إيران في أفريقيا: من الأيديولوجية الشيعية إلى التحالفات الاقتصادية

تعد أفريقيا موطنًا لخُمس سكان العالم، وتمتلك حوالي 30% من احتياطيات المعادن، و12% من النفط، و8% من الغاز الطبيعي، و50% من احتياطيات الذهب في العالم. وفي عام 2023، زار الرئيس الإيراني  -المتوفى حديثا- إبراهيم رئيسي الدول الأفريقية لتعزيز العلاقات التجارية والاقتصادية. وهذا نهج مختلف بالنسبة لدولة ركزت معظم اهتماماتها لسنوات على الشرق الأوسط وأجزاء من آسيا. ويبدو أن طهران، التي لا تزال تواجه عقوبات الولايات المتحدة، تتطلع الآن بشكل متزايد إلى أماكن أخرى لتنويع اقتصادها.

وقد كان الوجود الإيراني في أفريقيا على مر السنين مسألة أيديولوجية واقتصادية وأمنية. فمنذ عام 1979، حيث تتخطى علاقات إيران مع دول الجنوب العالمي إطار الأيديولوجية الخمينية لمناهضة الإمبريالية، إلى تصدير النموذج السياسي والديني الإيراني, والذي يتطلب التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأفريقية لنشر التشيع وأيديولوجيات طهران، وبناء شبكات من الجهات الفاعلة غير الحكومية، مثل المؤسسات الدينية والجمعيات الثقافية والشركات الواجهة. وقد أقامت إيران علاقات قوية مع العديد من البلدان الأفريقية؛ بعضها قديم والبعض الآخر جديد, حيث شاه إيران, محمد رضا بهلوي (حكم من 1941 حتى 1979)، حليف الولايات المتحدة، بدأ في النصف الثاني من القرن العشرين تطوير استراتيجية النفوذ تجاه أفريقيا. وفي وسط الحرب الباردة كان الهدف الإيراني ذي شقين: الأول وضع الحد لانتشار الشيوعية في أفريقيا، ومن قدمت الدعم السياسي والمالي للعديد من الدول الأفريقية (السودان وزائير (الكونغو الديمقراطية حاليا) والصومال وإثيوبيا والسنغال وجنوب أفريقيا)؛ والثاني تعزيز الوجود الإيراني في مياه الخليج والمحيط الهندي وحتى على سواحل شرق أفريقيا.

وباعتبار أن أفريقيا لم تكن على رأس جدول أعمال إيران، فإنه لم يكن لطهران أي وجود في القارة في ظل النظام البهلوي، باستثناء العلاقات مع الإمبراطور الإثيوبي هيلا سيلاسي، ونظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، والنظام الملكي المغربي، والرئيس المصري أنور سادات. وكانت هذه العلاقات جزءًا من العلاقات المؤيدة للولايات المتحدة ضد الاتحاد السوفييتي. وبعد الثورة الإيرانية في عام 1979، قطعت إيران علاقاتها مع نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، وهي الخطوة التي استحسنها حزب المؤتمر الوطني الأفريقي عندما تولى السلطة في عام 1994. وقد فُرضت العزلة على إيران خلال العقد الأخير نتيجة برنامجها لتخصيب اليورانيوم. ونتيجة لذلك، سعت إيران إلى توسيع نفوذها في أفريقيا, وبذل الرئيس الإيراني السابق محمود أحمدي نجاد جهودًا كبيرة نحو ذلك، سعيا إلى توسيع علاقات طهران مع الدول الأفريقية, وذلك للتعويض عن تدهور علاقات إيران مع شركائها الاقتصاديين التقليديين في أوروبا وشرق آسيا. وحاولت إيران تأكيد نفوذها في أفريقيا من خلال اجتماعات ثنائية رفيعة المستوى وإنشاء شبكة علاقات مع العديد من الدول الأفريقية, وأدى أحمدي نجاد أكثر من ست رحلات إلى دول في غرب أفريقيا، وحصل بلاده على صفة مراقب في الاتحاد الأفريقي. وبذل أحمدي نجاد خلال فترة ولايته (2005-2013) جهودًا لتأسيس وجود إيراني في القارة الإفريقية من أجل موازنة النفوذ السعودي، ولتعزيز استراتيجية جنوب-جنوب في كل من أفريقيا وأمريكا اللاتينية.

رؤية النخبة السياسية الإيرانية

يعتقد المعسكر المحافظ الأوسع في إيران أن الرئيس الراحل روحاني أهدر الكثير من الوقت والطاقة في التركيز على الغرب في حين أن الولايات المتحدة وأوروبا واصلتا محاولة إضعاف طهران. وتحتاج الجمهورية الإسلامية الإيرانية، التي تواجه العقوبات والعزلة منذ عام 1979، إلى إقامة علاقات جيدة مع أكبر عدد ممكن من الدول, بما في ذلك الدول الأفريقية التي يحتاج الكثير منها إلى التعاونات الاقتصادية والتي تسعد إيران بتقديمها لما ذلك من أهمية لطهران التي تحاول كسر عزلتها الاقتصادية والسياسية وتعزيز مصالحها الخاصة قدر الإمكان، وخاصة أن معظم البلدان الأفريقية لا تزال في مراحل تنموية ويوجد بها عدد كبير من الشباب, حيث أشارت الأرقام في عام 2015 أن 41% من السكان الأفارقة هم تحت سن 15 عاما، و19% آخرين تحت سن 24 عاما. ويبحث هؤلاء السكان عن فرص عمل لا تستطيع حكوماتهم توفيرها لهم بشكل كامل، وهذا يعني أن الاستثمار الخارجي هو المصدر الرئيسي لفرص العمل.

وتقليديا، شهدت إيران ما بعد الثورة توسيع العلاقات مع الدول غير الغربية كوسيلة لموازنة الضغوط التي يمارسها الغرب في شكل عقوبات بقيادة الولايات المتحدة أو جهود الاحتواء العسكري. وقد حددت القيادة الإيرانية التوجه الجيوسياسي في “النظر إلى الشرق” وجهودها لتعزيز العلاقات مع القوى الآسيوية مثل الصين وروسيا والهند كوسيلة رئيسية لمواجهة مثل هذه الضغوط. ومع ذلك، فإن أجزاء أخرى من العالم، وأبرزها أفريقيا وأمريكا اللاتينية، تشكل أيضًا جزءًا من هذه الاستراتيجية الإيرانية لتعزيز نفوذها الاقتصادي والجيوسياسي من خلال تحويل تركيزها بعيدًا عن الغرب. ومع ذلك، صممت إيران عقيدة عسكرية ونهجاً في السياسة الخارجية من أجل إبقاء التهديدات ضدها بعيدة، بهدف تحييد الخصوم المحتملين قبل وصولهم إلى شواطئها. ولهذا الغرض، سعى القادة السياسيون والعسكريون في طهران بعناية إلى تعزيز العمق الاستراتيجي للبلاد في المناطق ذات الأهمية الحاسمة. وقد استلزمت هذه الاستراتيجية تعزيز القدرة العسكرية للبلاد وتنمية شبكة واسعة من العلاقات مع مجموعة واسعة من الشركاء الأجانب ذوي التفكير المماثل، بما في ذلك الجهات الفعالة الحكومية وغير الحكومية.

ويؤدي الاستثمار والمشاركة الأعمق في أفريقيا إلى زيادة مكانة إيران وشعبيتها بين السكان المحليين، كما يلبيان أيضًا المصالح الاقتصادية الإيرانية كسوق لصادراتها، متجاوزة العقوبات الاقتصادية، ويخدمان برنامجها النووي بسبب موارد اليورانيوم الغنية في أفريقيا, مع تعزيز رؤية إيران للعالم الإسلامي ومكانته العالمية الأوسع. هذا، وتوفّر مناطق معينة، مثل القرن الأفريقي وغرب أفريقيا، لإيران الفرصة لتوسيع شبكتها اللوجستية وإيجاد طرق بديلة للدعم المالي والعسكري والمادي للوكلاء والتوابع في الشرق الأوسط, مثل حزب الله في لبنان، وحماس وحركة الجهاد الإسلامي في فلسطين في غزة. ويمنح النفوذ المعزز في أفريقيا وسيلة أخرى لإيران لتقليل مصالح أعدائها. وقد أشار البعض، كمثال على هذا, إلى اعتقالِ إيرانيَّين بحوزتهما مخبأ متفجرات يبلغ وزنه 33 رطلاً في كينيا عام 2012 بتهمة جمع معلومات استخباراتية من أجل التخطيط لمهاجمة أهداف أمريكية وإسرائيلية وسعودية وبريطانية.

الاستثمار في أفريقيا

لقد قام الرئيس الإيراني السابق محمود أحمدي نجاد  في عام 2013 بجولة في ثلاث دول بغرب إفريقيا، وهي بنين وغانا ونيجيريا. وبعد عشر سنوات، قام الرئيس الإيراني الراحل إبراهيم رئيسي بتحويل اتجاه بلاده إلى شرق أفريقيا وجنوبها من خلال زيارة كينيا وأوغندا وزيمبابوي، وهي أول جولة أفريقية يقوم بها زعيم إيراني منذ أكثر من عقد من الزمن. وتسلط هذه الرحلات الضوء على أهمية تنويع المصالح الاقتصادية والعلاقات السياسية، كما أنها تشكل جزءًا أوسع من استراتيجية جيوسياسية ضد الغرب التي تسعى إلى احتواء إيران، وتؤكد أن الموقف الدبلوماسي الإيراني الرسمي يضع أهدافا طموحة للغاية للتعاون الإيراني الأفريقي المتبادل.

ومع ذلك, هناك صعوبات واضحة في تنفيذ مشاريع التعاون الاقتصادي، وغالباً ما تظهر التوترات فيما يتعلق بأنشطة إيران الأيديولوجية والأمنية في القارة الأفريقية. وبحسب وزارة الخارجية الإيرانية، يتوقع أن ترتفع تجارة إيران مع الدول الأفريقية إلى أكثر من 2 مليار دولار في عام 2023، ارتفاعًا من رقم تقديري يتراوح بين 500 مليون دولار و1 مليار دولار في عامي 2021 و2022. ويمكن القول إن الهدف الإيراني الرسمي بزيادة التجارة مع القارة الإفريقية إلى 5 مليار دولار هدف ضئيل للغاية وأدنى من تجارة الإمارات العربية المتحدة البالغة 50 مليار دولار، وتجارة تركيا البالغة 35 مليار دولار مع أفريقيا. وتعدّ كينيا واحدة من أكبر مستوردي الشاي الإيراني, وهي أيضًا سوق محتملة للأدوية والبتروكيماويات الإيرانية، كما أنها شريكة أمنية استراتيجية مختص بمكافحة الأنشطة الإرهابية. وبالنسبة لزيمبابوي, تشكّل إيران حليفاً رئيسياً لتعزيز التنسيق السياسي في المنظمات الدولية, مثل حركة عدم الانحياز، ولتبادل التقدم العلمي والتكنولوجي وإيجاد أسواق جديدة.

وفي الوقت نفسه، قررت السلطات الإيرانية الاستثمار في مجموعات من الشركات القائمة على المعرفة (المعروفة باسم دانيش بنيان) ومبادرات للتحايل على العقوبات. وهذه الشركات عادة ما تكون منظمات خاصة تسعى إلى تسويق نتائج الأبحاث، خاصة في مجال الطب، وتحسين سلسلة الإمداد الغذائي، والميكنة الزراعية، وتوسيع إنتاجية المحاصيل. وبما أن هذه الشركات الصغيرة تابعة للقطاع الخاص ويرتبط مجال عملها بالمنتجات الإنسانية، فهي أقل عرضة للعقوبات.

واكتسب دور الشركات القائمة على العلم والمعرفة في التحايل على العقوبات أهمية أكبر في العامين الماضيين، مع انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي لعام 2015 وعدم رغبة الاتحاد الأوروبي في تعويض إيران عن خسائرها الاقتصادية. وباعتبار أن أفريقيا تكاد تكون سوقًا غير مستغلة في هذه المجالات، وأن العديد من البلدان الأفريقية تعتمد على الخدمات المستوردة في مجالات الطب والغذاء والزراعة، فإن هناك فرصة فريدة لإيران للاستفادة من تلبية احتياجات أفريقيا. وعلى سبيل المثال، افتتح “البيت الإيراني للابتكار والتكنولوجيا” (Iran House of innovation & Technology = iHiT) في كينيا في يناير من عام 2021، كما تهدف طهران أيضًا إلى إنشاء منطقة اقتصادية في البلاد.

علاوة على ذلك، في يونيو 2021، بدأ “مكتب متخصص لتصدير منتجات التكنولوجيا الحيوية الإيرانية” عمله في أوغندا. وصرح سفير إيران لدى الكونغو الديمقراطية أن ثاني أكبر دولة إفريقية ستكون الأولوية التالية لطهران، ودعا الشركات الإيرانية الناشئة والشركات القائمة على العلم والمعرفة للقدوم إلى الكونغو الديمقراطية. وقد وقعت جامعة طهران للعلوم الطبية اتفاقية مع المركز الأفريقي للتنمية الصحية في غانا للتعاون في مجال تكنولوجيا النانو الطبية.

وفي إشارة إلى منحة بقيمة 200 مليون يورو (235 مليون دولار) لدعم الصادرات إلى أفريقيا، قال فرزاد بيلتان، المدير العام لمكتب الدول العربية والإفريقية التابع لمنظمة ترويج التجارة الإيرانية: “في خطة مدتها ثلاث سنوات، نحن سنزيد صادرات إيران إلى القارة إلى 1.1 بليون دولار”. وتمثل هذه التطورات الأخيرة إشارة واضحة على عودة ظهور استراتيجية إيران في أفريقيا وجهودها لتعزيز علاقاتها الاقتصادية مع القارة.

توقعات

أرسلت إيران، في الآونة الأخيرة، طائرات بدون طيار وصواريخ باليستية متفجرة إلى إسرائيل، ليكون أول هجوم مباشر على عدوها القديم، على الرغم من أن الاثنين استهدفا بعضهما البعض عبر الوكلاء. وبينما أبدى العديد من القادة الدوليين مواقفهم تجاه القضية، فإن الكتلة القارية المتمثلة في الاتحاد الأفريقي تجاهلت التطور، إذ السياسة الإفريقية تجاه إسرائيل لم تكن ثابتة على الإطلاق. بل يُتوقع تأثّر مواقف العديد من الدول الأفريقية بحسب عمق علاقاتها التجارية وشراكاتها الاقتصادية مع إيران وإسرائيل. ومن المؤكد أيضا أن إيران ستحاول أخذ زمام المبادرة في معالجة الخلافات الكامنة في إفريقيا لإيجاد بعض نقاط الدخول والاحتفاظ ببعض التأثير على توسعاتها الجيوسياسية.

ويُتوقع أيضا انضمام المزيد من الدول الأفريقية إلى الصين وإيران وروسيا في إطار كتلة البريكس، بينما يراقب العالم الغربي بفضول وتخوف كيف ستعمل مجموعة البريكس وأفريقيا على إعادة تشكيل السياسة العالمية وتحدي ديناميكيات القوة المهيمنة.

ومع ذلك، يرى بعض المراقبين أن قلب الإرهاب والأصولية الإسلامية ينبض في طهران. لذلك، من أجل تعزيز الأمن العالمي، يجب على زعماء العالم زيادة الضغط على النظام الإيراني، وطرد عملاء إيران من بلدانهم، وإغلاق سفاراتهم وما يسمى بالمراكز الثقافية، وقطع أي تعاملات مالية مع النظام الإيراني. ويقول الخبراء أنه من المتوقع أن تتكثف الدبلوماسية الإيرانية في أفريقيا في السنوات المقبلة. والحقيقة أن أفريقيا تشكل بالنسبة للإدارة الإيرانية الحالية أولوية ومكاناً مميزاً لتهديد المصالح الغربية.

أخبار الأفارقة وتقارير فعالياتها واستشاراتها.

إيرانالعلاقات الإيرانية الإفريقيةالوجود الإيراني في إفريقيا
Comments (0)
Add Comment