باماكو و وقف إتفاق الجزائر: قراءة في الرهانات والتداعيات

شهدت العلاقات المالية الجزائرية منذ النصف الثاني لسنة 2023 توترات واضحة المعالم، طبعت في أغلبها تباينات في المواقف الثنائية حول الأحداث والتصادمات الميدانية بدولة مالي، والتي ساهمت في تقويض حالة الاستقرار خاصة بالأراضي والأقاليم التي انسحبت منها القوات الفرنسية وعناصر حفظ السلام الأممية، وقد مثّل مطلع السنة الجارية ذروة التشنج في التعاطي السياسي الدبلوماسي بين البلدين، كان آخره قرار السلطات المالية أُحادي الجانب بإنهاء العمل باتفاق السّلم والمصالحة المعروف باتفاق الجزائر 2015، الذي تمّ إبرامه لإنهاء حالة الصراع والإقتتال الداخلي بشمال البلاد، وهو القرار الذي من شأنه أن يفتح الأبواب والمجال أمام قراءات وتحليلات مختلفة حول مستقبل الوضع الأمني بدولة مالي ومنطقة السّاحل الأفريقي.

تحاول هذه الورقة البحثية أن تعالج بالدراسة والتحليل الأبعاد والعوامل الأساسية المؤثرة بالسياق السياسي لبيئة وخلفية القرار المالي، وكذا رصد التداعيات المحتملة لخطوة إنهاء العمل باتفاق الجزائر للسلم والمصالحة، وتبيان مختلف الإنعكاسات والسيناريوهات الممكنة على الأوضاع الأمنية لدولة مالي، والتأثيرات الإقليمية المتوقعة جرّاء تنامي مؤشرات الممارسات العدائية المسلحة بشمال البلاد، الأمر الذي قد يُعيد دولة مالي إلى  المربع الأوّل لحالة اللاأمن التي عاشتها نهاية العقد الأوّل من الألفية الجديدة.

القرار المالي.. السياق والخلفيات

من الضروري جداً قبل التعمّق في تحليل أبعاد وتداعيات القرار المالي الأخير، بإعلان إنسحابها من ترتيبات بنود إتفاق الجزائر 2015 الذي رسّخ لبصيص من الأمل لتحقيق الأمن والإستقرار بالبلاد، عقب فترة زمنية من الصراع المسلح منذ سنة 2010 بين قوات الجيش المالي من جهة، وتشكيلات مسلحة غير نظامية بشمال البلاد من جهةٍ أخرى، أدخلت المجتمع المالي في دوامة من العنف والتصفيات العرقية القبلية[i]، واتّساعٍ لرقعة النزوح والهجرة السّكانية الداخلية وخارج البلاد باتجاه دول الجوار الشمالي، والتي مثّلت الجزائر أحد أبرز هذه الوجهات المقصودة، مع إصرار الأخيرة على تبني مقاربة ثنائية (الأمن والتنمية)[ii] لمجابهة هذه الظاهرة المتنامية منذ إندلاع الصراع الداخلي بمالي، وجعل من الجزائر الدولة الأكثر إستحقاقاً للعب دور الوساطة وإنفاذ إتفاق سلام فاعل.

منذ ذلك الحين خبِرت سلطات الحكم في دولة مالي عديد التجارب والتحديات لإدارة البلاد، وأثرت في مجملها على الوضع العام للإستقرار السياسي الأمني السّائد، ونتيجةً لإعتبارات صراعات المصالح وتوازنات القوة الداخلية، وكذا لطبيعة التحوّلات الجيوسياسية بالقارة الأفريقية بشكلٍ عام ومنطقة السّاحل بشكلٍ خاص، إصطدم الواقع السياسي المالي بقيام موجات إنقلابية عسكرية متتالية بدايةً من سنة 2020، أعقبتها بعد ذلك الإستيلاء على السلطة بتاريخ 24 ماي 2021 من قبل الضابط أسيمي غويتا ومناصريه[iii]، وهي الخطوة التي قوبلت بتنديد دولي (الولايات المتحدة الأمريكية، فرنسا، الإتحاد الأوروبي..) وإقليمي واسعين، ولم يُخفِ الرّئيس الفرنسي[iv] حينها رغبته في سحب قواته العسكرية (حوالي 5100 جندي في إطار عملية باراخان) من البلاد في حالة ما إذا تأكّد توجه باماكو صوب إقامة نظام راديكالي، وتباينت تحليلات المتتبعين وتفسيراتهم حول دوافع وأسباب الإنقلاب على إعتبار أنه نتيجةٌ حتميىة لسببين رئيسيين[v]، الأوّل متعلق بالتراكمات النخبوية الصراعية (الشمالي /الجنوبي) ذات الطابع التاريخي منذ إستقلال البلاد مطلع الستينات، فيما يتمثّل الثاني في التغيُرات الناجمة عن حالة التنافس الدولي المحتدم بمنطقة السّاحل الأفريقي، خاصةً بعد تصاعد الدور الرّوسي المتزايد في مقابل التواجد الفرنسي.

وتبعاً للتغيرات السياسية والأمنية التي شهدتها منطقة السّاحل الأفريقي ككل ومنطقة غرب أفريقيا، شهدت دولة مالي تصعيداً مفاجئاً في حدة التوتر بالإقليم الشمالي من البلاد، أين خاض الجيش المالي حملات عسكرية مختلفة بمحاور قتالية عدّة وسط وشمال البلاد[vi]، خاصّة في الفترة الممتدة مابين شهري أوت – ديسمبر 2023، كانت كلها ضد الجماعات المسلحة غير النظامية على غرار جماعة نصرة الإسلام[vii]..وفي هذا الإطار رصدت تقارير هيئة Armed Conflict Location & Event Data Project (ACLED)[viii] المختصة في النزاعات المسلحة أنّ سنة 2023 عرفت تزايداً ملحوظاً في نسبة إستهداف المدنيين فاقت %38، بحيث تسببت قوات الجيش المالي مدعومةً بتنظيم فاغنر الروسي بحوالي %29، إلى جانب %33 من إجمالي الأحداث عبر هجمات جماعة نصرة الإسلام أين قُدّر عددها بحوالي 180 هجوم، إضافةً إلى مانسبته %15 من طرف تنظيمات مسلحة غير نظامية أخرى بالشمال.

بتاريخ 25 جانفي 2024 أعلنت سلطات المجلس الإنتقالي الحاكم بدولة مالي عن إنهاء العمل بإتفاق الجزائر للسلم والمصالحة المبرم سنة 2015، وقد علّل الناطق باسم الحكومة عبد الله مايغا[ix] موقف بلاده إزاء هذه الخطوة في بيان رسمي متلفز بعدّة تبريرات ودوافع، بدأها بكون الجزائر مارست أعمالاً عدائية تجاه دولة مالي تدخل ضمن دائرة التّدخل الصارخ في الشؤون الداخلية للبلاد، وذلك على إثر اللقاءات الرّسمية الجزائرية مع ممثلي تنظيمات إنفصالية متمردة تنشط بشمال مالي، وكذا إستقبال شخصيات معروفة بمناوأتها للسياسة المالية على غرار الشيخ محمد ديكو، مما يجعل الجزائر حسب السلطات المالية دولة غير مؤهلة لتولي دور الوساطة بشكلٍ حيادي، وقد سبق هذا القرار إستدعاء السفير الجزائري بباماكو للتنديد بما تسميه السلطات المالية تعديّاً على سيادة الدولة من الجزائر، ومن جانب آخر إعتبرت السلطات الجزائرية في بيانٍ لوزارة الخارجية الخطوة المالية بأنها إستندت لإدعاءات غير واقعية، فيما أكّدت على أنّ القرار كان مُخططٌ له مسبقاً للتنصل من ترتيبات إتفاق الجزائر، الأمر الذي من شأنه أن يدخل البلاد والمنطقة في دوامة عنف ولا إستقرار جديدة، هذه التطوّرات وغيرها من الإنعكاسات فتحت المجال واسعاً لقراءات وتحليلات المتتبعين حول الرّهانات المالية جرّاء تبني باماكو لهذا التوجه من جهة، وكذا التداعيات المتوقعة على أمن واستقرار المنطقة ككل من جهةٍ أخرى.

باماكو ورهانات ما بعد الانسحاب من اتفاق الجزائر

بالرّغم من أنّ قرار القيادة الإنتقالية بالعاصمة باماكو إنسحابهم وإنهاء العمل بإتفاق الجزائر 2015، بدا للوهلة الأولى مفاجئاً لعدّة أوساط بحثية متباينة، إلا أنه بالنسبة لمتتبعي شؤون منطقة السّاحل الأفريقي عموماً، وللوضع السياسي- الأمني بدولة مالي على وجه الخصوص لم يتفاجأ بهذه الخطوة، وهذا ما عبّر عنه بشكلٍ صريح بيان وزارة الخارجية الجزائرية عند تعليقه على قرار الجارة الجنوبية، وعلى ضوء هذه المعطيات فإنّ المقاربة المالية لا تخلُ من إعتمادها على تصورات وقراءات مُعدّة مسبقاً، تساعدها في إبقاء الأسبقية والمقدرة على التحكم أكثر بزمام توازنات القوة الوطنية والإقليمية، تدخل كلها ضمن حزمة رهانات قد تتبناها السلطات في البلاد، للإستفادة إيجابياً من حالة فك الإرتباط أحادي الجانب من الاتفاق، بدل العودة إلى مربع العنف الأوّل، ويمكن إعتبار الإستناد للدعم الخارجي عن طريق قوات فاغنر الروسية من جهة، وتوليفة التحالفات الإقليمية المستقبلية الجديدة من جهةٍ أخرى، أحد أبرز هذه الرهانات الفاعلة على الإطلاق.

على مدى السنتين الماضيتين شهدت منطقة الساحل الأفريقي تحوّلات وتطورات متسارعة، تضمنت في مجملها مؤشرات بالغة الأهمية على إحتمالات تغيُّرات على خارطة التحالفات الإقليمية والدولية الفاعلة بربوع دول الإقليم، وفي هذا الإطار فقد صُنّفت الحركات الإنقلابية التي مسّت كلٌّ من بوركينافاسو، مالي والنيجر، ضمن سلسلة وموجة الظاهرة الإنقلابية التي ضربت عديد الدول الإفريقية خاصة بغرب القارة، ومنذ ذلك الحين تبلورت معالم تكتّل إقليمي جديد يربط الدول الثلاثة المذكورة، جعلت من مناوءة التواجد والنفوذ الفرنسيين هدفاً لها، واستخدمت بذلك عدّة مقاربات وآليات سياسية وأمنية، وتزامنت هذه التوجهات مع اتساع لرقعة التنافس الدولي بالمنطقة، فبالإضافة للأدوار المتعاظمة لروسيا الإتحادية، تزايد التسابق مابين الولايات المتّحدة الأمريكية والصين، مدفوعتان بوفرة المنطقة على إمكانيات إقتصادية هامة وكذا الفراغ الذي أحدثه التراجع الفرنسي على الساحة[x]، وقد سعت الدول الثلاثة في ذات السياق للعمل على تغيير قواعد اللعبة إقليمياً، كان آخرها إعلان الانسحاب الثلاثي أحادي الجانب من تكتّل الإيكواس لدول غرب أفريقا بتاريخ 28 يناير 2024، على إثر العقوبات الاقتصادية الصارمة التي تبنّاها التكتل في حقها، مع تعليق عضويتها في التكتل الإقليمي وفرض منطقة حظر جوي على الرحلات الجوية التجارية، فضلاً عن إغلاق الحدود البرية والبحرية، وكذا تجميد الأصول التي تحتفظ بها هذه الدول في البنوك المركزية للمجموعة[xi].

ويستند الرهان المالي في سياساته الجديدة، خاصّة عقب إعلانه الانسحاب وإنهاء العمل باتفاق الجزائر، إلى الرؤية الثلاثية المتصاعدة إلى جانب كل من بوركينافاسو والنيجر، بتشكيلهم تحالف وجبهة أمنية جديدة تعمل خارج صندوق المنطق “القديم” لمنطقة غرب أفريقيا المدعوم من السلطات الفرنسية صاحبة الوجود التقليدي، وهذا ما يُفسر خروج الدول الثلاثة هن تحالف دول السّاحل G5 وتشكيل تحالف إقليمي جديد تحت مسمى AES  منذ سبتمبر 2023، بهدف تنسيق التعاون المشترك، ودعم أي دولة من داخل دول الحلف تواجه أي تهديدات داخلية أو خارجية[xii]، وقبله إستقدام قوات فاغنر الرّوسية التي يتاوز وجودها الدور العسكري إلى مجالات أخرى تتصل بالحكم والإقتصاد، إذ يرى كثير من المحللين والمتتبعين لشؤون الساحل الأفريقي، أنها الذراع الروسية العسكرية التي من شأنها خلط أوراق التفاعلات الدولية بالقارة الأفريقية، وإعادة تشكيل توازنات قوة جديدة لسحب النفوذ من القوى الأوروبية والغربية التقليدية بالمنطقة[xiii]، وبالنسبة لدولة مالي خاصة عقب إنقلاب سنة 2021، فقد أصبحت تعتمد عليها كثيراً في إعادة ترجيح كفة القوة بشمال البلاد، وهو أحد التفسيرات الهامة لإلغاء الإلتزام ببنود إتفاق السلم والمصالحة المبرم بالجزائر سنة 2015 بين الجيش المالي والتنظيمات المسلحة الأخرى.

التداعيات القومية والإقليمية لقرار وقف العمل باتفاق السّلم والمصالحة

بالرّغم على مرور أزيد من عقد كاملٍ منذ الأحداث المأساوية التي شهدتها دولة مالي، جرّاء أعمال العنف والإقتتال الداخلي مابين الفرقاء والمكونات القبلية المتنوعة، إلا أنّ الوعي الجمعي للبلاد لايزال يتوجس ويتخوف من إحتمالية عودة الوضع الأمني إلى نقطة الصفر والبداية، وهو ذات التخوّف الذي أبدته غالبية دول المنطقة، باعتبار أنّ السلطات الماسكة بزمام الحكم بباماكو مهّدت لهذه الخطوة منذ فترة ليست بوجيزة، وأنّ جميع الحجج والتبريرات التي ساقتها لا أساس لها من الصحة، والأهم بالنسبة للسلطة المركزية هي إعادة ترتيب العلاقة مع التنظيمات المسلحة بشمال البلاد إتساقاً مع موازين القوة الجديدة، خاصة مع الدعم الكبير الذي تلقته المؤسسة العسكرية المالية من قِبل روسيا الإتحادية، عبر التواجد المتعاظم لقوات فاغنر المسلحة بالمنطقة.

وفي نفس السياق ومقارنةً بالظروف الجيوسياسية التي مرّت بها  المنطقة والناجمة عن الأزمة المالية سنة 2012 يجد أبعاداً وجوانب كثيرة من التشابه، فإالصراع والأزمة المالية مثّلت آنذاك حالة جدّ معقدة على مستوى دول الساحل الإفريقي، و ذلك لما ميزها من تداخلات و تركيبات عديدة في أبعادها و معالمها، فوفق تقرير صادرٍ عن هيئة  Peace Buildingالنرويجية لسنة 2013 حول الأزمة بمالي، فقد أشار إلى ثلاثة أبعاد أساسية للأزمة، ساهمت بشكل أساسي في ضبابية المشهد الأمني السياسي بمالي، و صعّبت من مهمة فرض و بسط الأمن و الإستقرار بها، و هذه الأبعاد كالتالي[xiv]:

  • أزمة سياسية و دستورية داخلية، متمثلة في الإنقلاب العسكري على الحكم بمالي بقيادة Amado Sanogo مما زاد من إحتمالات التدخل الأجنبي بالبلاد فيما بعد.
  • معضلة في الإندماج الوطني بدولة مالي أنتج أزمة إنفصالية Secessionist crisis ساهمت في بروز عدة جماعات مسلحة متمردة و ثائرة على السلطة المركزية الحاكمة منذ الستينات، من بينها الحركة الوطنية لتحرير أزاواد The National Movement for the Liberation on Azawad و الناشطة شمال البلاد.
  • إنتشار الجماعات الجهادية على غرار جماعة أنصار الدين، تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي و غيرها.

ترى عدّة تحليلات أنّ التراكمية التي تشكّلت من مخرجات السياسة المالية بالداخل والخارج، خاصّة منذ تولي المجلس العسكري الإنتقالي الحكم بالبلاد سنة 2021، ساهمت بشكلٍ دراماتيكي في حشر الدولة الأفريقية بزاوية العزلة القارية والدولية[xv]، وتنامت هذه العزلة خاصّةً في مقابل سياسات الدول الغربية الكبرى من جهة، والإصطفاف المالي مع التواجد الروسي بالمنطقة من جهةٍ أخرى، وتبنيه سياسات مناوئة للقوى الغربية على رأسها فرنسا، فمسار السلام والمصالحة الذي تسعى باماكو الآن إلى قطعه، من شأنه أن يضرّ بمصالحها الحيوية في شتى المجالات سياسية أمنية واقتصادية، ويجعلها تندرج تحت المسميات الغربية النمطية المعهودة (دولة مارقة، فاشلة، هشّة..)[xvi]، ومن جهةٍ عكسية أخرى قد تساهم هذه العزلة أيضاً في زيادة إحتقان الوضع الداخلي المتأزم أصلاً، والذي كثيراً ما تحاول السلطة المركزية أن تشتت وطأته بالتركيز على سردية المؤامرة الخارجية كجزء من سياسة رمزية للبقاء أكثر بالحكم، وإطلاق مبادرات وطنية عريضة تهدف لرصّ الصف الوطني في مجابهة الآخر، والتي كان آخر إعتزام القيادة العسكرية بالبلاد للإلتزام بعقد مباحداث حوار وسلام وطني بعيداً عن أي تدخلات خارجية أجنبية، إذ تبدو في ظاهرها غير شاملة لعدم إعترافها بقطاع كبير من مكونات الشعب المالي باعتبارهم يؤيدون “قوى متمردة إنفصالية[xvii]“.

إلا أنّ المتتبع لسيرورة السياسة المنتهجة من طرف السلطات الحاكمة بباماكو، يدرك تمام الإدراك مدى النفور الشديد الذي تبدية القيادة إزاء ممثلي الجماعات المسلحة الموقعة على إتفاق الجزائر 2015، إذ يعزز هذا الطرح النداءات المتتالية لهذه الحركات للوسطاء الدوليين على رأسهم الجزائر[xviii]، بضرورة العمل جاهدا لدفع بمتطلبات الاتفاق لإنجاح كافة جهود السلام بالبلاد، وقد واكبت هذه النداءات حالة التزايد وتضاعف المخاوف من الإجراءات الحكومية المحتملة ضد إتفاق السّلم والمصالحة، خاصة عقب الإنقلاب العسكري الأخير سنة 2021، وهو الموقف الذي يُرجّح بشكل قوي الطرح الجزائري الذي وصف الخطوة المالية بالمتوقعة سلفاً، وذلك بالنظر إلى الجولات المكوكية لمؤسسة الخارجية الجزائرية طيلة الفترة التي تلت الإنقلاب على النظام بمالي، وتنامي حدّة الخلافات والترتيبات الميدانية لقتال الجماعات المسلحة بشمال البلاد.

ولا يبدو البُعد الخارجي لإحتمالات التأثير الناجم عن قرار إنهاء إتفاق السلم والمصالحة بمنأى عن التقديرات السلبية للموقف، فمنطقة السّاحل الأفريقي وغرب أفريقيا لطالما مثّلت أكثر المناطق حاضنة للجماعات المسلحة المتمردة والمصنفة كحركات إرهابية، تنشط في أغلبها بخلفيات ومنطلقات متعددة الأهداف والرؤى العقدية والأيديولوجية، وفي هذا الإطار فإنّ السّاحل الأفريقي حصد أكبر قدر من الوفيات والضحايا جرّاء الأعمال الإرهابية سنة 2022 بنسبة قاربت %43 مقارنة ببقية مناطقة وأقاليم العالم[xix]، وتنامت التوجسات الدولية والإقليمية أكثر حول التداعيات السلبية لفقدان الاستقرار الأمني السياسي بدولة مالي، فالوضع الحالي يُذكّر بحالة الفوضى التي كانت تسود الإقليم قبل مايزيد عن عقد كامل من الزمن، إذ شكّلت حينها المنطقة ملاذاً آمناً وخصباً لمختلف الجماعات والتنظيمات الإرهابية النشطة بالصحراء، وفي هذا الإطار فإنه  لطالما صرّحت السلطات الجزائرية سابقاً بحجم التهديدات الناتجة عن حالة عدم الإستقرار بشمال مالي، و قد لخّصت صحيفة the diplomatic الأمريكية مخاوف السلطات الجزائرية، في إزدياد إحتمالية إنتشار الجريمة المنظمة، إنتشار و الإتجار بالسلاح عبر الحدود الجزائرية المالية، واستخدام كل الطرق الإجرامية الإرهابية التي من شأنها مساعدة هذه الجماعات على جلب تمويلات مالية لتكثيف نشاطها بالمنطقة[xx].

خاتمة:

بالنظر إلى الأحداث المتسارعة التي تشهدها منطقة السّاحل الأفريقي ككل، وحالة الفوضى وعدم الاستقرار بدول المنطقة على غرار مالي، النيجر و بوركينافاسو، يتضّح بشكلٍ جلي تصاعد في إحتمالية زعزعة الاستقرار الأمني بغالبية الدول ذات الصلة المباشرة وغير المباشرة بهذا الحزام الهش، ومن جانب آخر تلعب الوتيرة التنافسية وكذا الصراعية للقوى والدول الكبرى بالمنطقة، سواء صاحبة الوجود التقليدي التاريخي مثل فرنسا ودورها الفاعل في إدارة أهم الملفات السياسية، الاقتصادية والأمنية الجوهرية بالمنطقة، أو تلك القوى المتنامية الدور بالقارة الأفريقية مثل الصين و روسيا، فإن القراءات تبقى مفتوحة أما الأوضاع الأمنية على الأقل بالمنظور القريب.

الهوامش:

[i] – عبد الوهاب غربي، عبد الكريم شكاكطة، “تعقيدات الأزمة في مالي وانعكاساتها على الأمن الإقليمي في منطقة الساحل الأفريقي”. مجلة حوليات جامعة الجزائر 1، المجلد 35، العدد 3، 2021، ص 600

[ii] – وكالة الأنباء الجزائرية،”المقاربة الجزائرية لمحاربة الهجرة غير الشرعية مبنية على دعم السلم والأمن والتنمية”. تاريخ النشر : 23 جويلية 2023، على الرابط: https://bitly.ws/3cgJY ، تاريخ التصفح: 04/02/2024 .

[iii] – Eric Pichon, Mathilde Betant-Rasmussen,” Mali: Yet another coup”. European Parliamentary Research Service, at link: https://bitly.ws/3cBRP , published: june 2021, access: 05/02/2024

[iv] – David Doukhan ,“Military Coup in Mali – The Future of the Barkhane Force is Shrouded in Mist”. Link : https://bitly.ws/3cBRF , published : march: 2021,  access : 05/02/2024

[v]  – محمد صالح عمر، “انقلابات متتالية وأزمات سياسية.. أين تتجه الأوضاع في مالي؟ سؤال وجواب”. تاريخ النشر: 30/05/2021، على الرابط: https://bitly.ws/3cknN ، تاريخ التصفح: 04/02/2024.

[vi] – Lamine Keita, “Escalating violence in Mali is cutting people off from health care”. At: https://bitly.ws/3cE4f , published: 13/12/2023 , access: 07/02/2024.

[vii] – Lamine Keita, “People at serious risk as violence escalates in Mali”. At link: https://bitly.ws/3cE4J , published: 11/12/2023 , access: 07/02/2024.

[viii] – ACLED, “Fact Sheet: Attacks on Civilians Spike in Mali as Security Deteriorates Across the Sahel”. At link: https://bitly.ws/3cE5Y , published: 21/09/2023, access: 07/02/2024.

[ix] – الجزيرة نت، ” المجلس العسكري في مالي ينهي اتفاقا للسلام مع الانفصاليين”. على الرابط: https://bitly.ws/3cK9H  ، تاريخ النشر: 26/01/2024 ، تاريخ الإطلاع: 08/02/2024.

[x] – المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، “الجنوب العالمي : دوافع التنافس الصيني الأمريكي على النفوذ في غرب إفريقيا”. على الرابط: https://bitly.ws/3d7KY، تاريخ النشر: 12/02/2024 ، تاريخ التصفح: 13/02/2024.

[xi] – المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، بريكست إفريقيا:  الانعكاسات المحتملة لانسحاب بوركينا فاسو ومالي والنيجر من “الإيكواس”، على الرابط: https://bitly.ws/3d7L8 ، تاريخ النشر: 07/02/2024، تاريخ التصفح: 13/02/2024.

[xii] – المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، بريكست إفريقيا:  الانعكاسات المحتملة لانسحاب بوركينا فاسو ومالي والنيجر من “الإيكواس”، على الرابط: https://bitly.ws/3d7L8 ، تاريخ النشر: 07/02/2024، تاريخ التصفح: 13/02/2024.

[xiii] – ديرك كوب وكوسيفي تياسو وساندرين بلانشارد وبوب باري، “مجموعة فاغنر في أفريقيا.. أكثر من مجرد مرتزقة”. على الرابط: https://bitly.ws/YMZH ، تاريخ النشر: 18/04/2023، تاريخ التصفح: 14/02/2024.

[xiv] – david j. Francis,”the regional impact of the armed conflict and french intervention in mali”. Noref report – april 2013, norway: peace building,2013. P 01

[xv]  – أحمد عسكر، “توتر دبلوماسي:ما مآلات التصعيد الراهن بين الجزائر ومالي؟” . على الرابط: https://bitly.ws/3djxG ، تاريخ النشر: 27/12/2023، تاريخ التصفح: 16/02/2024.

[xvi] – James tasamba, “Does end of peace deal with rebels doom Mali’s hopes for peace?”. At link: https://bitly.ws/3dsSU  , 16/02/2024, access: 17/02/2024

 

[xvii] – James tasamba, “Does end of peace deal with rebels doom Mali’s hopes for peace?”. At link: https://bitly.ws/3dsSU  , 16/02/2024, access: 17/02/2024

[xviii]  – حسن جبريل، “علاقات الجزائر مع مالي على محكّ “حسن الجوار” ، على الرابط: https://bitly.ws/3dsVK ، 08/01/2024 ، تاريخ التصفح: 17/02/2024.

[xix] – Kate Hairsine, “ ECOWAS ‘weaker’ as Sahel trio quit the bloc”. At link: https://bitly.ws/3dsRH , published: 30/01/2024 , access: 17/02/2024.

[xx]  – محمد الأمين بن عودة، محمد بن شهرة، “التدخل الفرنسي بمالي وتأثيره على الرؤية الأمنية الجزائرية للحدود الجنوبية”، مجلة مرافئ للدراسات السياسية والقانونية، العدد 02، جانفي 2022. ص35

- أستاذ محاضر بقسم العلوم السياسية والعلاقات الدولية جامعة غرداية- الجزائر.
- رئيس مشروع بحث التوجهات الجديدة للسياسة الخارجية الجزائرية تجاه أفريقيا في ظل الصراع والتنافس الدولي على القارة.

اتفاقية الجزائرالجزائرباماكومالي
Comments (0)
Add Comment