت السلطات في أفريقيا الوسطى فرض سيطرتها في الوقت الراهن على أكثر من 85 في المئة من مواقع تحالف المليشيات في شمال شرق البلاد وجنوبها، كما أن بقية فصائل “سيليكا” التي لم تنضم إلى التحالف قد أعلنت ولاءها للحكومة.

وبالتالي يسيطر الرئيس “تواديرا” في الوقت الراهن على معظم أراضي جمهورية أفريقيا الوسطى, كما فرض فيها هيبة الدولة التي غابت عنها لأكثر من عقد, الأمر الذي يعزز شعبيته بين سكان البلاد.

وقد سُجّلت عدة انتهاكات وجرائم ضد المدنيين, شملت التعذيب والقتل ونهب المنازل وغيره, إثر المواجهات العسكرية وأعمال عنف المليشيات في مدن كثيرة, مثل”بامباري” و “كابو” و “بيريا” و “مالوم” وما حولها من قرى ومجمعات سكنية. وأكّدت لجنة الخبراء التي تراقب العقوبات المفروضة على جمهورية إفريقيا الوسطى في تقرير من 40 صفحة أنها جمعت “شهادات” من السكان والمسؤولين المحليين وأفراد من الجيش وقوات الأمن بتورط المدربين الروس في ارتكاب هذه الجرائم والتجاوزات, ولكن المتحدث باسم الكرملين، “ديمتري بيسكوف” نفى بشكل قاطع تورط المدربين الروس في تلك الاتهامات.

خاتمة

العلاقة بين روسيا وحكومة جمهورية إفريقيا الوسطى تزداد تقاربا على الرغم من غياب أجندة سياسية واضحة في الوقت الحالي حيث لا تزال العلاقة ترتكز على الاتفاقيات الثنائية بين رئاسة جمهورية أفريقيا الوسطى والشركة الأمنية الخاصة الروسية (فاجنر). وقد فشلت حكومة جمهورية أفريقيا الوسطى في محاولاتها المتكررة لإضفاء الشرعية على هذه العلاقة وتمرير التعاقدات مع الشركة الروسية عبر البرلمان. ومع ذلك لم يمنع الرفض البرلماني من توغّل الروس في جلّ مفاصل البلاد، حيث أصبحوا يتحكمون في كثير من القرارات والبرامج الحكومية.

ومن جانب آخر, استطاع الرئيس “تواديرا” التغلب على خصومه من الميليشيات المسلحة، خاصة “التحالف الوطني من أجل التغيير” (CPC) بقيادة الرئيس السابق “فرانسوا بوزيزي” المتهم بالعمالة لفرنسا. ولعب المرتزقة الروس دورا بارزا في محاربة هذا التحالف جنبا إلى جنب مع القوات الرواندية. وقد خسر هذا التحالف كل مواقعه تقريبا في جنوب البلاد وشرقها، بينما اتُّهِم الجيش الوطني الذي تقوده عناصر من “فاجنر” بارتكاب جرائم ضدّ المدنيين في مدن ومناطق مختلفة.

وعليه، فإن روسيا تُعتبر الأقوى في الصراع الروسي-الفرنسي بجمهورية أفريقيا الوسطى وصاحبة الكلمة المسموعة لدى حكومة البلاد، كما أنها تحظى بقبول أكبر من فرنسا في العاصمة “بانغي” وما حولها. ومع ذلك, تُنظَر إلى روسيا نظرة سلبية في مدن أخرى وقرى كثيرة نتيجة الفظائع التي ارتكبتها عناصر “فاجنر” ضدّ المدنيين، كما أن وجود الروس في البلاد مرهون بوجود الرئيس الحالي “فوستين أركانج تواديرا”, حيث تشير كل المؤشرات إلى خسارة مطلقة لروسيا بمجرد انتهاء حكمه.

 

كاتب اقتصادي من جمهورية إفريقيا الوسطى, وباحث دكتوراه في الاقتصادي الإسلامي.

أزمة جمهورية إفريقيا الوسطىالصراع الفرنسي-الروسيتشاد وأفريقيا الوسطى
Comments (0)
Add Comment