إصدارات - الأفارقة للدراسات والاستشارات https://alafarika.org/ar/section/publications/ مؤسسة بحثية استشارية. Wed, 27 Sep 2023 11:31:03 +0000 ar hourly 1 https://wordpress.org/?v=6.5.2 https://i0.wp.com/alafarika.org/ar/wp-content/uploads/2022/08/cropped-Alafarisc-favc-1.png?fit=32%2C32&ssl=1 إصدارات - الأفارقة للدراسات والاستشارات https://alafarika.org/ar/section/publications/ 32 32 209004356 الجهود القطرية في إفريقيا: نموذج اتفاقية الدوحة بين المجلس العسكري الانتقالي والمعارضة المسلحة في تشاد https://alafarika.org/ar/5638/%d8%a7%d9%84%d8%ac%d9%87%d9%88%d8%af-%d8%a7%d9%84%d9%82%d8%b7%d8%b1%d9%8a%d8%a9-%d9%81%d9%8a-%d8%a5%d9%81%d8%b1%d9%8a%d9%82%d9%8a%d8%a7-%d9%86%d9%85%d9%88%d8%b0%d8%ac-%d8%a7%d8%aa%d9%81%d8%a7%d9%82/ https://alafarika.org/ar/5638/%d8%a7%d9%84%d8%ac%d9%87%d9%88%d8%af-%d8%a7%d9%84%d9%82%d8%b7%d8%b1%d9%8a%d8%a9-%d9%81%d9%8a-%d8%a5%d9%81%d8%b1%d9%8a%d9%82%d9%8a%d8%a7-%d9%86%d9%85%d9%88%d8%b0%d8%ac-%d8%a7%d8%aa%d9%81%d8%a7%d9%82/#respond Wed, 27 Sep 2023 08:39:01 +0000 https://alafarika.org/ar/?p=5638

تحميل الورقة (صيغة بي دي اف) منذ منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين برزت دولة قطر كواحدة من أهم الدول التي تقوم بدفعة دبلوماسية وتنشط كوسيط في النزاعات الدولية, حيث تعدّت جهودها محاولات الوساطة في منطقة الشرق الأوسط إلى أجزاء مختلفة بإفريقيا جنوب الصحراء الكبرى, وذلك بهدف إنهاء الصراعات وتعزيز الاستقرار السياسي والأمني, الأمر […]

ظهرت المقالة الجهود القطرية في إفريقيا: نموذج اتفاقية الدوحة بين المجلس العسكري الانتقالي والمعارضة المسلحة في تشاد أولاً على الأفارقة للدراسات والاستشارات.

]]>

تحميل الورقة (صيغة بي دي اف)

منذ منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين برزت دولة قطر كواحدة من أهم الدول التي تقوم بدفعة دبلوماسية وتنشط كوسيط في النزاعات الدولية, حيث تعدّت جهودها محاولات الوساطة في منطقة الشرق الأوسط إلى أجزاء مختلفة بإفريقيا جنوب الصحراء الكبرى, وذلك بهدف إنهاء الصراعات وتعزيز الاستقرار السياسي والأمني, الأمر الذي يوطد علاقاتها مع دول مختلفة ويكسبها سمعة عالمية كوسيط جدير بالثقة([1]).

وعليه ستتناول هذه الورقة جهود قطر للوساطة في إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى مع التركيز على الأزمة السياسية في تشاد بين السلطات والمعارضة ودور الدوحة في إحضار الأطراف المتنازعة إلى طاولة الحوار وتوقيعها اتفاقية السلام (اتفاقية الدوحة) التي تمهّد الطريق للحوار الوطني الشامل ووضع حد للصراع الطويل.

 

أولا: الجهود القطرية في إفريقيا

انضمت دولة قطر مؤخرا في صفوف اللاعبين الرئيسيين الجدد في إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، حيث تستثمر في البنى التحتية وتمارس أكبر نشاط دبلوماسي مع المشاركة في الوساطات السياسية في مالي وجمهورية الكونغو الديمقراطية ورواندا وكينيا والصومال وتشاد, لتصبح الدوحة – عاصمة قطر – من العواصم التي يقصدها زعماء القارة الإفريقية ومسؤولوها([2]).

وإذا كانت قطر نجحت في التوسط في أكثر من 10 قضايا إفريقية ودولية رئيسية منذ عام 2008؛ فقد استقطبت جهودها الدبلوماسية الاهتمام داخل إفريقيا عندما توسّطت بين إثيوبيا وإريتريا في عام 2018 واستضافت محادثات السلام بين الحكومة السودانية والجماعات المتمردة في عام 2019. كما ساعدت في تهدئة التوترات بين كينيا والصومال بعد أن قطعت مقديشو علاقاتها الدبلوماسية مع نيروبي لمدة ستة أشهر في ديسمبر 2021، متهمة جارتها بالتدخل في الشؤون الداخلية([3]). وكانت النتيجة أن أعلنت الحكومتان الكينية والصومالية إعادة فتح سفارتيهما([4]).

وخلال العامين الماضيين تنامت سمعة قطر نتيجة خطواتها في تهدئة الوضع في تشاد بعد الانتخابات المتنازع عليها ومقتل الرئيس السابق إدريس ديبي([5]). إضافة إلى أنه في مارس الماضي (2023) – وبناءً على طلب الولايات المتحدة – نجحت وساطة الدوحة في إطلاق سراح المعارض الرواندي بول روسيساباجينا المعتقتل منذ أغسطس من عام 2020, حيث منحه الرئيس الرواندي بول كاغامي عفوا رئاسيا والإعفاء من الحكم بالسجن لمدة 25 عاما.([6])

وهناك جهود دبلوماسية أخرى بذلتها قطر في تهدئة التوترات في وسط وشرق إفريقيا, مثل عقدها اجتماعا لتحقيق التقارب بين الرئيس الرواندي بول كاغامي ونظيره الكونغولي فيليكس تشيسكيدي بعد تأزّم العلاقات بينهما نتيجة أزمة شرق الكونغو الديمقراطية. بل وسافر وفد من الدوحة برئاسة مساعد وزير الخارجية للشؤون الإقليمية محمد بن عبد العزيز الخليفي إلى القارة الأفريقية في مارس الماضي (2023) والتقوا برؤساء رواندا وبوروندي وكينيا وأنغولا لتعزيز نجاح جهود الوساطة([7]).

هذا, وقد كان الانطباع العام في إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى تجاه قطر إيجابيّ, كما أن معظم الدول الإفريقية تبنّت الحيادية إبان الحصار الخليجي على الدوحة. وقد أدى الأمير القطري الشيخ تميم بن حمد آل ثاني زيارات متعددة إلى أفريقيا مما عززت العلاقات القطرية الإفريقية ووسّعت دوائر الصداقات مع إقامة مسار جديد متمثل في الاستثمار في المنطقة.

ويؤكد على ما سبق أنه في عام 2019 وافقت قطر على استثمار 60 في المئة في مشروع بقيمة 1.3 مليار دولار لبناء مطار رواندا الجديد الذي يُعَدّ أكبر مطار في شرق إفريقيا ويُتوقّع أن يصبح مركزًا للطيران الإقليمي. وفي عام 2020 استحوذت الخطوط الجوية القطرية على 49 في المئة من شركة رواند إير المملوكة للدولة الرواندية. وهناك مساعي قطرية أخرى للاستثمار في مشاريع الطاقة المتجددة وتمويل توسعة ميناء مومباسا بكينيا وبناء ميناء جديد في تنزانيا. هذا إلى جانب استثماراتها في إثيوبيا ومشاركتها في التنقيب عن النفط والغاز في موزمبيق التي أصبحت وجهة مهمة لقطاعات الطاقة الدولية بسبب احتياطياتها الكبيرة من الغاز الطبيعي, حيث وقّعت شركة قطر للطاقة عدة اتفاقيات مع شركات موزمبيق لتطوير احتياطيات الغاز الطبيعي في البلاد([8]).

جدير بالذكر أن الوساطات القطرية – وخاصة في تشاد – جاءت في الأوقات التي فشلت فيها جهود سابقة أو أتت المساعي المحلية والإقليمية بنتائج ضئيلة. وفي حالة تشاد جاءت الصفقات بين الحكومة التشادية والمعارضة تحت اتفاقية الدوحة عندما كانت البلاد على مفترق طرق نتيجة الأزمة السياسية والماضي المضطرب الذي شهدته تشاد واستمرار وجود حركات تمرد في الشمال ضد السلطة المركزية البعيدة في العاصمة انْجَمِينا.

 

ثانيا: محادثات الدوحة في سياق الأزمة السياسية التشادية

تحدّ تشاد دول كثيرة هي: ليبيا من الشمال والسودان من الشرق وجمهورية أفريقيا الوسطى من الجنوب والكاميرون من الجنوب الغربي ونيجيريا من الجنوب الغربي عند بحيرة تشاد والنيجر من الغرب. وبهذا تعد دولة استراتيجية لأمن إقليمي وسط وغرب إفريقيا. وقد عانت البلاد منذ استقلالها عن فرنسا في عام 1960 أعمال عنف واضطرابات متكررة, وعزّز تراكم الإحباط – خلال ثلاثة عقود من حكم الرئيس الراحل إدريس ديبي الذي تولى السلطة منذ عام 1990 – أنشطةَ المعارضين السياسيين وانتفاضات المتمردين المسلحين، كما مكّنت الاضطرابات في الدول المجاورة – مثل ليبيا وجمهورية إفريقيا الوسطى والسودان – قوات المتمردين التشاديين من الاحتماء بالحدود وتنفيذ هجماتها ضد الحكومة المركزية وقواتها([9]).

وصلت الأزمة التشادية مرحلة جديدة في عام 2021 عندما أعلن الرئيس إدريس ديبي فوزه في الانتخابات الرئاسية مما منحته فترة ولايته السادسة, حيث أظهرت النتائج الرسمية أنه حصل على ما يقرب من 80 في المئة من الأصوات رغم مقاطعة المعارضة للانتخابات ومزاعم بعض الهيئات تزويرها وعدم نزاهتها. وبعد ساعات قليلة فقط من إعلان فوزه قُتل الرئيس ديبي البالغ من العمر 68 عاماً على خط المواجهة في شمال تشاد عبر الحدود مع ليبيا حيث كانت القوات التشادية تقاتل جماعة المتمردين باسم جبهة التغيير والوفاق في تشاد (Front pour l’Alternance et la Concorde au Tchad)([10]).

وقد زاد الوضع تعقيدًا عندما تجاهل الجيش التشادي ما نصّ عليه الدستور في حالة وفاة الرئيس, إذ بدلا من ذلك تولّى مجلس عسكري انتقالي برئاسة محمد إدريس ديبي – نجل الرئيس ديبي – مقاليد السلطة, وهي خطوة أثار استياء الكثير من التشاديين وأدى إلى تفاقم أنشطة المعارضة المسلحة التي تهدد استقرار تشاد وجهود مكافحة الجماعات الإرهابية في حوض بحيرة تشاد ومنطقة الساحل الأوسع في غرب أفريقيا. هذا إلى جانب مخاوف من أن تدهور الوضع في تشاد سيعني انتشار الأسلحة من ليبيا عبر تشاد إلى الدول المجاورة مع احتمال التعاون بين الجماعات الإرهابية والمتمردين المسلحين([11]).

ويعني ما سبق أيضا أن استقرار تشاد من الناحية السياسية والأمنية لن يؤثر عليها فحسب, بل سيؤثر على دولة مثل نيجيريا ذات الأغلبية السكانية في إفريقيا (حوالي 200 مليون شخص) وستفاقم من الأزمات الأمنية في النيجر ومالي وغيرها. ومن هنا تأتي أهمية جهود دولة قطر التي استضافت المفاوضات والمحادثات التي استغرقت خمسة أشهر وأنتجت اتفاقية الدوحة التي وقّعت عليها 42 جماعة متمردة والحكومة العسكرية التشادية.

 

ثالثا: ما الذي جاء في اتفاقية الدوحة؟

تشكل اتفاقية الدوحة خطوة أولية لتمهيد الطريق أمام المصالحة الوطنية في تشاد, حيث تتضمن تدابير لاستعادة الثقة والسلام والوئام الوطني والأمن من خلال الوقف الكامل والنهائي للأعمال العدائية، والتزام الحكومة الانتقالية بعدم القيام بأي عملية عسكرية أو شرطية عبر قوات الدفاع والأمن ضد حركات المعارضة السياسية المسلحة الموقعة على الاتفاق أينما كانت في البلدان المجاورة لتشاد. كما أن الحركات السياسية المسلحة ملزمة بعدم القيام بأي تسلل أو هجوم من أي نوع ضد الحكومة الانتقالية, إضافة إلى أن جميع الأطراف ملزمة بعدم القيام بأي عمل عدائي أو انتقامي أو مضايق على أساس الانتماء الإثني أو السياسي أو الديني([12]).

وعلى ما سبق, يمكن تصنيف محتوى اتفاقية الدوحة إلى صلاحيات خاصة بالحكومة وأخرى مشتركة بين الحكومة والمعارضة السياسية المسلحة. وأهمها كالتالي:

أ- إجراءات استعادة الثقة بين جميع الأطراف: سعت الاتفاقية إلى استعادة الثقة المفقودة بين جميع الأطراف, حيث بموجبها أعلن كل من المجلس العسكري الانتقالي وحركات المعارضة المسلحة التي وقعتها عن وقف عام لإطلاق النار والتخلي عن خطاب الكراهية وأي عمل عدائي.

ب- تدابير عملية نزع السلاح وتعزيز الأمن الوطني والإقليمي: وافقت حركات المعارضة المسلحة الموقعة على اتفاقية الدوحة على تدابير تعزيز الأمن المتمثل في عملية نزع السلاح والتسريح وإعادة الإدماج الوطني, وهو إجراء يؤسس لاستعادة الوئام الوطني والشراكة المستقبلية بين جميع الأطراف القائمة على تقاسم السلطة بتسليم المعارضة المسلحة سلاحها ومقاتليها للحكومة عبر لجنة استشارية تتابع تنفيذ اتفاقية الدوحة وتتشكل من تسع أعضاء – ثلاثة ممثلين عن المجلس العسكري الانتقالي, وثلاثة ممثلين عن المعارضة، وثلاثة ممثلين عن المجتمع الدولي المشارك في الاتفاقية ومن بينهم رئيس اللجنة الاستشارية.

ويضاف إلى ما سبق أن عمليات تنفيذ اتفاقية الدوحة تتم على مراحل:

أ- المرحلة الأولى: تبدأ يوم توقيع الاتفاق، حيث تقدم حركات المعارضة المسلحة بياناً أو كشوفات بأعداد مقاتليها إلى اللجنة المسؤولة عن تنفيذ بنود الاتفاق.

ب- المرحلة الثانية: وهي متمثلة في الحوار الوطني الشامل (الذي انعقد يوم 20 أعسطس 2022 في قصر الخامس عشر من يناير الذي يطل على فندق ايدجير بلازا).

ج- وفي المرحلة التالية (مرحلة ما بعد الحوار الوطني الشامل) حيث توفر حركات المعارضة المسلحة للجنة معلومات عن مواقع انتشار مقاتليها بالتنسيق مع السلطات في الدول المجاورة لتشاد. وتبدأ كل حركة بإحصاء منفصل لأسلحتها وذخائرها ومركباتها ومعداتها العسكرية وتضعها تحت مراقبة اللجنة وتصرفها.

ومما يعطي اتفاقية الدوحة رمزية كبيرة أنها تطرقت إلى نقاط مهمة للغاية، مثل مشاركة وفود الموقّعين عليها في الحوار الوطني الشامل، والعفو عن مقاتلي هذه الجماعة المدانين أو المتهمين بالمشاركة في أعمال التمرد أو الاعتداء على الأمن القومي. وكذلك استعادة الأصول والممتلكات التي صادرتها الدولة بناء على إدانات قضائية، وإخلاء المباني المملوكة لأعضاء حركات المعارضة المسلحة أو المنفيين السياسيين. بالإضافة إلى أن الاتفاقية تتضمن توفير وثائق السفر ومستلزمات الضيافة لممثلي الحركات السياسية المسلحة الموقعة أثناء المشاركة في الحوار الوطني. وقد نُفِّذت النقطة الأخيرة حيث وصل وفد من وكالة الوثائق الوطنية التشادية إلى الدوحة وأصدرت جوازات السفر الرسمية لجميع أعضاء وفد المجموعات الموقعة.

جدير بالذكر أن جميع النقاط السابقة أدت إلى تعهد حركة المعارضة المسلحة بالنبذ ​​الدائم للكفاح المسلح، وعدم استخدام كافة أشكال العنف للتعبير عن مطالبها أو آرائها داخل تشاد وخارجها، والانضمام إلى مسار الحوار والعمل السياسي وفق النصوص التشادية الحالية، والتوقف عن تجنيد عناصر جديدة من المقاتلين ونشر الهوية الحقيقية للمقاتلين الموجودين وكمية الأسلحة. وعليه, قرّبت اتفاقية الدوحة المسافة بين الطرفين (السلطات وحركات المعارضة المسلحة), كما ضمّنت حقوق المعارضين الملاحقين أو المنفيين وأدخلت معظم القوى السياسية المعارضة في الحوار الوطني  والمسار السياسي المستقبلي.

 

رابعا: العوامل التي عززت تحقيق اتفاقية الدوحة

هناك عوامل كثيرة عززت التوصل إلى اتفاقية الدوحة وساهمت في تحقيقها. ويمكن إيجاز أبرز هذه العوامل فيما يلي:

أ- أن الرحيل المفاجئ للرئيس التشادي إدريس ديبي خلق نوعا من الفزع بين الدول المجاورة لتشاد وشركائها في الساحل وبين الدول الغربية. وكان الموقف السائد أن الأهم في الفترة هو استقرار تشاد من خلال الإبقاء على هياكلها العسكرية التي تمكنت إبان حكم الرئيس ديبي (الأب) من تكبيد الحركات الإرهابية خسائر فادحة. ويدخل في هذا أيضا حقيقة أن الجنرال محمد إدريس ديبي (الابن) – رئيس المجلس العسكري الانتقالي – أظهر نسبة من الانفتاح على جماعات المعارضة المسلحة ودعاهم إلى الحوار والسلام, وهي خطوة أكسبته ثقة الاتحاد الأوروبي والاتحاد الأفريقي وخفّفت التوترات وشجّعت مشاركة جميع الأطراف في محادثات الدوحة.

ب- أن محمد إدريس ديبي تمكّن من خلق جوّ مؤاتٍ وإبداء استعداده للمصالحة وإشراك المعارضة في الحوار الوطني, حيث أصدر قانون عفو عام شمل الكثير من المعارضين المحكوم عليهم في جرائم مرتبطة بحرية الرأي والتعبير والإرهاب والمساس بوحدة الدولة, وهو ما خفّف من غضب المعارضة واستياء عدد من حركات السياسيين المسلحين.

ج- أن دولة قطر تمكنت من تقديم نفسها كوسيط محايد وموثوق به في تسوية النزاع في تشاد, وهو ما عززت ثقة جميع الأطراف المشاركة في قدرتها على تسهيل الحوار والمصالحة.

د- أنه رغم انتقاد أعضاء بعض حركات المعارضة المسلحة التي شاركت في محادثات الدوحة لسيرورة بعض الأمور؛ إلا أن السمة الطاغية على هذه المحادثات هي التوازن والحيادية. وهذه السمة واضحة أيضا في الوساطات القطرية الأخرى التي تبنت فيها الدوحة موقفًا محايدًا وعدم الانحياز لأي طرف في الصراع. ولذلك وقّعت 42 حركة سياسية مسلحة على الاتفاقية في النهاية وشارك جميع الأطراف أيضا في عملية الحوار والمصالحة.

هـ- أنه لا يمكن الاستهانة بدور الدعم الإفريقي والدولي للوساطة القطرية في تشاد, إضافة إلى تأييد جهود الدوحة من قبل فرنسا التي تُعَدّ الحليف الرئيسي لتشاد وسلطاتها على مرّ العقود الماضية. وهذا الدعم المتعدد عزز قوة الوساطة القطرية ومكنتْه من التأثير وتسهيل التوصل إلى حلول مقبولة للأطراف.

و- أن قطر تتمتع بخبرة ومهارة في التوسط في الصراعات وتسويتها، حيث أظهرت ذلك في النزاعات الإقليمية السابقة. وهذا واضح أيضا في مناسبات مختلفة من المحادثات في الدوحة, حيث الخبرة المتراكمة والاعتبار بثقافات إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى وديناميكياتها المحلية وفّرت للدوحة قاعدة قوية للوساطة في الأزمة التشادية.

 

خامسا: الحوار الوطني الشامل في تشاد كأحد مخرجات اتفاقية الدوحة

لقد حضر حفل التوقيع على اتفاقية الدوحة رئيس المجلس العسكري محمد إدريس ديبي إتنو الذي وعد بالالتزام بتنفيذ نتائج الاتفاق لإصلاح شقوق الماضي وتحقيق المصالحة. وبموجب الاتفاق أُجرِي حوار وطني للسلام([13]) في العاصمة التشادية مع منح ممثلي حركات المعارضة المسلحة ممراً آمناً وحماية مسلحة.

ومما يُلاحظ أنه شارك في الاتفاقية صالح كيبزابو – السياسي المخضرم والزعيم السابق للمعارضة – والمسؤول عن تنظيم منتدى المصالحة الوطنية، حيث طالب حركات المعارضة المسلحة غير الموقعة على الاتفاق بالتفكير في مسقبل شباب تشاد وتنميتها الاقتصادية والثقافية والاجتماعية, مؤكدا أمله في أن يقود الحوار إلى انتخابات نزيهة يشارك فيها الجميع. وهذا يتوافق مع تصريحات وزير الخارجية المؤقت شريف محمد زين الذي وصف الاتفاق بـ “تاريخي” وأن نجاحه يعتمد على التنفيذ المتفق عليه لبرنامج نزع سلاح المتمردين وحجم المساعدة المالية من المجتمع الدولي.

وقد رحّب كل من الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي والاتحاد الأوروبي باتفاقية الدوحة, حيث حثوا المجلس العسكري التشادي والمعارضة المسلحة على اغتنام الفرصة التي يتيحها الاتفاق لتحقيق الاستقرار, وذلك لأن الأزمة السياسية تلهي البلاد عن إرساء دعائم التنمية وأليات التقدم, وتعيق الجهود الإقليمية والدولية للقضاء على الإرهابيين في منطقة الساحل, وخاصة أن تشاد عنصر أساسي من القوة المشتركة مع جيرانها ودول مجموعة الساحل الخمس التي تقاتل الجماعات الإرهابية مثل بوكو حرام و تنظيم الدولة الإسلامية – ولاية غرب إفريقيا وغيرهما.

جدير بالذكر أنه في مارس الماضي (2023) عفا الرئيس الانتقالي محمد إدريس ديبي بموجب مرسوم رئاسي عن 380 متمردا من جبهة التغيير والوفاق في تشاد الذين حُكم عليهم بالسجن مدى الحياة بعد إدانتهم خصوصا بتهمة “النيل من حياة” الرئيس السابق إدريس ديبي إتنو أثناء القتال في أبريل 2021. وهذا يعضد تصريحان وزير الخارجية زين بأن السلطة التنفيذية المؤقتة قد استجابت لأكثر من 95 في المئة من المطالب التي قدمتها حركات المعارضة والسياسيون الأخرون في البلاد.

ويضاف إلى ما سبق أن الحوار الوطني الشامل الذي عُقد في تشاد بعد التوقيع على اتفاق الدوحة يعتبر حدثا هاما في تاريخ البلاد, حيث حضر المؤتمر 1400 مشارك وأربع مجموعات رئيسية، من بينها مجموعة حركات المعارضة المسلحة الموقعة على اتفاق الدوحة والتي تضم 36 حركة و16 سياسيا يمثلون الجانب العسكري والسياسي للمتمردين الموقعين على الاتفاق. وتشمل المجموعات الأخرى كتلة الحركة الوطنية للإنقاذ (Mouvement patriotique du Salut) والتي تضم أكثر من 200 حزب سياسي وتمثل الحزب الحاكم في تشاد، وكتلة الاتحاد من أجل إعادة بناء تشاد والتي تضم نحو 105 أحزاب سياسية و74 جمعية مدنية. وهناك مجموعات نقابية مهنية ومجموعات كاثوليكية وبروتستانتية وأعضاء الحكومة والمجلس الانتقالي وممثلي الجاليات التشادية في الشتات.

وقد اتفقت جميع الأطراف في الحوار الوطني الشامل على الوفاء بالتزاماتها وتنفيذ كافة بنود الاتفاق لتحقيق السلام والمصالحة الوطنية وضمان الاستقرار والتنمية الوطنية. كما أُنشِئَت لجنة استشارية دولية تعمل كإطار دائم للتشاور والرصد والتقييم لمدى تنفيذ الأطراف لالتزاماتها بموجب الاتفاقية. وتلتزم اللجنة بتنفيذ كافة بنود الاتفاق لتحقيق السلام والمصالحة الوطنية, وتتكون من دولة قطر والأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي ولجنة حوض بحيرة تشاد والجماعة الاقتصادية لدول وسط أفريقيا والاتحاد الأوروبي والمنظمة الدولية للفرنكوفونية ومنظمة التعاون الإسلامي وفرنسا والولايات المتحدة وألمانيا وإيطاليا وتوغو والدول المجاورة لتشاد (الكاميرون وأفريقيا الوسطى وليبيا والنيجر ونيجيريا والسودان).

وفي حين وافقت كافة الأطراف على أن للجنة الدولية لمتابعة تنفيذ اتفاق الدوحة الحقَّ في الاستماع بشكل مباشر إلى آراء كافة الأطراف وتقييم التقدم المحرز وتقديم التوصيات؛ فإن أعضاء اللجنة الدولية يتمتعون بالامتيازات والحصانات الضرورية للقيام بواجباتهم بشكل مستقل. كما أن الخلافات أو النزاعات التي تنشأ بين الأطراف بشأن تفسير الاتفاقية أو تطبيقها تُحَلّ من خلال الحوار والتفاوض والوساطة. وفي حالة عدم التوصل إلى اتفاق يحقّ لأي من الطرفين الشروع في التحكيم أمام لجنة من ثلاثة محكمين تعيّنهم اللجنة الدولية للإشراف على تنفيذ اتفاق الدوحة.

 

سادسا: أثر اتفاقية الدوحة على المرحلة الانتقالية التشادية وأمن الساحل

هناك تطورات إيجابية ملموسة في تشاد منذ التوقيع على اتفاقية الدوحة رغم التحديات المتعددة القائمة. وهذه التطورات متعلقة بالجوانب السياسية الخاصة بالعملية الانتقالية التشادية والتحسنات من ناحية الوضع الأمني الداخلي والإقليمي.

فمن الناحية السياسية, أصبح للمعارضة – بما في ذلك المعارضة المسلحة – القدرة على استعادة دورها السياسي, حيث يمكنها بموجب الاتفاقية الانخراط في العملية السياسية من جديد, وهو ما قد يعزز الديمقراطية وتحقيق الشمولية السياسية نظرا لتأكيد الاتفاقية على تمثيل جميع الأطراف السياسية في الحكومة والمؤسسات الوطنية. ويمكن للحكومة الانتقالية استغلال الاتفاقية لتعزيز الإصلاحات السياسية والعسكرية والاجتماعية المطلوبة، وخاصة أن هناك مطالب وطنية لضرورة تحسين الحوكمة وحقوق الإنسان في البلاد.

ويُلاحظ من خلال تتبع الوضع الأمني في تشاد أن للاتفاقية تأثيرا إيجابيا, حيث ساهم التوافق بين جميع الأطراف إلى وضع حدّ – ولو نسبيا – للنزاعات المسلحة, مما يقلص حدة العنف في أجزاء كبيرة من البلاد. بل وسهّل توقيع جميع الأطراف على الاتفاقية عملية إعادة الاندماج السياسي للمقاتلين والمسلحين في المجتمع، حيث سمحت للسياسيين والمسلحين الموقّعين عليها بالمشاركة في مؤتمر الحوار الوطني المستقل ويسّرت عملية تعيينهم كوزراء وبرلمانيين في الحكومة الانتقالية, بينما حركاتهم العسكرية تحوّلت إلى أحزاب سياسية, مما قد يمهد لها الطريق أمام المشاركة في الانتخابات القادمة.

 

خاتمة

توفر الجهود القطرية في إفريقيا نموذجا عملياتيا وبديلا لكيفية التعامل مع الأزمات المختلفة والاستثمار في المجالات الاستراتيجية. وهذه الجهود بالطبع غير خالية عن الانتقادات حيث هناك من الباحثين الأفارقة من يرى أن جهود قطر قد تؤثر في علاقات بعض الدول الأفريقية مع الدول الخيلج والعربية المنافسة للدوحة على المستويين الإفريقي والدولي, وأنها تلعب دورا بارزا في ساحة تشهد تنافسا وتدخلا متصاعدا بين القوى الدولية، وخاصة روسيا والصين وتركيا والهند وإيران والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.

وفيما يتعلق بالوساطات القطرية المختلفة في إفريقيا, فقد كانت إيجابية حيث تجني الدول والمجتمعات من هذه الجهود فوائد كثيرة خاصة بتحقيق السلام وإنهاء النزاعات المسلحة وتعزيز الحوار والتفاهم بين الأطراف المتنازعة وتوفير منصة للحوار السياسي والمصالحة وتعزيز الاستقرار والأمن في المنطقة. وهذه النتائج الإيجابية تعزّز أيضا صورة قطر كدولة دبلوماسية رائدة في مجال تحقيق السلام وحقوق الإنسان.

وأخيرا, لن تكون اتفاقية الدوحة بين السلطات التشادية وجماعات المعارضة المسلحة الحل الشامل لجميع الأزمات التي تعانيها دولة تشاد, ولن تكون العصا السحري لمعالجة جميع التحديات السياسية. وبالتالي تستحق اتفاقية الدوحة وصف “الخطوة اللازمة” لتأسيس منصة للحوار الوطني الذي كان جميع التشاديين يرغبون فيه وفرصة للسلطات الانتقالية لإثبات نفسها أنها جديرة بالثقة ومستعدة لاتخاذ كافة التدابير المؤسسية والمرتبطة بإجراء الانتخابات العامة وتوفير الفرص العادلة للجميع لتجاوز عقود من القتال والصراعات بين التشاديين.

[1] – Kamrava, M. (2011). Mediation and Qatari foreign policy. The Middle East Journal, 65(4), 539-556.

[2] – Ahmad Yasser (2023). Qatar’s expanding footprint in Africa: What is Doha looking for?. Raseef22, retrieved from https://t.ly/KKQpi (visited on 24/9/2023)

[3] – المصدر السابق.

[4]Kenya says ready to reopen embassy in Somalia. Xinhua, retrieved from https://t.ly/9AcrC (visited on 24/9/2023)

[5]Chad President Idriss Deby killed on frontline, son to take over. Reuters, retrieved from https://t.ly/GoK6m (visited on 24/9/2023)

[6]Hotel Rwanda hero Paul Rusesabagina freed from prison. Aljazeera, https://t.ly/pR1gc (visited on 24/9/2023)

[7] – المصدر سابق: Ahmad Yasser (2023). Qatar’s expanding footprint in Africa: What is Doha looking for?.

[8] – Berna Namata (2023). Qatar’s interests push mediation role deeper into EA. The East African, retrieved from https://t.ly/qfp7o (visited on 25/9/2023)

[9] – Scheele, J. (2022). Chad after Idriss Déby. Current History, 121(835), 170-176.

[10]Chad: What are the risks after Idriss Déby’s death?. International Crisis Group, retrieved from https://t.ly/ahQXV (visited on 26/9/2023)

[11] – Teresa Nogueira Pinto (2021). The crisis in Chad deepens instability in sub-Saharan Africa. GIS Reports, retrieved from https://t.ly/WFSG0 (visited on 26/9/2023)

[12] – Doha Peace Agreement in Chad: Qatar’s new success in mediation, conflict resolution. The Peninsula, retrieved from https://t.ly/XmH4T (visited on 26/9/2023)

[13] – سعيد أبكر أحمد (2022). الحوار الوطني الشامل في تشاد: تجربة جديدة أم تكرار للفشل؟. الأفارقة للدراسات والاستشارات, عبر الرابط https://alafarika.org/ar/5265 (اطلع عليه في 27/9/2023)

ظهرت المقالة الجهود القطرية في إفريقيا: نموذج اتفاقية الدوحة بين المجلس العسكري الانتقالي والمعارضة المسلحة في تشاد أولاً على الأفارقة للدراسات والاستشارات.

]]>
https://alafarika.org/ar/5638/%d8%a7%d9%84%d8%ac%d9%87%d9%88%d8%af-%d8%a7%d9%84%d9%82%d8%b7%d8%b1%d9%8a%d8%a9-%d9%81%d9%8a-%d8%a5%d9%81%d8%b1%d9%8a%d9%82%d9%8a%d8%a7-%d9%86%d9%85%d9%88%d8%b0%d8%ac-%d8%a7%d8%aa%d9%81%d8%a7%d9%82/feed/ 0 5638
أزمة الهجرة غير النظامية من أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى في تونس: مناقشة التداعيات واستكشاف الحلول https://alafarika.org/ar/5623/the-crisis-of-irregular-migration-from-sub-saharan-africa-in-tunisia-discussing-implications-and-exploring-solutions/ https://alafarika.org/ar/5623/the-crisis-of-irregular-migration-from-sub-saharan-africa-in-tunisia-discussing-implications-and-exploring-solutions/#respond Sat, 05 Aug 2023 17:39:10 +0000 https://alafarika.org/ar/?p=5623

تناولت الورقة أزمة الهجرة غير النظامية من أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى في تونس, وتناولت الأسباب التي تدفع بالمهاجرين غير النظاميين للهجرة رغم رغم خطورتها, وكيف أثّرت الخطابات العنصرية بين الأوساط السياسية التونسية في تأجيج النظر إلى جميع المهاجرين من منطقة إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى كغير النظاميين, رغم وجود الطلبة والآخرين الذين وصلوا إلى تونس بطريقة قانونية. وقد تطرّقت الورقة أيضا جهود التهدئة للأزمة داخل تونس وخارجها, وناقشت تداعيات العنف الممارس ضد المهاجرين على المستوى الإنساني والاقتصادي والدبلوماسي والسياسي. ومن المقترحات التي قدمتها الورقة استخدامُ آليات دبلوماسية وتسخير المنافذ المتوفرة تحت مظلات الكتل الإقليمية والقارية الإفريقية, مثل إيكواس أو الاتحاد الإفريقي الذي تعتبر تونس ودول المهاجرين أعضاء فيه. وإذا أثارتالورقة  نقاطا أخرى حول معالجة الأسباب الأساسية التي تعزز الهجرة ووضع أطر واقعية لتسهيل توظيف الشباب وغيرهم في بلدانهم وتيسير عملية عودة المهاجرين؛ فقد حذّرت الورقة أيضا من أن تكون تونس أو غيرها من الدول الإفريقية مجرد منصات أو بلدان تُنفّذ أجندات أوروبية تتعارض مع أجندات التنمية الإفريقية والتكامل الاقتصادي والتعاون بين دول القارة القادر على تعزيز رفاهية جميع الأفارقة وعلاقاتهم مع بعضهم البعض, وحاصة أن الأفارقة من جنوب الصحراء مصدر قوة لتونس في توطيد علاقاتها الإفريقية لما لمجموعات الشتات والمنظمات غير الحكومية الإفريقية من إمكانات التأثير في سياسات بلدانهم الخارجية.

ظهرت المقالة أزمة الهجرة غير النظامية من أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى في تونس: مناقشة التداعيات واستكشاف الحلول أولاً على الأفارقة للدراسات والاستشارات.

]]>

الورقة متوفرة للتحميل هنا

منذ عام 2017 كانت دولة تونس محط اهتمام التقارير حول المهاجرين غير النظاميين من مختلف دول إفريقيا – بمن فيهم مهاجرون من دول شمال إفريقيا – الذين قصدوا أوروبا عبر متن “قوارب الموت” ([1]). وركّزت هذه التقارير على أسباب هجرة المهاجرين والقضايا التي تعزز هجرتهم دون التركيز على لون بشرتهم أو انتماءاتهم الدينية والإقليمية. وسرعان ما تحوّلت المعادلة في عام 2022 عندما اختلفت طبيعة التعامل مع المهاجرين لأن معظهم من دول إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، لتركّز النسبة الكبيرة من تعليقات المجتمع التونسي على انتماءاتهم ونظريات المؤامرة المختلفة.

وبلغت قضية المهاجرين غير النظاميين من إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى في تونس ذروتها، وخاصة مدينة صفاقس، في يوم 3 من يوليو عام 2023 عندما بدأت الأنباء تنتشر حول مهاجر من أفريقيا جنوب الصحراء متهم بقتل امرأة وابنتها، والتي أثبتت لاحقًا أنها كانت غير صحيحة وأن المهاجرين لا علاقة بهم في الجريمة. لكن سرعان ما ظهر مقطع آخر على تطبيق تيك توك أظهر رجلًا ملقى على الأرض مع التعليق على أنه “قُتل على يدي “وصفان” – وهو مصطلح يُقصد به “السود” في تونس بقصد التحقير. ونتيجة لهذا، أُخرِج عددٌ من الأهالي الأفارقة من جنوب الصحراء من منازلهم بالقوة واعتُدي عليهم([2])، وتعرض البعض منهن للاغتصاب بينما اضطرّت امرأة إلى وضع حملها في العراء([3]), وكلها بدعوى أن وجود المهاجرين من إفريقيا جنوب الصحراء يمثل تهديدًا لأمن تونس.

وقد توسطت الشرطة لفض الاشتباكات باستخدام الغاز المسيل للدموع. ومثل هذه الاشتباكات ليست غريبة على مدينة صفاقس، حيث يعبّر سكانها عن موقفهم عبر احتجاجاتهم بشكل دوري ضد الهجرة من أفريقيا جنوب الصحراء ويطالبون بإعادتهم إلى بلادهم. وفي اليوم التالي (4 من يوليو) أعلن فوزي المصمودي – الناطق الرسمي باسم النيابة العامة في صفاقس – بوفاة رجل تونسي جراء تعرضه للطعن بواسطة آلة حادة، حيث توفي قبل الوصول إلى المستشفى نتيجة لتلك المواجهات بين الأهالي والمهاجرين. وبالتالي قُبِض على 3 مهاجرين من الجنسية الكاميرونية يُشتبه في ضلوعهم في الجريمة([4])، حسب المعلومات الأولية – رغم عدم وجود أدلة قاطعة تدينهم على ارتكاب الجريمة.

الهجرة من إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى إلى تونس

من المتفق عليه في جميع التقارير أن المهاجرين من جنوب الصحراء ليسوا وحدهم من يحاولون عبور البحر الأبيض المتوسط بهدف الوصول إلى أوروبا، حيث هناك مواطنون من شمال إفريقيا الذي يحاولون الشيء نفسه، بمن فيهم التونسيون([5]) الذين أدى عدم الاستقرار السياسي وبطالة الشباب وارتفاع التضخم وأسعار المواد الغذائية إلى دفع أعداد متزايدة منهم للهجرة.

ومن الإجحاف أيضا اعتبار جميع المهاجرين من إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى في تونس كمهاجرين غير النظاميين، أو أنهم هاجروا لتحقيق أهداف أيديولوجية كما يروّج له بعض السياسيين التونسيين. كما أنه بالرغم من تزايد عدد المهاجرين الذين يحاولون الوصول إلى أوروبا, ورغم استخدام مسؤولي الاتحاد الأوروبي دول مثل ليبيا وتونس والنيجر لاحتواء الهجرة الجماعية؛ إلا أن جهود هذه الدول لم تقدم علاجا طويل الأمد للأسباب الأساسية التي تدفع المهاجرين لقصد أوروبا.

ومن حيث الأرقام، كشف تقرير رسمي من عام 2021([6]) أن هناك حوالي 21,000 شخص من منطقة جنوب الصحراء في تونس، وتشمل هذا العدد مهاجرون وطالبو لجوء ولاجئون، ومن بين هذا العدد يوجد حوالي 7200 طالب مسجّلين ومقيمين بطريقة شرعية في الجامعات التونسية، وحوالي 5000 لاجئ وطالب لجوء مسجل. وهناك مهاجرون آخرون لا توجد بيانات إحصائية دقيقة عنهم لأنهم غير منتظمين أو غير شرعيين، وهم الذين قصدوا تونس منذ عام 2021 بغرض البحث عن فرص عمل لإعالة أنفسهم وعائلتهم، أو للعبور إلى أوروبا حيث أدى اندلاع النزاعات في الآونة الأخيرة وانعدام الأمن المتزايد في ليبيا إلى تعزيز أعداد المهاجرين([7]).

ومع ذلك، يمكن القول من خلال الرقم أن المهاجرين يشكلون عددًا صغيرًا جدًا من الأجانب المقيمين في تونس، وبالتالي يدحض التهويل أو الحملات العنصرية والخطابات السياسية التي تحملهم مسؤولية الأزمات المختلفة في البلاد. وقد كشفت المقابلات مع أفارقة من غرب إفريقيا الدارسين في تونس أنهم أتوا إلى البلاد لأنهم حصلوا على منحة دراسية أو بسبب رغبتهم في مواصلة دراستهم في الجامعات التونسية, حيث هناك اتفاقيات جامعية ثنائية مختلفة بين تونس ومختلف دول غرب إفريقيا. ومع ذلك, تأثّروا جميعا بالتوترات الأخيرة واستهداف الناس على أساس عرقيتهم وبشرتهم, مما جعل عددا منهم يقررون مغادرة تونس خوفا من التمييز الانتقائي ضدهم وما يعتبره البعض سياسة منفتحة تمامًا مع المهاجرين الأوروبيين والسياسة المضادة مع المواطنين من خارج الاتحاد الأوروبي.

ومما يجدر ذكره أيضا أن تونس تتعاون مع أوروبا التي تمنح تونس مساعدات مالية وفنية لمراقبة الحدود للصد عن المهاجرين النظاميين, كما أن الإجراءات القانونية في البلاد قد تُحوِّل مهاجر من إفريقيا جنوب الصحراء – الذي قدم البلاد بوضع قانوني – إلى مهاجر غير نظامي,  وذلك بسبب الإجراءات الإدارية والبيروقراطية الطويلة والكثيرة التي تطيل إجراءات الحصول على الوضع القانوني, الأمر الذي أدخل بعض الطلاب في مأزق قانوني عندما يحتاجون إلى تمديد إقامتهم. وفي مارس الماضي (2023) نظمت حكومات ساحل العاج وغينيا ومالي والسنغال عمليات الإجلاء من تونس لبضع مئات من مواطنيها، بما في ذلك طلاب الجامعات.

الرئيس قيس سعيد ودوره في العنف الممارس ضد المهاجرين

كان المواطنون في صفاقس يستقبلون المهاجرون العالقون في مدينتهم، كما دُمِج العديد منهم في النظام الاقتصادي للمنطقة. وقد تغير الوضع بعد 2018 عندما بدأت الأطروحات العنصرية من بعض السياسيين الذين أثاروا التحفظ والخوف وعززوا المزاعم العنصرية التي ترتكز على أسس أيديولوجية تفترض “التفوق العرقي للشمال” ونظرية “الاستبدال العظيم”([8]). وظل تأثير هؤلاء القوميين ضعيفًا حتى أيّد الرئيس التونسي قيس سعيد موقفهم في فبراير 2023، بعد تصريحٍ أشار فيه إلى مؤامرة تهدف “الاستيطان الأفريقي” في تونس, وهو تصريح غيّر طبيعة العلاقات بين المهاجرين والتونسيين بشكل جذري، حيث كان يشرعن نظرية “الاستبدال العظيم” ويثبتها. ومنذ ذلك الحين صارت مدينة صفاقس تشهد هجمات متكررة على المهاجرين من جنوب الصحراء الكبرى.

وقد أشار الرئيس سعيد في خطابه أن: “هناك ترتيب إجرامي تم إعداده منذ مطلع هذا القرن لتغيير الديمغرافية لتونس…. من أجل توطين المهاجرين غير النظاميين من أفريقيا جنوب الصحراء في تونس.. والهدف منه اعتبار تونس دولة أفريقية فقط ولا انتماء لها للأمتين العربية والإسلامية”. وشدّدَ سعيد “على ضرورة وضع حدٍ لهذه الظاهرة” بعد وصفهم بـ “جحافل من المهاجرين غير النظاميين من أفريقيا جنوب الصحراء والتي ما زالت مستمرة مع ما تؤدي إليه من العنف وجرائم وممارساتٍ غير مقبولة”.

إن خطاب رئيس الجمهورية التونسي أثار القلق في تونس التي طالما تفتخر بترحيبها بالأجانب وتسوّق نفسها في القارة الأفريقية كوجهة مناسبة للتعليم من حيث التكلفة. ودفع خطابه حدة العنف ضد المهاجرين أفريقيا جنوب الصحراء، الذين اضطروا للرحيل من المدينة بعدما شهدوا موجة من الاضطهاد والقمع والقتل أحيانا – كما هو حال مهاجر من دولة بنين في أحد أحياء صفاقس الشعبية. ولم يجدوا سوى الشواطئ الهادئة في صفاقس كملاذٍ.

جهود التهدئة في ظل التعامل اللاإنساني

لقد أدّى المجتمع المدني التونسي دورا مهما في خفض حدة التوتر وإدانة التعامل اللاإنساني للمهاجرين النظاميين واستهدافهم. وأعرب الاتحاد الأفريقي عن استنكاره للأوضاع في تونس([9]), كما أجرى “عمر سيسوكو إمبالو” – الرئيس الدوري لـ “المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا” (إيكواس) ورئيس غينيا بيساو – زيارة لتقصي حالة المهاجرين في البلاد([10]). وقد غيّر الرئيس قيس سعيد خطابه في 8 من شهر مارس نافيًا الاتهامات الموجه إليه بالعنصرية، وأصدر بعضاً من التدابير الوقائية التي كانت قاصرة في تحقيق أثر حقيقي على الأرض نظرا للنزعة العنصرية التي تجاوزت حدود السياسة إلى المجتمع, حيث رغم تراجع العنف البدني إلى حد ما؛ إلا أن وتيرة الإقصاء الاقتصادي والاجتماعي تفاقمت.

بل بالرغم من الإجراءات الوقائية ورفض الرئيس سعيد التهم الموجهة له بالعنصرية، استمرّ الحزب القومي التونسي في قيادة حملته العنصرية بين شهري مارس ويونيو، حيث عمل بإصرار على تحريض الكراهية ضد المهاجرين من منطقة إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، بالادعاء أنهم يحاولون تغيير “البنية الإثنية في تونس”. واستطاع الحزب تجميع أكثر من 1000 توقيع على عريضة مع عدد من البيانات المقدمة إلى السلطات المركزية والأجهزة الأمنية([11]), التي تطالب بأربع نقاط:

  • ترحيل المهاجرين غير النظاميين.
  • ترحيل كل مهاجر من أفريقيا جنوب الصحراء الذي ارتكب جريمة في تونس أو “يخلّ بالأمن العام”.
  • فرض تأشيرة على جميع دول أفريقيا جنوب الصحراء.
  • إلغاء القانون رقم الخمسين (50) لعام 2018 الذي ينص على القضاء على التمييز العنصري في تونس.

ويضاف إلى ما سبق أن هذه التطورات تركت المهاجرين بدون وظائف لإعالة أنفسهم أو أهاليهم، كما اختفت ممتلكاتهم بينما لم يتمكن الذين خيموا خارج مكاتب المنظمة الدولية للهجرة والمفوضية من إطعام أنفسهم لمحدودية الحصول على الرعاية الطبية والمرافق الأساسية مما أجبر البعض الآخر من المشردين للنوم في أماكن أكوام القمامة بالشوارع. وإذا كانت المنظمة الدولية للهجرة قالت في بيان لها إنها تقدم المساعدة القانونية والنفسية للفئات الأكثر ضعفاً و “الإقامة الطارئة للمهاجرين الذين يعانون من حالة صحية / طبية محددة”؛ فقد أشار بعض المهاجرين إلى أنهم تلقوا مساعدات محدودة فقط من قبل وكالات الأمم المتحدة الإنسانية وأنهم تُرِكوا أمام ما قدّمه لهم بعض المواطنين التونسيين والجمعيات المحلية من المساعدة بإحضار الطعام ومواد المأوى والمياه ومنتجات النظافة والحفاضات للأطفال, بينما قالت تقارير إن بعض هذه الجمعيات المحلية التي قدمت المساعدة تلقت تهديدات عبر الإنترنت.

توازياً مع التمييز العنصري الذي يقوم به الحزب القومي التونسي، تجري حملة أخرى شرسة على مواقع التواصل الاجتماعي تحت وسم “طرد الأجصيين” – وهو اختصار ذو دلالة تحقيرية للأفارقة ذوي البشرة السوداء – معتبرين الرقابة والترحيل أولوية للسلطة التونسية، وذلك من أجل حماية تونس من ما يسمونه خطة “استيطان المهاجرين الأفارقة من جنوب الصحراء”. هذا إلى جانب تصريحات عبير موسى – رئيسة الحزب الدستوري الحر، مؤتمرًا للحزب في صفاقس – في نهاية شهر يونيو، حيث أثارت الغضب والاستياء الشعبي حول “تكاثر الأفارقة من جنوب الصحراء في مدينة صفاقس” ([12]) واندلعت بعد ذلك مباشرةً مظاهرات في صفاقس، وبدأت مواجهات بين بعض سكان منطقة ساقية الزيت ومجموعة من المهاجرين.

جدير بالذكر أنه على النقيض مما سبق، أطلق جموعٌ من التونسيين أيضا حملة تضامن أوسع مع المهاجرين المستهدفين، حيث يُلاحظ عبر مقاطع فيديو تظهر أهالي صفاقس وهم يقدمون المياه والضروريات الأخرى للمهاجرين. واستنكر العديد من الجمعيات والمنظمات الحقوقية عدم تحمل السلطات التونسية مسؤولياتها في حماية المهاجرين – بغض النظر عن وضعهم القانوني – وضمان سلامتهم البدنية مع القضاء على جميع أشكال التمييز والقيود التي تتعرض لها، والتي تعمل على إعاقة الاعتراف بحقوقهم والاستمتاع بها أو ممارستها.

ويضاف إلى ما سبق أنه في 5 يوليو 2023 أفادت منظمة حقوقية تونسية وعضو برلماني بأن تونس نقلت مئات المهاجرين من إفريقيا جنوب الصحراء بينهم نساء وأطفال إلى منطقة مقفرة على طول الحدود مع ليبيا، بينما قال شهود عيان إن عشرات آخرين منهم وُضِعوا في قطارات متجهة إلى الخارج. وقد أشارت هذه الخطوة انتقادات واسعة وإدانات للحكومة التونسية بعد ظهور مقاطع فيديو لأوضاع غير إنسانية وموت مهاجرين بينهم أطفال وأمهاتهم في الصحراء. وبعد أسبوع من الانتقادات للأوضاع في المنطقة المقفرة في الصحراء, أشار تقرير إلى أن تونس نقلت مئات المهاجرين من المنطقة إلى ملاجئ في بلدتين.

آثار وتداعيات

تمثّل الممارسات ضد المهاجرين والتطورات الأخيرة ما تعيشها تونس نفسها من حيث تغيير طبيعة النظام السياسي في البلاد من حكم القانون إلى تآكل بعض مؤسساته، والفكرة الشعبوية التي يعززها الرئيس سعيد وتتبنّى جميع الأساليب للتغطية عن فشل نظامه ولو على حساب مهاجمة الأقلية أو المقيمين الأجانب أو الفئة الضعيفة في المجتمع لكسب الرأي العام وصرف النظر عن القضايا الحقيقية التي تشمل مشاكل الحياة اليومية والتحديات الاقتصادية وبطالة الشباب وحالة الاقتصاد وتبعات تعليقه للبرلمان في يوليو 2021.

وهناك آثار مختلفة وجوانب متعددة لتداعيات الأزمة, بما في ذلك الإنسانية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية والدبلوماسية, والتي يمكن تلخيصها في النقاط التالية:

1- التدعيات الإنسانية: مما يُلاحظ في تعليقات معظم الأفارقة من أفريقيا جنوب الصحراء أنهم تأثّروا بالتعامل الانتقائي واللاإنساني تجاه المهاجرين من المنطقة في تونس, حيث عمّق شعورهم السلبي بعدما أصدر الرئيس التونسي تصريحاته العنصرية التي نتج عنها مئات الضحايا من المهاجرين. وأدى نقل المهاجرين إلى المنطقة المقفرة في الصحراء الحدودية مع ليبيا إلى مواقف من أن الحكومة التونسية قد لا تختلف عن غيرها من حيث النظرة النمطية تجاه ذوي البشرة السوداء وتقديم أدنى الاحتياجات الأساسية لهؤلاء الناس الذين لا يريدون سوى توفير عيش كريم لأنفسهم وأبنائهم. وخاصة بعدما أظهرت مقاطع الفيديو عبر الإنترنت رجال ونساء وأطفال تقطعت بهم السبل في منطقة عازلة وبعضهم مصاب بجروح بالقرب من البحر دون أي طعام أو ماء.

2- على المستوى الاقتصادي: من بين الآثار الاقتصادية المباشرة لتونس هو تراجع الأفارقة من جنوب الصحراء عن خطط تلقي العلاج في المستشفيات التونسية الرائدة، والتي تعد شهيرة بين سكان جنوب الصحراء، وخاصة أن مواطني دول أفريقيا الفرنكوفونية بغرب أفريقيا غالبا ما يختارون العاصمة تونس كبديل لأوروبا للسفر للرعاية الصحية. وقد تؤدي التطورات الأخيرة إلى تغيير هؤلاء المواطنين لوجهاتهم, وكذلك الطلاب الذين يدرسون في الجامعات التونسية الخاصة الذين يدفعون الرسوم الدراسية والإيجار التي تقدر بملايين اليورو.

وعلى المستوى الاقتصادي في المدى القريب والمتوسط؛ قد تؤثّر الإجراءات التونسية العنيفة ضد هؤلاء المهاجرين من إفريقيا جنوب الصحراء فى أنشطة المواطنين التونسيين المقيمين في دول المنطقة والمنتجات التونسية في هذه الدول. ويؤكده هذا ما أشار إليه رئيس المجلس التونسي-الأفريقي للأعمال، أنيس الجزيري، من أن عمليات “حجزٍ للبضائع التونسية في بعض الموانئ الإفريقية وعمليات إلغاء الطلبات وحملة مقاطعة المنتجات في بعض الدول الأفريقية”, وذلك بعد تصريح الرئيس قيس سعيد والعنف المصاحب له ضد المهاجرين. وعلى المدى الطويل قد تصبح المواقف والتصريحات العنصرية سياسة الدولة بدلاً من حدثٍ معزول، مما تعرقل المشاريع الاقتصادية الكبرى مثل المنطقة التجارية الحرة الأفريقية وغيرها من مشاريع التكامل الاقتصادي والتعاون التجاري التي تشاركها تونس مع منطقة أفريقيا جنوب الصحراء.

3- على المستوى السياسي: قد تثير الأزمة الخلافات بين دول أفريقيا جنوب الصحراء والعربية، حيث بدأ التعامل اللاإنساني مع المهاجرين في تونس يثير شكوك بعض هذه الدول تجاه دول شمال أفريقيا والتزاماتها القارية من حيث التكامل القاري الإفريقي وإدارة الملفات الحساسة وتقاسم الأعباء في معالجة الأزمات التي تعانيها إفريقيا عبر آليات تابعة للاتحاد الإفريقي. بالإضافة إلى أن العنف والعنصرية الموجهة ضد هؤلاء المهاجرين قد يشكلان حاجزاً أمام التعاون الإقليمي ويعرقل الجهود المشتركة لمعالجة القضايا المشتركة، مثل الهجرة غير النظامية والتهريب والجريمة المنظمة.

4- على المستوى الدبلوماسي: في حين يبدو من تصريحات الرئيس التونسي قيس سعيد أنه لا يرغب كثيرا في حاجة بلاده لدول إفريقيا جنوب الصحراء أو تعزيز علاقاتها مع مواطني هذه الدول اعتمادا على ادعاءاته بمحاولة تغيير الهوية الإسلامية والعربية لتونس (رغم كثر نسبة المسلمين في دول إفريقيا جنوب الصحراء وتأثرهم بالثقافة الإسلامية واللغة العربية)؛ فإن خطواته وأزمة الهجرة هذه ستؤثر في علاقات تونس مع هذه الدول,  وخاصة من الناحية الدبلوماسية للدول التي أجلت رعاياها أو تراقب التطورات بقرب. كما أن التعامل اللاإنساني والتصريحات العنصرية للسياسيين في تونس والحملات على المواقع الاجتماعية التي تؤيد هذه الممارسات وتصف مهاجرين من إفريقيا جنوب الصحراء بأوصاف تحقيرية وعنصرية؛ كلها بدأت تغذي التصور السلبي تجاه تونس بين الأفارقة من المنطقة. ومما يلاحظ من تحليلات بعض الخبراء الأفارقة من المنطقة أنهم يربطون الاعتداءات على المهاجرين مع ما تعانيه تونس في الداخل من حيث إخفاقات سيادة القانون والديمقراطية منذ السنوات القليلة الماضية.

5- على المستوى الشعبي والثقافي والعلاقات مع أفارقة جنوب الصحراء: باستقراء التقارير وردود أفعال بين الدول الإفريقية المختلفة ومواطنيها؛ فإن الأحداث الراهنة قد تعمّق الشعور بالعداوة والاستياء بين شعوب دول جنوب الصحراء وشمال إفريقيا. وفي حالة تجسيد هذا الاستياء بشكل أوسع سينعكس على العلاقات الثقافية والاجتماعية بينهم ويؤدي إلى تزايد التفرقة والانقسام، ويساهم في التمايز بين الأفريقي “ذي البشرة السوداء” والأفريقي “ذي البشرة البيضاء”، ويدفع الشعوب في الجهتين إلى النّظر في القضايا – حتى الإنسانية منها- بناءً على اللون والعرق، وهذا يمثل الضربة الأكبر للإنسانية والقضايا التي تمسّ حياة جميع سكان إفريقيا دون استثناء.

وإذا كانت الأوصاف السلبية والأسماء البذيئة التي تطلق على أفارقة من إفريقيا جنوب الصحراء تؤشر على النظرة النمطية القائمة في المجتمع التونسي تجاه ذوي البشرة السوداء من المواطنين التونسيين والتحيّز ضدهم في البلاد؛ فإن خطاب الرئيس سعيد حول محاولة التغيير الديموغرافي – والذي أكسبه إشادة سياسيين يمينيين متطرفين بمن فيهم – السياسي الفرنسي إيريك زمور – ليس له أساس تاريخي يذكر في تونس. واستقراء حالات أخرى في دول مختلفة تظهر أنه مأخوذ من قواعد لعبة الحملات التي تستهدف المهاجرين سواء في أوروبا أو غيرها, مثل ما حدث في جنوب إفريقيا عندما كان المهاجرون كبش فداء في قضية ارتفاع البطالة وعدم المساواة, وفي الولايات المتحدة الأمريكية عندما استُهدف المهاجرون اللاتينيون بدعوى أنهم سبب الانكماش في دورة الأعمال والتجارة. ومن وجهة أخرى قد يعني الأمر أن الرئيس التونسي يخلق لشعبه عدوًا وهميًا – وهي مشكلة قد يصعب لتونس معالجتها بسرعة وخاصة عندما تكون في حاجة إلى جيرانها الأفارقة سواء لمشروعاتها الإقليمية أو لكسب تحالف عالمي مستقبلي.

نحو حلول فعّالة

من المفترض أن الحكومة في تونس ستتعامل مع أزمة الهجرة غير “الشرعية” من إفريقيا جنوب الصحراء باحترافية وعبر آليات أكثر استدامة حتى لا يتأثر الأفارقة الآخرون المقيمون في تونس بطريقة شرعية وقانونية؛ ولكن التطورات السياسية والاقتصادية ونقص السلع الأساسية يعني أن تونس نفسها تمرّ بأزمات كبيرة وأنها بحاجة إلى معالجة نفسها أولا قبل أي شيء.

هذا, وقد وقّع الاتحاد الأوروبي مع تونس مذكرة تفاهم في يوليو 2023 حول “شراكة استراتيجية شاملة” شملت مكافحة الهجرة غير النظامية حيث تعهد أوروبا على مساعدة تونس بقيمة 105 مليون يورو([13]) بهدف منع مغادرة قوارب المهاجرين إلى الاتحاد الأوروبي من السواحل التونسية ومحاربة المهربين مع تقديم ثمانية قوارب لعمليات البحث والإنقاذ والطائرات بدون طيار للسلطات الساحلية التونسية, بالإضافة إلى تسهيل عودة من التونسيين الذين هم في وضع غير نظامي في الاتحاد الأوروبي إلى تونس([14]) والمهاجرين من إفريقيا جنوب الصحراء في تونس إلى بلدانهم. وقد أثار هذا الاتفاق مع تونس عدة انتقادات بسبب معاملة سلطات تونس للمهاجرين من إفريقيا جنوب الصحراء, وخاصة أن تونس أوضحت أنها غير مستعدة لأن “أن تكون بلدًا لاستقرار المهاجرين غير النظاميين”، وهو ما يعني أن الاتفاقية تغطي فقط عودة التونسيين الذين هم في وضع غير قانوني في الاتحاد الأوروبي([15]).

ومع ذلك, فإن كون تونس عضوا في الاتحاد الإفريقي وصديقة لدول مختلفة في إفريقيا جنوب الصحراء يمنحانها فرصة التعامل مع ملف الهجرة بطريقة لن تخلّ بعلاقاتها مع هذه الدول, سواء من خلال الدعوة إلى الاجتماعات أو التواصل مع الدول الإفريقية الصديقة لمناقشة القضية, أو باستخدام الدول التي أجلت رعاياها لبحث سبل النظر في القضية والطريقة الأمثل للتعامل معها. ويؤكد شعور الأفارقة من المنطقة وردود أفعالهم تجاه الأزمة أن تبنّي الدبلوماسية في الملف مهمة, وخاصة أن قضية الهجرة أصبحت تشكّل مصالح السياسة الخارجية للدول الأفريقية التي تستجيب لجدول الأعمال الخارجي الأوروبي بالتعاون الكامل أو التعاون الجزئي ولكن دون التشدد في تنفيذ هذه الاتفاقات أو تجاهلها التام بسبب الخطورة أو التداعيات التي تحتويها الاتفاقيات لهذه الدول وأبعاد أزمته المتعددة.

ويضاف إلى ما سبق أن العامل الرئيسي وراء الهجرة غير “الشرعية” هو فشل الحكومات في تزويد معظم المهاجرين بالفرص داخل بلدانهم, والاضطرابات السياسية والتحديات الأمنية في بعض المناطق والدول مما يدفع الكثيرون من الشباب إلى مغادرة هذه المناطق والهجرة إلى ما يعتبرونه مجتمعات أكثر أمانًا وانفتاحا.

وإذا كانت الحكومات الإفريقية تتحمل اللوم على معظم الأسباب والدوافع التي تحفز على الهجرة؛ فإن أوروبا – التي تشكو من الهجرة من إفريقيا وتوقع سلسلة اتفاقيات مع دول القارة – ليست بريئة من أسباب هذه الهجرة. بل المشكلة الأخرى أن مساعداتها أصبحت هدف معظم الحكومات الإفريقية التي تفرط في الاعتماد على هذه المساعدات الغربية وهو ما تلهيها من تطوير قدراتها المحلية وإيجاد حلول وطنية فعالة لمختلف التحديات التي تساهم في هذه الهجرة. وهناك حكومات أصبحت كسولة وضعيفة لدرجة أنها لا تريد إيجاد نهاية للأزمة بسبب العوائد المادية التي تحصل عليها من العالم الغربي.

إن تتبع طريقة التعاملات مع ملفات الهجرة من مختلف المناطق حول العالم يكشف النفاق الغربي وحلفائه تجاه الهجرة من إفريقيا. كما أن التفاعلات بين الدول الإفريقية والأوروبية بشأن التعاون في مكافحة الهجرة تظهر الازدواجية الموجودة في الإجراءات المرتبطة بإدارة الهجرة والتناقضات بين الأهداف المعلنة والمكتوبة على الأوراق وأساليب تنفيذها. بل بالرغم من أن أوروبا تناشد الدول الإفريقية بالتزام المسؤولية الأخلاقية كحقوق الإنسان وتطالب بضرورة الديمقراطية، إلا أن تقارير في ليبيا والسودان تفيد أن الدول الأوروبية تقايض مساعدات التنمية للسيطرة على الهجرة وتعزز التعاون في مجال الهجرة مع الأنظمة الاستبدادية والحركات المتمردة التي تتهمها بانتهاك حقوق الإنسان.

وقد أدت ما سبق بخبراء اقتصاديين وباحثين في ملف الهجرة إلى القول إن تفضيل الدول الإفريقية التعاون مع أوروبا وتبنّي سياسات الهجرة الخارجية للدول الأوروبية؛ كلها قد تؤدي إلى تضارب المصالح الوطنية والإقليمية الإفريقية وتلهي من التركيز على المنظورات طويلة الأجل التي تعزز التنقل الأفريقي والتكامل الاقتصادي والتعاون التنموي داخل القارة. وعليه, يجب على الجهات الفاعلة الإفريقية – الحكومية وغير الحكومية – تفعيل دور الاتحاد الأفريقي والمجموعات الاقتصادية الإقليمية الأخرى لتكون جبهة موحدة في الاستجابة لملف الهجرة بما يتوافق مع أجندة الكتلة القارية السياسية والاقتصادية وجداول الأعمال بشأن حرية التنقل.

واعتمادا على ما سبق, قد تكون الخطوة الأولى لإيجاد حلول مستدامة لأزمة الهجرة؛ قيام الحكومات الأفريقية بوضع سياسة مشتركة للهجرة من خلال الاتحاد الأفريقي, وزيادة التعاون بين الاتحاد الأفريقي والاتحاد الأوروبي والمنظمة الدولية للهجرة والمفوض السامي للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين لوضع سياسة مشتركة للتعامل مع الهجرة الناتجة عن بحث الفرص الاقتصادية من خلال التركيز على خلق فرص التدريب والتوظيف للشباب داخل القارة وإنشاء أنظمة الإعادة إلى الوطن من قبل الحكومات الأفريقية لمساعدة المواطنين الأفارقة المحاصرين في أزمات الدول الأجنبية وإعادة تأهيلهم. ويتطلب هذا أيضا إعادة النظر في فاعلية آليات الدول الأفريقية وشركائها العالميين لكسر شبكات التهريب التي تستغل الشباب الأفارقة. وقد دعا البعض أيضا إلى تمكين اللاجئين من خلال منحهم الموارد المالية وتدريبهم على التكنولوجيا والأعمال التجارية التي تمكنهم من إنشاء أعمالهم التجارية الخاصة والعودة إلى ديارهم دون إهانة وتحقير. وهذه النقطة الأخيرة ترتبط بزيادة الدعم والاعتراف بالقطاع غير الرسمي وتبني الحكومات الابتكارات المحلية ودعم نموها من خلال تزويدها بالموارد والدعم اللازمين.

وأخيرا, سيكون لصالح الحكومة التونسية اعتبار الأفارقة من جنوب الصحراء مصدر قوة لها في تعزيز علاقاتها مع دولهم الإفريقية, حيث لمجموعات الشتات والمنظمات غير الحكومية الإفريقية إمكانات التأثير في السياسات الخارجية بمعظم الدول الإفريقية. ولذلك سيكون من الأفضل إعطاء الأولوية لحلول الهجرة طويلة الأجل من خلال الطرق الإقليمية والقارية لتحقيق التوازن بين فوائد الهجرة وتعزيز المسارات الآمنة والمنتظمة داخل إفريقيا.

ــــــــــــــــــ

[1] – “Le monde (2023). En Méditerranée, le trimestre le plus meurtrier depuis 2017 selon l’ONU.” Le Monde. Retrieved from https://tinyurl.com/2p9fp45k

[2] -Simon S. Cordall (2023). “Africans attacked, flee Sfax, as Tunisia racial tensions explode”. Alajazeera, retrieved from https://shorturl.at/vBFNW

[3] – بي بي سي (2023). “الهجرة غير الشرعية..مهاجرة إفريقية تضع مولودتها على الحدود بين تونس والجزائر”. عبر الرابط: https://shorturl.at/ahkrF

[4]– أصوات مغاربية (2023). “مقتل تونسي في صدامات مع مهاجرين في مدينة صفاقس.” عبر الرابط https://shorturl.at/wJU59

[5] – Matt Herbert (2022). “Losing hope: Why Tunisians are leading the surge in irregular migration to Europe”. The Global Initiative, retrieved from https://shorturl.at/orBGP

[6] – المرصد الوطني للهجرة, وإحصائيات تونس (2021). “المسح الوطني للهجرة الدولية”. تقرير تم إعداده من قبل الحكومة التونسية بالتعاون مع الاتحاد الأوروبي ومنظمات أخرى, متوفر (على صيغة ملف بي دي) هنا: https://shorturl.at/nxET5

[7] – هيومن رايتس ووتش (2023). “تونس: موجة عنف عنصرية تستهدف المهاجرين واللاجئين السود”. عبر الرابط التالي: https://shorturl.at/buIL5

[8]الاستبدال العظيم (بالفرنسية: le grand remplacement)‏ هي نظرية مؤامرة يمينية، والتي تنص على أن السكان الفرنسيين الكاثوليك البيض، والسكان الأوروبيين المسيحيين البيض عمومًا، يجري استبدالهم بشكل منتظم بغير الأوروبيين، خاصة السكان العرب، البربر، الشرق الأوسطين والشمال إفريقيين والأفريقيين من جنوب الصحراء، من خلال الهجرة.

وفي القارة الأفريقية تبناها بعض سكان شمال القارة الأفريقية كالحزب القومي التونسي وأنصاره ضد الأفارقة السود من جنوب الصحراء.

[9] – Aljazeera (2023). “African Union postpones Tunisia meeting after racist attacks.” Retrieved from https://t.ly/m-Wr6

[10] – Donatus Anichukwueze (2023). “14 Migrants From Sub-Saharan Africa Drown Off Tunisia”. Channels TV, retrieved from https://shorturl.at/xFPQV

[11] – نجلاء بن صالح (2023). “الحزب القومي التونسي: العنصرية الزاحفة بمباركة الدولة”. منصة نواة, متوفر على الرابط: https://tinyurl.com/2p8fma5u

[12] – TRT عربي (2023). “تونس.. تظاهرات بصفاقس ضد مهاجرين غير نظاميين”. متوفر على الرابط: https://tinyurl.com/b48ap3kr

[13] – AFP (2023). “EU, Tunisia sign deal to fight illegal migration.” Africa News, retrieved from https://shorturl.at/hADLP

[14] – Balogun K. Lekan (). “This Week In Africa 72623: UK Sanctions Officials And Organisations Linked To Wagner Group; Kenyan Protesters Clash With Police Over Tax Hikes; IMF Approves A $43 Million Loan To The DRC; Morocco Invites Israeli PM Following Recognition Of Morocco’s Sovereignty Over Western Sahara.” Alafarika for Studies and Consultancy, retrieved from https://alafarika.org/4351/this-week-in-africa-72623-uk-sanctions-officials-and-organisations-linked-to-wagner-group-kenyan-protesters-clash-with-police-over-tax-hikes-imf-approves-a-43-million-loan-to-the-drc-morocco-invi/

[15] – Hammed J. Sulaiman (2023). “How Feasible Is The Tunisia-EU Pact To Tackle Irregular Migration From Africa?.” Alafarika for Studies and Consultancy, retrieved from https://alafarika.org/4355/how-feasible-is-the-tunisia-eu-pact-to-tackle-irregular-migration-from-africa/

ظهرت المقالة أزمة الهجرة غير النظامية من أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى في تونس: مناقشة التداعيات واستكشاف الحلول أولاً على الأفارقة للدراسات والاستشارات.

]]>
https://alafarika.org/ar/5623/the-crisis-of-irregular-migration-from-sub-saharan-africa-in-tunisia-discussing-implications-and-exploring-solutions/feed/ 0 5623
التأمين التكافلي في نيجيريا: المكاسب والتحديات https://alafarika.org/ar/5613/takaful-insurance-in-nigeria/ https://alafarika.org/ar/5613/takaful-insurance-in-nigeria/#respond Wed, 02 Aug 2023 10:22:28 +0000 https://alafarika.org/ar/?p=5613

تناولت الورقة نظام التأمين التكافلي كأداة اقتصادية لإدارة المخاطر وتخفيف تبعاتها في العصر الحاضر، وبيان حقيقة التأمين التكافلي وعلاقته بالتأمين التجاري، وبيان حقيقة التأمين في نيجيريا. وتحدّتث أيضا عن المكاسب والتحدّيات المصاحبة للنشاط التكافلي في نيجيريا, وعرضت أوّلية التأمين في نيجيريا، واستعرضت حقيقة التأمين التكافلي كونه البديل الإسلامي للتأمين التجاري التقليدي. وتوصّلت الورقة إلى مجموعة من النتائج أهمّها: أنّ النشاط التأميني قديم في نيجيريا منذ العهد الكولونيالي، وأنّ أوّليّة النشاط التأمين التكافلي في نيجيريا تعود إلى عقدين من الزمن تحديدًا، مرّ من خلالهما بعهدين - أوّلهما عهد النشاط النوافذي بين 2003 و2016، ثم عهد النشاط التكاملي بين 2016 وما بعده-. ومن أهمّ الإنجازات التي اكتسبها التأمين التكافلي: تعميق حجم الأنشطة التأمينية، ووجود إضافات نوعيّة في القطاع التأمين النيجيري وامتلاك استراتيجيات مخترقة للسوق. وفيما يتعلق بأهم التحدّيات القائمة في سبيل تطوّر التأمين التكافلي, فهي انخفاض حجم تغلغله مقارنةً بالتأمين التقليدي وقلة المنتجات الشرعية المبتكرة وقلة الموارد البشريّة مع انخفاض محو الأمية المالية الإسلامية.

ظهرت المقالة التأمين التكافلي في نيجيريا: المكاسب والتحديات أولاً على الأفارقة للدراسات والاستشارات.

]]>

الورقة متوفرة للتحميل (PDF) هنا

يُعد التأمين التكافلي البديل الإسلامي للأنظمة التأمينيّة التقليديّة، وقطاعًا متناميًا من قطاعات التمويل الإسلامي المنتشر في أقطار العالم. وتعود التجربة النيجيرية إلى عقدين من الزمن ذاق فيه المرّ والحلو، ابتداءً من مرحلة ولادة النشاط التكافلي النوافذي حتى مرحلة النشاط التكافل التكاملي التي ظهر فيها مكاسب التأمين التكافلي في نيجيريا وإنجازاته. وبما أنّ القطاع التكافلي النيجيري في مرحلة طفولته، فقد قامت أمامه معوّقات وتحدّيات أثّرت في قومتها وكادت أن تودي بها لولا رحمة الله تعالى، وفيما يلي تقرير مختصر عن التأمين التكافلي في نيجيريا: المكاسب والتحدّيات.

حقيقة التأمين

تعدّ  ثقافة التأمين ظاهرة اجتماعية ضروريّة في المجتمعات المعاصرة، خاصة في الدول المتقدّمة. حيث يشكلّ التأمين أساسًا مهمًّا من أساسيّات الحياة المعاصرة . وحقيقية التأمين قائمة على نظام تعاقدي يقوم على أساس معاوضةٍ غايته التعاون على ترميم أضرار المخاطر الطارئة بواسطة هيئات منظمة تزاول عقوده بصورة فنية قائمة على أسس وقواعد إحصائية (الزرقا، 1984)، فقد أصبحت ظاهرة ترافق الحياة العامة والنشاط الإقتصادي في أقطار العالم في جميع الشؤون ، من التأمين على الأموال ضد مختلف الاخطار، إلى التأمين على المسؤوليات من حوادث السيارات وسواها، إلى التأمين على حياة الناس المسافرين على متون الطائرات وسائر وسائط النقل الحديثة من قبل شركات النقل الجوي وسواها، ثم إلى تامين كثير من الأشخاص على حياتهم لمصلحة أسرهم وأولادهم إذا أصابتهم مصيبة الموت (الزرقا، 1984). والتأمين في العصر الحديث مؤشّر رائد في ضبط معدّل جودة الشركات الصناعيّة، ومن أفضل الوسائل التي تمكّن الإنسان من التخفيف من آثار الكواراث الواقعة بفعل الشخص أو بفعل الغير لتبرز أهميّته في دوره في الحفاظ على ممتلكات الأفراد وحمايتها من مخاطر الكوارث الطبيعيّة (هوادف، 2022)، و لتصبح وسيلة الأمان المتفقة وروح العصر الحديث في إدارة الكوارث مع كثرة الأخطار واتضاح مخاطر التطوّر فيه.

نظام التأمين التكافلي

ولا يختلف نظام التأمين التكافلي أو الإسلامي من حيث المقصد والغاية والإجراءات عن التأمين التقليدي التجاري إلاّ في خيارات العقود المستعملة وإجراءاتها ومنتجاتها التسويقيّة ليصبح النظام التأميني البديل عن نظام التأمين التقليدي الذي رأى الفقهاء والاقتصاديون المسلمون المعاصرون عدم موافقته لروح الشريعة الإسلامية لاشتمالها على عقود محرّمة في الشريعة الإسلامية مثل الربا والميسر والغرر الفاحش. فقد انتشر التأمين التكافلي في المجتمعات الإسلامية وفي مجتمعات الأقلية المسلمة فأصبح أداة رائجة من أدوات التمويل الإسلامي المعاصر ونظامًا بديلاً لنظام التأمين التقليدي أو التجاري المحرّم عند المسلمين.

أولية التأمين في نيجيريا

تعود تجربة نيجيريا التأمينية إلى ما قبل العهد الاستقلالي عن طريق شركات التامين الأوربية التي فرضتها الإدارة الكولونيالية لتنظم خدمات تأمينية بواسطة نظام اتفاقيات التجارة الإقليمية (REGIONAL TRADE SYSTEM) حيث  ترد تصاريح شركات التأمين من السلطات الخارجية. فقد انطلقت أول شركة تأمينية نيجيرية غير أهلية عام 1921 بينما انطلقت أول شركة نيجيرية أهلية – شركة “التامين التحالفي الأفريقي” (AFRICAN ALLIANCE INSURANCE) عام 1958 إلى أن استحوذت الشركات التأمينية الأهلية على القطاع التأميني النيجيري فنالت عام 1976نصيب الأسد من إجماليّ الشركات التأمينية النيجيرية  بمعدّل 80 في المئة.

وكما في القطاعات المالية الأخرى، فإنّ التديّن والمحافظة على القيم الاقتصادية الإسلامية سبب ظاهر ومهمّ من أسباب إقصاء المسلمين ماليًّا  في نيجيريا، فضعفت مشاركاتهم في منتجات شركات التأمين التقليدي لا سيّما في مجتمعات الأكثرية المسلمة حيث تنبه علماء المسلمين للفروق الجوهرية بين النظام المالي التقليدي  المعمول به في القانون النيجيري وبين النظام المالي الإسلامي. فكان من آثار ذلك وجود تحفظّ ظاهر لمسلمي نيجيريا في الشمال والجنوب حال دون مشاركات فعّالة في الأنشطة الاقتصادية التقليدية في القطاع المالي المصرفي، وفي قطاع سوق العمل النيجيري وفي القطاع التأميني التقليدي، ليصير الإقصاء المالي (FINANCIAL EXCLUSION) من أكبر مخلّفات هذه الظاهرة.

التأمين التكافلي في نيجيريا

ومع شعور المسلمين بحجم االآثار السلبية التي نجمت من نظام الإقصاء المالي في نيجيريا بسبب قلة المشاركة في الأنشطة الاقتصادية وتبعاتها على الحياة الاجتماعية العامة للمسلمين، ظهرت اهتمامات وإجراءات قانونية قام بها الكوادر الثقافية من المسلمين أسفرت عن ولادة نظام التمويل الإسلامي في تسعينات القرن الماضي عبر مرسوم البنوك والمؤسسات المالية (BOVID) والمعروف الآن بــ (BOVIA) الذي أعلنه رسميًّا “المجلس العسكري الأعلى بنيجيريا”

(Alaro & Alao,2019 ). ويعدّ هذا المرسوم العسكري نقطة انطلاق مؤثر في التحوّل الجذري في القطاع المالي النيجيري أنتج فيما بعد نظام النوافذ الإسلامية في المؤسسات المالية التقليدية بنيجيريا والذي أتاح للمؤسسات المالية الإسلامية المصغّرة فرص الانخراط داخل المؤسسات التقليدية القائمة وممارسة الأنشطة المالية الإسلامية تحت نظام النوافذ WINDOWS OPERATION SYSTEM))

في عام 2003، سجلّت  كلّ من شركة التامين الأفريقي التحالفي (AFRICAN ALLIANCE INSURANCE) وشركة النيجر للتأمين (NIGER INSURANCE PLC) و شركة كونرستون للتأمين (CORNESTONE INSURANCE PLC) نوافذ التأمين التكافلية

(ISLAMIC TAKAFUL WINDOWS)  المتخصصة في إدارة نظام الـتأمين وفق الأسس والقواعد المتبعة في العالم الإسلامي من أجل التحكّم على مشكلة الإقصاء التأميني الذي يعاني منه الأكثرية المسلمة التي تعدّ بالأغلبية الكوادر الاقتصادية النشطين في البلاد.

على وجه الخصوص، فقد زادت شركة كونرستون من حجم نافذتها التكافلية فأنشأت مكتبًا خاصّا للتكافل ذا إدارة استقلالية لم تدمج أنشطتها  ولا أموالها في أنشطة التأمين التقليدي، واعتمدت لنافذتها التكافلية اسمًا تجاريًّا رسميًّا “التكافل الحلال” (HALAL TAKAFUL) يناسب طموحات العملاء المسلمين ، فكانت هذه الجهود منطلقات أساسية لنظام التأمين التكافلي النيجيري. (Yusuf, 2012).

وبعد عشر سنين من دخول التكافل في نظام التأمين النيجيري، دشّنت اللجنة الوطنية للتأمين (NAICOM) دليل التكافل لشركات التكافل (OPERATORS’ GUIDELINES FOR TAKAFUL INSURANCE) التي تعنى بالقواعد واالمعايير الأساسية لإدارة التكافل في نيجيريا وبيان المعطيات العلمية والفنية لمؤسسات التأمين التكافلي ليسهل فيما بعد ذلك الانتقال لمرحلة النظام التكافلي التكاملي في نيجيريا، فنالت شركة النور للتكافل (NOOR TAKAFUL) الرخصة المتكاملة لإدارة التأمين التكافلي إبريل 2016، تليها شركة “جائز للتكافل” (JAIZ TAKAFUL) يونيو 2016 ليكونا شركتي التأمين التكافلي المتكاملتين الرائدتين في نيجيريا. (Jumah & Yakubu, 2019)

ولعلّ من أهمّ إنجازات القطاع التأميني النيجيري أن تمّ حتى عام 2020 تسجيل ست شركات التكافل الأهلية عند اللجنة الوطنية للتأمين (NATIONAL INSURANCE COMMISSION) وهي نور للتكافل، والجائز للتكافل، والهلال للتكافل، والسلم للتكافل، ونافذة شركة التأمين النيجيري, ونافذة شركة التامين الأفريقي التحالفي Alaro, 2021) (. فنافست بأنشتطها التكافلية شركات التأمين التقليدية وبعثت بحصائدها في وقت مبكّر أشواق الآمال في قلوب المشتركين المكتتبين كما أتاحت بمنتجاتها فرص الاستفادة والاحتواء المالي (FINANCIAL INCLUSION) للراغبين في التمويل الحلال (HALAL FINANCE ) والتمويل الأخلاقي (ETHICAL FINANCE).

وبعد تجربة دامت عشرين سنة في القطاع التكافلي النوافذي، وتجربة ست سنوات في القطاع التكافلي المتكامل الرخصة، يبقى السؤال المنطقي الواضح  :ما هي مكاسب نظام التأمين التكافلي في نيجيريا؟  ما هي آمال التكافل ومحدّداته، وما هي التحديات التي تشكّل عثرات في طريق تقدّم التكافل بنيجيريا؟ وفي السطور التالية أجوبة مقتضبة على هذه التساؤلات.

مكاسب التأمين في نيجيريا

1- تعميق حجم الأنشطة التأمينية

بعد عشرين سنة من تطبيق نظام التأمين الإسلامي في نييجريا، فقد ظهرت إنجازات بعيدة الأثر في القطاع المالي النيجيري من خلال تعميق الوعي النخبوي بأنشطة التكافل كنظام إسلامي بديل للتأمين التقليدي التجاري، فكان من مرابح التأمين التكافلي تعميق حجم النشاط التأميني في نيجيريا بسسب إيجاد فرص تمويليّة ساعدت على سد فجوات الإقصاء المالي في البلاد. وبما أنّ المسلمين يشكّلون النسبة المئوية الأعلى في نيجيريا فمن المؤسف أن تبتعد أنشطة شركات التأمين التقليدية عن أسواق بلدان الشمال النيجيري ذات الأكثرية المسلمة.! فقد أسفرت نتائج بعض البحوث بأنّه ضمن 49 شركة ضمان السندات  (UNDERWRITERS)المسجلة في نيجيريا، تقع ثلاث منها فقط  في الشمال، كما يقع فيه 62 سمسارًا  (BROKERS)  فقط من إجماليّ 510 شركات السمسرة المسجّلة في نيجيريا، بينما جميع شركات معدلي الخسارة ال37 المسجلة بنيجيريا  (LOSS ADJUSTERS)تقع بعيدة عن المحيط الجغرافي الشمالي(Yusuf, 2012)! فإنّ دلّ هذا التقرير على شيئ، فدلالته محدّدة لإشكالية ضعف حجم النشاط التأميني في مناطق شمال نيجيريا لأسباب أهمّها تحفظات الشماليين الدينينة من الانخراط في الأنشطة التأمينية التقليدية. ومع تدشين نظام التكافل الموافق للأسس الإسلاميّة والمعايير الأخلاقية، فقد تأثرت نسبة التغلغل التأميني في القطاع المالي النيجيري إيجابيًّأ، وزاد تطبيق التكافل من عمق الأنشطة التأمينية في البلاد ، وزادت ثقافة التأمين بين الفئة الذين يعانون من الإقصاء التأميني من خلال تأمين سياراتهم ومنشئاتهم ومستقبل أسرهم تأمينًا تكافليًّا إسلاميًّا.

2- الإضافات النوعيّة في القطاع التأمين النيجيري

من أوضح مكاسب التأمين التكافلي في القطاع التأميني النيجيري جدة نظام التكافل واشتمالها على منتجات إبداعية مبتكرة أضافت في أداءات القطاع التأميني عمومًا وأتاحت  للآيسين من نظام التأمين التقليدي فرص التحوّل إلى نظام تأمينيّ بديل يتوافق في غاياته وأهدافه مع التأمين التقليدي لكن بوسائل أخلاقية مستجدة تواكب المعطيات الفنية والمهنيّة للتأمين. فإذا كان التأمين التقليدي عقدًا بين طرفين المؤمِّن والمؤمَّن له يلتزم فيه الأول للثاني بأداء عوض مالي في حالة وقوع حادث أو تحقق خطر، مقابل أقساط مدفوعة من قبل الطرف الثاني بواسطة شركات مساهمة يتعامل معها عدد ضخم من المستخدمين (الزرقا، 1987)، فإنّ نظام التأمين التكافلي قائم على مبدأ التعاون والتبرع والهبة ،مع نوع من التنظيم من خلال وجود شركة مساهمة تكون وكيلة ، وحساب خاص بالتأمين التعاوني.(القره داغي،2007) فلا شكّ أنّ مرونة نظام التأمين التكافلي، وبساطة إجراءاته، ووضوح شروطه ومتطلباته، وجدة عقوده  وتطبيقاته ومنتجاته في القطاع التأميني النيجيري وخصائصه الإنسانيّة والأخلاقية من أكبر الإضافات النوعيّة التي سوّقت نظام التكافل في سوق التامين النيجيرية في وقت الإياس وضعف الموثوقية بالنظام التقليديّ السائد. فإذا كانت الموثوقية وجودة المنتج لدى المستهلك تعتمد على مقدرته على الأداء المرضي لفترة زمنية محدّدة، فإنّ مقياس جودة منتجات التكافل تعتمد على مقدراتها في اختراق سوق القطاع التأميني النيجيري وإضافاتها النوعية المبتكرة في أقرب وقت ممكن، وفي مقدرتها على منافسة الأسواق التقليديّة القائمة بخطوات سريعة ومؤثرة.

3- استراتيجيات اختراق السوق

ومن مكاسب التأمين التكافلي في القطاع التأميني النيجيري صناعة استيراتيجيات  مخترقة للسوق اثرت في الإرادة السياسية لدى صنّاع القرار من الهيئات التنظيميّة وشركات التأمين والعملاء على السواء. حيث يمتلك قطاع التأمين التكافلي محرّكات جذّابة أهّلته لمنافسة شركات التأمين القائمة. كما يوجد العديد من العملاء المحتملين الذين لديهم مواصفات تأمينية لا توفّر إلا في قطاع الـتأمين التكافلي. ويمتلك قطاع التأمين التكافلي منتجات مرخصة أو قابلة للترخيص لإدارة الكوارث وتخفيف المخاطر تتوافق مع أصول الشريعة الإسلامية تلبي الاحتياجات التأمينية لدى نسبة عالية من الشعب النيجيري.

فقد أدخل نظام التكافل في سوق التأمين النيجيرية برنامجًأ متعدّد الوظائف لا يعنى فقط بإدارة المخاطر والكوارث، بل أضاف إلى ذلك جعل نظام التكافل عقد شراكة ربحيّة تدرّ على المشتركين فوائدًا ربحية مباحة بعيدة عن أكل أموال الناس ظلمًا أو التآكل على هامش مصائب الآخرين. فالعلاقة التعاقدية بين شركات التكافل والمشتركين علاقة وكالة محدّدة الوظائف، فليست شركات التكافل إلا وكلاء المشتركين لإدارة الأقساط المدفوعة في صالح المخاطر والكوارث المستقبيلة لقاء أجرة محدّدة. وفي حالة غياب الكوارث والمخاطر تقسم فوائض الأقساط التكافلية بين المشتركين، أو تقسم بين المشتركين الذين لم تسبق لهم مطالبات التأمين. ولا شك أنّ نظام  التكافل جذّاب مخترق للأسواق حتى قال القسيس بيجو أوييمادي   (PEJU OYEMADE) من كنيسة كوفيننت (COVENANT) في هامش برنامج دفع الفوائض التكافلية الذي نظمته شركة النور للتكافل يونيو 2022 : “يجب أن أقرّ بأنني لم أسمع قبل الآن بأيّة منظمة تجاريّة تدار على هذه الطريقة ،هذا شيئ مذهل جدير بالثناء، ويبدو لي شخصيًّا بأنّه سيطول زمانه”(Premium Times, 2022).

تحدّيات التأمين التكافلي في نيجيريا

ومع تعدّد المكاسب والإنجازات التي ولّدها التكافل في القطاع التأميني النيجيري فمن المتوقّع أن تقوم أمامه تحدّيات ومشاكل تعثر طريق نموّه وتقدّمه ولعلّ من أهمّ التحديّات التي تشكّل حجر عثرة تقدّم نظام التكافل في نيجيريا ما يلي:

1- انخفاض حجم التغلغل:

سجّل القطاع التكافلي انخفاضًا مزريًّا في سوق التأمين النيجيري حيث أسفرت أواخر تقارير الهيئة التنظيمية بأنّ مجموع رسملة القطاع التكافلي يقع في 0.5% من إجمالي رسملة القطاع التأميني التقليديّ!Alaro,2022)). ومع كون هذه المشكلة متوقعة بسبب قلة حجم التغلغل الـتأميني مقارنة بالقطاع المالي العام من أجل الوعي المنخفص والاختراق المنخفض وحصة سوق منخفضة إضافة إلى عدم ثقة الجمهور بأداءات القطاع التأميني ليرث القطاع التكافلي هذه العوائق مضافة إلى عوائقها الطبيعية المؤثرة في انخفاض النشاط التكافلي النيجيري. ومن أسباب هذا الاتخفاض جهل أو تجاهل العملاء المحتملين لحقيقة تطبيق التكافل فلم ير مثلاً منهم إقبالاً محمودًا لخدمات التأمين التكافلي والاستفادة من منتجاته المتنوعة، كلّ ذلك من أجل الوعي المنخفض بالخدمات التكافلية بين العملاء المحتملين. وليس بعيدًا إذا قيل إن انخفاض حجم التغلغل التكافلي يعود على درجة الوعي الجمهوري بحقيقة التكافل، وعدم معرفتهم الفروق بينها وبين التأمين التقليدي من حيث الحقيقة والتطبيق، وعدم معرفة المنتجات التكافلية التي تبعث من موثوقية الجمهور ، كل هذا -وغيره كثير- من مسؤوليات الهيئة التنظيمية، وشركات التكافل، من أجل رفع مستوى حجم الوعي العام والثقة الجمهوريّة لأداءات تطبيق النظام التكافلي بين العملاء المحتملين بنيجيريا.

2- قلة المنتجات الشرعية المبتكرة:

قد سبق القول إنّ لنظام التكافل بتطبيقاته الدولية خيارات الجدة والابتكار في المنتجات المستعملة فاقت بها النظم التقليدية، إلاّ أنّ قانون الترخيص الصادر من اللجنة الوطنية للتأمين NAICOM)) يحمل نوعًا من الصرامة والجمود، ويقيّد التحوّلات المبتكرة المواكبة للأداءات الدولية لنظام التكافل. حسب مرسوم اللجنة الوطنية للتأمين، فإنّ إدارة التكافل في نيجيريا لا تتجاوز سقف ثلاثة عقود شرعيّة :المضاربة، الإجارة والعقد المركّب بين المضاربة والإجارة بينما تقبل مرونة نظام التكافلي الإدارة وفق عقود شرعيّة أخرى  مثل الوقف والهبة  والتبرع بترتيبات معاصرة كالتمويل الجماعي وغيرها من الترتيبات  الأكثر مرونة والمحتملة للاحتياجات المعاصرة في مجال الشبكات الاجتماعية، والتقدّم الاجتماعي،والتحوّل البيئي مع تزايد خطورة الكوارث الإنسانية، وارتفاع الأهمية الاقتصادية للأسواق النامية، ومع التحولات السياسية والمخاطر الحيوسياسية والديموغرافيةPWC,2015)) وغيرها كثير من العوامل الرائدة المؤثرة في النشاط التأميني والتكافلي على السواء، والتي توجب على نظام التكافل مواكبة موجات العصر من خلال تقديم منتجات إبداعية مناسبة. ولا شكّ أن المنتجات القائمة في القطاع التكافلي النيجيري لا تفي بجميع الحاجات التأمينية المعاصرة، ومن ثم وجوب تقديم مرسوم يتسم بالمرونة من جانب الهيئة التظيمية، وتحسين الأداء التطبيقي بتنمية مهارات الإبداع وزيادة المنتجات الشرعية المبتكرة من جانب الشركات التكافلية.

3- قلة الموارد البشريّة وانخفاض محو الأمية المالية الإسلامية:

تعدّ قلة الموارد البشريّة أهمّ مشاكل التمويل الإسلامي في نيجيريا وفي القطاع التكافلي على وجه الخصوص. و تعدّ كبرى المشكلات التي تعترض نموّ التكافل، حيث تعاني سوق التكافل من نقص خطير من الطاقم الأكفاء ذوي المهارات العلميّة والتجارب الفنيّة في القطاع التكافليSolomon,2014)). كونه قطاعًأ جديدًا من حيث النظرية والتطبيق، فإنّ أكثر العاملين في القطاع التكافلي النيجيري نفس الأيدي العاملة  التي تحوّلت من التأمين التقليدي من غير سوابق مهنية وعلميّة في إدارة التأمين التكافلي فولّدت هذه المشكلة مشكلة ضعف الموثوقية الجمهوريّة لشرعيّة أداءات المؤسسات التكافلية القائمة، من أجل أنّ أغلبية الكوادر المهنية فيها لا يملكون الرصيد العلمي المتعلق بالأصول والمعايير الشرعيّة الكافية لإدارة الأسواق الإسلامية. ومع صرامة شروط اللجنة الوطنية للتأمين في المدقق الشرعيّ لأنشطة مؤسسات التكافل، من كونه عالمًا أصوليًّا متخصصَّا في الشريعة و فقه البيوع والمعاملات الإسلاميةNAICOM,2013))، فلم تستطع أكثر المؤسسات التكافلية أن توفّر بصدق هذه الشروط في أقسامها الشرعية، بله أقسامها المهنيّة التي تباشر الأنشطة التكافلية وتحتك مع العملاء المشتركين.

وبما أنّ القطاع التكافلي النيجيري في مرحلة طفولته حيث لم تتجاوز تجربته النوافذية عشرين سنة، ولم تتجاوز تجربته التكاملية ست سنوات، فمن المتوقّع أن يتغلّب في المستقبل الأقرب بقفزاته النوعيّة المؤثرة على جلّ هذه التحديات التي  تشكّل حجر عثرة أمام نموّه لتناطح بجدارة سحاب الشركات التأمينية التقليدية التي –وإن أتت عليها تجربة قرن- ما زالت تزحف وتسير سير السلاحف إذا قورن بالقطاع المالي النيجيري العام ،أو قورن بالقطاع التأميني العالمي.

خاتمة

يظهر بما سبق أنّ التأمين أداة من أدوات التخوّط ضدّ المخاطر والكوارث الطبيعيّة، وأنّ التأمين التقليدي نشط في القطاع المالي النيجيري من القرن الماضي مرّ من خلاله بمراحل أحدثها تدشين التأمين التكافلي الذي لا يختلف نظامه من حيث المقصد والغاية والإجراءات عن التأمين التقليدي التجاري إلاّ في خيارات العقود المستعملة وإجراءاتها ومنتجاتها التسويقيّة. وبما أنّ التأمين التكافلي في مرحلة الصبا،فليس من المستبعد أن تعترضه معوّقات وإن أحرزت مكاسبًا وأرباحًأ.

ولعلّ من محدّدات استدامة نظام التأمين التكافلي في سوق التأمين النيجيري صنع قرارات استيراتيجية للتحوّط ضدّ التحدّيات المتكرّرة في سوق التكافل، وامتلاك برامج تسويقية مستدامة للتغلّب على مشكلة  الوعي المنخفص، والاختراق المنخفض، وحصة السوق المنخفضة. ولا زالت أشواق الأمل متصاعدة مع أخبار تسجيل شركات التكافل الجدد في نيجيريا، وفي ظلّ هذا الوعي المتزايد بمنتجات التكافل وأنشطته، يتحدّد مسير هذا المنتج الفريد وآليات استدامته في القطاع المالي النيجيري.

ــــــــــــــ

مصادر

الزرقا، مصطفى أحمد (1984). “نظام التأمين حقيقته والرأي الشرعي فيه”.ط1. مؤسسة الرسالة. بيروت.

القره داغي، علي محي الدين (2007). “حكم التعامل أو العمل في شركات التأمين خارج ديار الإسلام”. بدون مطبعة.

هوادف، عائشة (2022). “التأمين كآلية لإدارة مخاطر الكوارث الطبيعية في الجزائر بين تحديات الواقع واستراتيجيات التفعيل”. مجلة الاقتصاد والتنمية البشرية. 13(2). 85-99.

Alaro, A.A & Alao, I.I. (2019). “Challenges of the Emerging Markets of Islamic Finance in Africa: Nigeria as a Case study”. International Review of Entrepreneurial Finance.2 (1).

Alaro, A.A. (2021). “Islamic Financial Services: The Interplay of Religion, Law, and Corporate Social Responsibility, Nigeria. UniIlorin press, Ilorin.

Alaro, A.A. (2022). “Islamic Finance Experiment in Nigeria: Gains, Challenges and Prospects”.

Get Insurance (n.d). “Brief History of Insurance in Nigeria”. Retrieved from https://rb.gy/3n388

Jumah, H. A.  & Yakubu, A. (2019). “Islamic/ Takāful Insurance: the Nigerian Takāful Prospects and Challenges”. The 14th International Islamic Development Management Conference (IDMAC), University Sains Malaysia, 97-108

Premium Times (2022). “Noor Takāful distributes N109million surplus to policyholders”. Retrieved from https://rb.gy/6k6hp

PWC (2015). “Africa Insurance Trends: Strategic and Emerging Trends in Insurance Markets in Nigeria”. PricewaterhouseCoopers (PWC). Retrieved from https://rb.gy/6abir

Solomon, F. O. (2014). “Takāful (Islamic Insurance) Practices: Challenges and Prospects in Nigeria”. Journal of insurance Law and practice. 4(2).

Uche, C. U. (1999). “Government ownership of insurance companies in Nigeria: A critique”. The Geneva Papers on Risk and Insurance. Issues and Practice, 24(2), 216-227.

Yusuf, T.O. (2012). “Prospects of Takāful’s (Islamic insurance) Contributions to the Nigerian Economy”. Journal of Finance and Investment Analysis, 1 (3).

ظهرت المقالة التأمين التكافلي في نيجيريا: المكاسب والتحديات أولاً على الأفارقة للدراسات والاستشارات.

]]>
https://alafarika.org/ar/5613/takaful-insurance-in-nigeria/feed/ 0 5613
علاقات تركيا مع أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى: التاريخ والمجالات والتحدي الدولي https://alafarika.org/ar/5304/turkeys-relations-with-sub-saharan-africa-history-domains-and-the-international-challenge/ https://alafarika.org/ar/5304/turkeys-relations-with-sub-saharan-africa-history-domains-and-the-international-challenge/#respond Mon, 10 Oct 2022 13:52:22 +0000 https://alafarika.org/ar/?p=5304

لا شك أن القارة الإفريقية هي قارة المستقبل لغناها بمواردها الاقتصادية وكونها قارة بكر فيما يتعلق بمصادر الطاقة والمعادن رغم استنزاف الاستعمار لها. وتشهد إفريقيا منافسة دولية حادة في القرن الحالي بين  مختلف القوى الدولية, مثل روسيا والصين واليابان والولايات المتحدة الأمريكية وإيران. على أن تركيا دخلت ساحة التنافس للأهمية الاقتصادية المتزايدة للمنطقة بالنسبة لتركيا […]

ظهرت المقالة علاقات تركيا مع أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى: التاريخ والمجالات والتحدي الدولي أولاً على الأفارقة للدراسات والاستشارات.

]]>

لا شك أن القارة الإفريقية هي قارة المستقبل لغناها بمواردها الاقتصادية وكونها قارة بكر فيما يتعلق بمصادر الطاقة والمعادن رغم استنزاف الاستعمار لها. وتشهد إفريقيا منافسة دولية حادة في القرن الحالي بين  مختلف القوى الدولية, مثل روسيا والصين واليابان والولايات المتحدة الأمريكية وإيران.

على أن تركيا دخلت ساحة التنافس للأهمية الاقتصادية المتزايدة للمنطقة بالنسبة لتركيا التي تحاول التنويع بعيدًا عن الشرق الأوسط وكسب الدعم الإفريقي على المستوى الدولي، وللرغبة التركية في الاستفادة من كبر عدد السكان المسلمين في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى. وكانت التحديات التي تواجها القارة الإفريقية بمثابة زخم كبير ودفعة قوية للسياسة الخارجية التركية كي تمارس قوتها الناعمة.

خلفية تاريخية موجزة

تعد تركيا وريثة الإمبراطورية العثمانية, مما أن لها إرث حضاري وتاريخي في أفريقيا عموما وأفريقيا جنوب الصحراء الكبرى. فكانت دول منها تحت حكم الدول العثمانية, مثل السودان، وإرتيريا، وإثيوبيا، وجيبوتي، والصومال، والنيجر، وتشاد. وهناك للدولة العثمانية جهود في تحجيم الاستعمار البرتغالي في القارة الإفريقية والمحافظة على البحر الأحمر كبحيرة إسلامية لفترة طويلة والحفاظ على بلاد الحجاز التي تهم المسلمين على اعتبار عدد المسلمين وأهمية الإسلام لدى الكثيرين من الأفارقة.

وقد ظهرت الدولة العثمانية بشكل فعال في شرق إفريقيا وأقامت علاقات قوية مع سلطنة زنجبار في شرق أفريقيا ([1]) كما أقامت علاقات ودّ وصداقة مع إمبراطورية كانم– بورنو الموجودة في المناطق التي أصبحت اليوم جزءًا من النيجر والكاميرون وجمهورية أفريقيا الوسطى وتشاد ونيجيريا. بل توطدت العلاقات بين كانم– بورنو حيث وقّعت الامبراطورية اتفاقية دفاع مع الدولة العثمانية في عهد السلطان مراد الثالث (1574-1595)، وبحسب الاتفاقية أرسل السلطان لـ كانم بورنو تجهيزات وعربات عسكرية([2]).

وبدءًا من عام 1861 أصبح لدى العثمانيين ممثلون دبلوماسيون في إفريقيا الجنوبية. وشكّل تعيين “بي دي روبيكس” (PE de Roubaix) دبلوماسيًّا فخريًّا بكيب تاون بداية لسلسلة تعيينات استمرت حتى 14 فبراير 1916 عند وفاة أول دبلوماسي تركي واسمه “محمد رمزي بك” (كان قد عُيّن بتاريخ 21 أبريل 1914 في جنوب إفريقيا)([3]). وقامت الدولة العثمانية بإرسال الدعاة إلى رأس الرجاء الصالح التي تقع الآن في جنوب أفريقيا، فكان  “أبو بكر أفندي” شخصية تركية ذاع صيتها في جنوب أفريقيا، حيث تكوّنت صلات وارتباطات قوية بين مسلمي رأس الرجاء الصالح والدولة العثمانية بفضل جهوده وسعيه. وخير دليل على ذلك مشاركة مسلمي رأس الرجاء الصالح في حملات الدعم لإنشاء خط الحجاز الحديدي عن طريق جمع الأموال والمساعدات؛ إذ جُمِع بين عامي 1900 و1907 ما لا يقل عن 366.551 باوندًا من التبرعات([4]).

وفي نيجيريا الواقعة بغرب إفريقيا أسس “محمد شيتا بك” رجل أعمال ومحسن وزعيم المجتمع الإسلامي في لاغوس مسجدا معروفا باسمه (مسجد شيتا-بك) في عام 1894، وبعدها منحت الدولة العثمانية “محمد شيتا بك” صلاحيات ووسام الدولة العثمانية ولقب “بك” الذي يُعدّ من الألقاب المدنية المهمّة لدى الدولة العثمانية، كما أرسلت ممثلًا خاصًّا إلى نيجيريا الجنوبية. ولا يزال أفراد من عائلة “محمد شيتا بك” يؤدّون دورًا كبيرًا في الإدارة العامة في نيجيريا([5]).

على أنه بعد قيام الجمهورية التركية عام 1923 تدنّت العلاقات التركية الإفريقية إلى أدنى مستوياتها نتيجة العوامل الداخلية وطبيعة الدولة الجديدة ومحاولة ضمان استقلالها. وفي أواخر الخمسينيات وبداية الستينيات من القرن الماضي ومع بدء فترة انسحاب الكولونياليين من المستعمرات اعترفت تركيا بجميع الدول التي حصلت على استقلالها، وسعت إلى إنشاء علاقات دبلوماسية معها، كما فتحت سفارات دائمة في تلك البلدان. وعلى سبيل المثال: تّعد القنصلية العامة التركية التي فُتِحت في لاغوس عام 1956 أول ممثل رسمي لتركيا في تلك المنطقة. واعترفت تركيا بغانا كدولة مستقلة عندما حصلت البلاد عام 1957 على استقلالها.

جدير بالذكر أنه في أواخر القرن الماضي حاولت تركيا الوصول إلى قارة إفريقيا بأكملها من خلال وثيقة “سياسة الانفتاح على إفريقيا” الصادرة في عام 1998([6]), وتبع ذلك خطة عمل تركية لترك النهج القديم ولتنشيط المشاركة على جميع المستويات في جميع أنحاء القارة. ولكنه في عام 1999 تسببت العوامل الداخلية والأزمة المالية في تأجيل معظم سياساتها المتعلقة بإفريقيا. وبعد صعود حزب العدالة والتنمية الحاكم إلى السلطة في تركيا عام 2002 وجدت السياسة التركية تجاه إفريقيا انتعاشا جديدا وجهودا حثيثة من خلال الجمع بين وسائل مختلفة واستراتيجيات تدعمها شركات ومؤسسات ومنظمات المجتمع المدني التركية.

قمة الشراكة التركية الأفريقية

أعلنت تركيا أن العام 2005 هو “عام إفريقيا”. وفي مارس من العام نفسه زار “رجب طيب أردوغان”، عندما كان رئيس وزراء, إثيوبيا وجنوب إفريقيا، ليصبح أول رئيس وزراء تركي يزور دول تحت خط الاستواء، وفي 12 أبريل 2005 حظيت تركيا برتبة “مراقب” في الاتحاد الإفريقي.

وقد منحت قمة الاتحاد الإفريقي التي عُقدت في يناير 2008 في أديس أبابا تركيا وصف “حليف استراتيجي” ([7]) وعقدت تركيا في الفترة من 18 إلى 21 مارس 2008 في إسطنبول قمة تركية إفريقية هي الأولى من نوعها تحت عنوان “التضامن والشراكة لمستقبل مشترك”, حضرها ممثلون من 50 دولة إفريقية([8])، مع عقد لقاءات ثنائية مع رؤساء ووفود 42 دولة في إطار القمة. وأعلن “علي باباجان” وزير الخارجية التركي آنذاك أن إفريقيا ستتبوّأ مكانة خاصة في السياسة الخارجية التركية([9]).

وتعدّ القمة التركية الإفريقية الثانية, التي عقدت في مالابو عاصمة غينيا الاستوائية بين 19–20 من نوفمبر عام 2014, مؤشرًا على مكانة إفريقيا في سياسة تركيا الخارجية، حيث وافق الطرفان في هذا الاجتماع على استمرار خطط العمل التنفيذية حتى نهاية عام 2019 ورفع مستوى العلاقات الإستراتيجية ([10]).

وفي ديسمبر من العام 2016 انعقدت قمة الشراكة التركية الأفريقية الثالثة في اسطنبول تحت عنوان “شراكة معززة من أجل التنمية المشتركة والازدهار”. ومثّلت القمة مرحلة جديدة في علاقات تركيا مع الاتحاد الأفريقي والدول الأفريقية حيث أكدت تركيا فيها أن اهتمامها بأفريقيا ليس لمصلحة مؤقتة، وإنما هو التزام مستمر.

وقد حضر القمة الثالثة حوالي 16 رئيس دولة إفريقية، بما في ذلك “فيليكس تشيسكيدي” رئيس جمهورية الكونغو الديمقراطية والرئيس السابق للاتحاد الأفريقي، و “ماكي سال” الرئيس النغالي، و الرئيس “نانا أكوفو-أدو” من غانا، وممثلي الجماعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (إيكواس)، والرئيس الرواندي “بول كاغامي”، والرئيس الزيمبابوي “إيمرسون منانغاغوا”، و الرئيس النيجيري “محمد بخاري”. كما رافق هؤلاء الزعماء الأفارقة 102 وزيرا من بينهم 26 وزيرا للخارجية من 39 دولة.

جدير بالذكر أن لتركيا شركة استراتيجية مع الهيئة الحكومية للتنمية (IGAD) منذ عام 2008، كما تتعاون تركيا مع الجماعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (ECOWAS)، بالإضافة إلى الشراكة التركية مع جماعة شرق إفريقيا (EAC)([11]).

مجالات علاقات تركيا مع أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى

عزّزت تركيا مشاركتها مع إفريقيا منذ عام 2005 في مجال الدبلوماسية والتجارة والاستثمارة والمساعدات والتعليم والمؤسسات الدينية والثقافية والأمن وإدارة الأزمات. وبالرغم من أن معظم المشاركة التركية في إفريقيا لا تزال تتركز في شمال إفريقيا؛ إلا أن دول منطقة جنوب صحراء القارة أصبحت محل الاهتمام التركي مع إيتاء أهمية كبرى للاعبين مهمين مثل جنوب إفريقيا ونيجيريا.

ويمكن إيجاز مجالات العلاقات التركية تحاه أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى في العناصر الرئيسية التالية:

أولا- العمل الدبلوماسي

تزيد تركيا من وجودها الدبلوماسي في إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى بشكل متسارع, ويمكن ملاحظة الأهمية التي توليها تركيا لأفريقيا في تصريح للرئيس “رجب طيب أردوغان” خلال زيارته إلى موريتانيا في عام 2018 حيث قال: “نريد أن نسير مع إفريقيا، بينما يتم بناء النظام العالمي الجديد”([12]). وخلال زيارته للعاصمة السنغالية داكار في فبراير من عام 2022 تعهد الرئيس “أردوغان” بتعزيز العلاقات مع الدول الأفريقية قائلا في مؤتمر صحفي مشترك مع نظيره السنغالي “ماكي سال”: “سنواصل تعزيز علاقاتنا مع الدول الأفريقية على أساس حسن النية والتضامن”([13]).

وقد شهدت السنوات الأخيرة افتتاح عدد من السفارات التركية في دول إفريقية مختلفة تشمل غانا والكاميرون وساحل العاج وأنغولا ومالي ومدغشقر وأوغندا والنيجر وتشاد وتنزانيا وموزمبيق وغينيا وبوركينافاسو وموريتانيا وزيمبابوي. وكانت النتيجة أن ارتفع عدد السفارات التركية في إفريقيا من 12 فقط في عام 2002 إلى 44 عام 2022. وزاد عدد السفارات الأفريقية في أنقرة إلى 37 سفارة إفريقية. إضافة إلى الزيارات المتبادلة على المستوى الرفيع التي تزداد من عام إلى آخر. وعلى مدى العشرين سنة الماضية أدى الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” 53 زيارة إلى 32 دولة أفريقية([14]).

ثانيا- التجارة والاستثمارات

تهدف تركيا من تعزيز وجودها بإفريقيا جنوب الصحراء الكبرى فتح أسواق جديدة لمنتجاتها وتكنولوجياتها الأمنية والعسكرية. وقد نما حجم التجارة بين تركيا وإفريقيا ستة أضعاف على مدى العشرين سنة الماضية، ومن 5.4 مليار دولار في عام 2003 إلى 25.3 مليار دولار في عام 2020. ولتعزيز التعاون التجاري والاقتصادي الثنائي شُكّلت مجالس عمل ووُقِّع عدد من الاتفاقيات. ويزداد عدد الرحلات الجوية بين الطرفين, حيث نظّمت الخطوط الجوية التركية في عام 2021 رحلات مباشرة إلى 46  مدينة مختلفة في 28 دولة إفريقية.

وتعتبر شركات البناء التركية من المشاركين والمستفيدين من العلاقات التركية الإفريقية؛ إذ أصبحت هذه الشركات منتشرة في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى من خلال مبادرات تركية في دول مثل جمهورية الكونغو الديمقراطية وغينيا الاستوائية وغينيا بيساو وليبيا والنيجر والسنغال وسيراليون وجنوب السودان وتنزانيا وتوغو. وفي التوزيع الجغرافي لحجم الأعمال اليوم تمثل منطقة أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى 17 في المئة من مشاريع المقاولين الأتراك([15]).

ثالثا المجال الإنساني

ترسّخ تركيا جذورها في إفريقيا وتعزّز قوتها الناعمة عبر تقديم المساعدات الإنسانية والمالية والأنشطة التي تنفذها المؤسسات التركية مثل الهلال الأحمر ووكالة التعاون والتنسيق التركية (Türk İşbirliği ve Koordinasyon İdaresi Başkanlığı) ومؤسسة “معارف” التركية (Türkiye Maarif Vakfı). بالإضافة إلى المشاركة في مهام حفظ السلام والاستقرار التابعة للأمم المتحدة في إفريقيا.

وفيما يتعلق بوكالة التعاون والتنسيق التركية (تيكا)؛ فقد برزت جهودها في دول مختلفة ووسّعت من نطاق عملياتها منذ عام 2003، ولها مكاتب داخل إفريقيا لدعم مشروعات التنمية في مناطق مختلفة مع توقعات بزيادة عدد مكاتب الوكالة في القارة تزامنا مع زيادة عدد السفارات التركية([16]). وفي حين تقدم الوكالة أيضا مساعدات وهبات لأكثر الدول حاجة، وتكفلت بتعليم طلاب أفارقة على مستوى الجامعات والمدارس.

رابعا الوجود العسكري وتجارة السلاح

وقعت تركيا اتفاقيات مع أكثر من 25 دولة إفريقية في قطاعي الدفاع والأمن، منها رواندا والسنغال والكونغو ومالي ونيجيريا وإثيوبيا والسودان. وتضمنت هذه الاتفاقيات بجانب التصدير العسكري جوانب متعلقة بالتعاون في التصنيع العسكري، كما هو الحال مع جنوب إفريقيا، وتدريب قوات الجيش حيث تلقى قرابة 8000 جندي غامبي تدريبات تركية, وتلقت الشرطة في أكثر من 10 دول إفريقية تدريبات أمنية في تركيا في إطار “مشروع التعاون الدولي لتدريب الشرطة”.

وافتتحت أنقرة قاعدة عسكرية في مقديشو في سبتمبر/أيلول 2017، حيث يعد الصومال الذي يتمتع بميزات جيوستراتيجية مهمة، أحد أهم ساحات النشاط التركي في إفريقيا. وفي هذا الإطار كان الهدف المعلن للقاعدة تدريب قوات الجيش الصومالي حيث يتوقع أن يتم تدريب 10000 جندي سنوياً. بالإضافة لى قاعدة في سواكن السودانية وقاعدة الوطية العسكرية في ليبيا([17]).

وفي عام 2021 حققت تركيا طفرة كبيرة في مبيعات السلاح إلى إفريقيا، وهو ما شكل ذروة لاستراتيجية تركية متعددة الأبعاد لدعم حضورها في سوق الصناعات الدفاعية الإفريقية. واحتلت تركيا المرتبة 13 بين كبار مصدري السلاح في العام نفسه. ووفقاً لجمعية المصدرين الأتراك فقد حققت إفريقيا عام 2021 أعلى زيادة في الصادرات العسكرية وفق المناطق، حيث زادت بنسبة 700 في المئة من 41 مليون دولار إلى 328 مليون دولار في الأحد عشر شهراً الأولى من العام المذكور. ومن أهم المشترين في إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى وفقاً لمبيعات عام 2021: بوركينا فاسو التي زادت وارداتها من 92 ألف دولار إلى 8 ملايين دولار، وكذلك تشاد من 249 ألف دولار إلى 14.6 مليون دولار، وارتفعت الصادرات إلى إثيوبيا من 234 ألف دولار إلى 94.6 مليون دولار.

الموقف الدولي من الوجود التركي في إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى:

يتمثل التحدي الأكبر لعلاقات تركيا مع إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى في نقص المعلومات عن الطرف الآخر من كلا الجانبين وغياب الروايات الصحيحة وانتشار الدعايات المغرضة لتحقيق مصلحة خارجية. إلى جانب تركيز الطرف التركي في المجال الإنساني مما يسهم في انتشار فكرة أن إفريقيا بحاجة إلى المساعدات وأنها قارة الجوع والفقر والوباء والأزمات.

ويواجه الوجود التركي في إقريقيا أيضا منافسة قوية مع المعسكر الغربي المتمثل في الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وبريطانيا, والمعسكر الشرقي المتمثل في روسيا والصين, وأطراف أخرى مثل إيران وإسرائيل والإمارات وقطر والسعودية. ويعني هذا أن قدرة تركيا على تحقيق أكبر قدر من الاستفادة والإفادة ستبقى محددات علاقاتها وتغلبها على منافسيها, وذلك لما لتركيا من إرث تاريخي وقبول ملحوظ لشراكتها ووجودها في معظم دول إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى.

ومن خلال ما سبق يمكن القول أيضا بأن تطوير علاقات تركيا مع المنطقة في المستقبل القريب سيكون مرهونا بفهم تركيا للخاصيات الإفريقية ومرونة استراتيجياتها مع دول القارة دون تجاهل الديناميات العالمية, وذلك لأن دول إفريقيا وأقاليمها ليست متجانسة, حيث لكل منها خصائص فريدة نتيجة للتركيبة العرقية والدينية المتنوعة والتاريخ الاستعماري الذي يؤثر في السياسة الأفريقية اليوم.

ــــــــــــــــ

([1])  انظر صالح محروس محمد ، الدين والدولة العثمانية مركز طروس للنشر والتوزيع، ط 2 ، الكويت 2022، ص 21 وما بعدها

([2])  Mehmet Ozkan,Turkey Discovers Africa, Implications and Prospects [SETA, 2008]

([3])  Tom Wheeler, Turkey and South Africa: Development of Relations 1860–2005 South African Institute of International Affairs.p.7

([4]) Ibid, p.9

([5]) Serhat Orakci,The emerging links between the Ottoman Empire and South Africa, International Journal of Turkish Studies, 14(1/2), 2008p. 47- 60

Mehmet Ozkan, and Birol Akgün. “Turkey’s opening to Africa. The Journal of Modern African Studies 48, no. 4   ( (6

2010: 525-546.

([7]) مؤسسة «ساتا» التركية للأبحاث السياسية والاقتصادية والاجتماعية، عدد سبتمبر 2008م، رقم 22.

([8]) Turkey, Africa begin cooperation summit. Mail & Guardian, 2008, from https://bit.ly/3Ta4hzO

(9)Nichole Sobecki. Turkey seeks economic salvation in Africa. 2009: from https://bit.ly/3fUUI9w

([10])Meliha Benli Altunisik, “Worldviews and Turkish Foreign Policy in the Middle East”, New Perspectives on Turkey, 40, 2009,p. 171- 194،

  ([11]) Ibid. 

([12])Necdet Burak Ozyurt, Turkey significantly increases its presence in Africa over recent 20 years. Azer News , 2022: from https://bit.ly/3MhvxtY

([13])Erdogan seeks to boost ties with Africa in four-day visit. Aljazeera, 2022: from https://bit.ly/3EoWBWp

([14] ) John Calabrese, Building in Africa: Turkey’s “Third Way” in China’s Shadow. The Middle East Institute (MEI), 2022: from https://bit.ly/3ehSfpj

([15] ) John Calabrese, Building in Africa: Turkey’s “Third Way” in China’s Shadow. The Middle East Institute (MEI), 2022: from https://bit.ly/3ehSfpj

([16]) Mehmet Ozkan,op.citp.9

[17]– عبدالقادر محمد علي، الحضور العسكري التركي في إفريقيا.. الدوافع والتحديات، مركز الجزيرة للدراسات، 2022: https://bit.ly/3SSgSYM

 

ظهرت المقالة علاقات تركيا مع أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى: التاريخ والمجالات والتحدي الدولي أولاً على الأفارقة للدراسات والاستشارات.

]]>
https://alafarika.org/ar/5304/turkeys-relations-with-sub-saharan-africa-history-domains-and-the-international-challenge/feed/ 0 5304
التحولات السياسية في السودان وآفاق الحلول للأزمة الجارية https://alafarika.org/ar/5276/political-transformations-in-sudan-and-prospects-for-solutions-to-the-current-crisis/ https://alafarika.org/ar/5276/political-transformations-in-sudan-and-prospects-for-solutions-to-the-current-crisis/#respond Wed, 21 Sep 2022 12:08:00 +0000 https://alafarika.org/ar/?p=5276

يمر السودان بأخطر مرحلة منذ استقلاله في عام 1956م حيث تعيش البلاد أزمة معقدة غير مسبوقة؛ إذ تشهد عدة أزمات متداخلة ومركبة سياسية واقتصادية، وحدود رخوة وهشاشة أمنية خطيرة في ظل نزاعات قبلية وأعمال عنف في مناطق مختلفة وقضايا اجتماعية أخرى نتيجة الفشل في الحوكمة والتحولات السياسية الإيجابية وإخفاقات النخبة السياسية والعسكرية في إدارة التنوع […]

ظهرت المقالة التحولات السياسية في السودان وآفاق الحلول للأزمة الجارية أولاً على الأفارقة للدراسات والاستشارات.

]]>

يمر السودان بأخطر مرحلة منذ استقلاله في عام 1956م حيث تعيش البلاد أزمة معقدة غير مسبوقة؛ إذ تشهد عدة أزمات متداخلة ومركبة سياسية واقتصادية، وحدود رخوة وهشاشة أمنية خطيرة في ظل نزاعات قبلية وأعمال عنف في مناطق مختلفة وقضايا اجتماعية أخرى نتيجة الفشل في الحوكمة والتحولات السياسية الإيجابية وإخفاقات النخبة السياسية والعسكرية في إدارة التنوع الهوياتي والسياسي. ويظهر هذا الفشل أيضا في اختلالات توزيع السلطة والثروة، وفي ضعف التنمية ومعالجة المظالم التاريخية والجغرافية والثقافية.

وعلى ما سبق يستعرض المقال أبعاد التحولات السياسية في السودان وآفاق الحلول الممكنة للأزمة الحالية من خلال استعراض المأزق الدستوري والسياسي الراهن وجذور الصراعات وأطرافها الفاعلة.

التحولات السياسية في السودان

لعب الاستعمار في السودان، ومن بعده الحكومات الوطنية بعد الاستقلال، أدواراً كبيرة في إطلاق وتطبيق سياسات أسهمت في تعميق الخلاف بين السودانيين في أجزاؤ مختلفة من البلاد. فبرز صراع المركز والهامش, والأفريقانية والعروبة، والشمال والجنوب. كما برز صراع المدنيين والعسكريين، واليمين واليسار. وكانت الأنظمة المدنية والعسكرية التي حكمت السودان بعد الاستقلال فشلت في ترسيخ الحكم الديمقراطي وتحقيق الاستقرار السياسي والأمني والنهضة الاقتصادية.

وقد برزت أطماع العسكر في السلطة منذ فجر الاستقلال وأسهم التنافس السياسي بين الأحزاب السياسية والبيوتات الطائفية والصراع الأيديولوجي أدواراً بارزاً في إفشال الفترات الديمقراطية، وتهيئة البيئة المناسبة للانقلابات العسكرية.

بل بالرغم من المحاولات العديدة للتحول الديمقراطي في السودان، إلا أنها جميعا أُجْهِضت بتآمر مدني وعسكري على السواء, كما هو الحال في أول انقلاب عسكري بالسودان في نوفمبر 1958م بقيادة “إبراهيم عبود”، مروراً بانقلاب مايو 1969 بقيادة العقيد “جعفر النميري” الذي كان بتدبير ودعممن  الأحزاب اليسارية، وانقلاب 1989 الذي قاده الرئيس السوداني السابق “عمر البشير” والذي كان بتخطيط وتنفيذ حزب الجبهة الإسلامية القومية([1]). وفي عام 2019 أطيح بنظام “عمر البشير” الذي حكم البلاد لمدة 30 عامًا بعد احتجاجات واسعة, لتتبعها محاولة انقلاب فاشلة في سبتمبر 2021, وانقلاب آخر ناجح في 25 أكتوبر عام 2021 بقيادة رئيس المجلس السيادي السوداني الفريق أول الركن “عبد الفتاح البرهان”. وهذا الانقلاب الأخير أدى إلى إدانة دولية ودعوات لاستعادة الحكم المدني كما أنها فاقمت الأزمة السياسية الحالية في السودان.

ومن الملاحظ أن الانقلابات العسكرية التي وقعت ضد الحكومات المدنية كانت سلمية وناجحة، في حين أن كل المحاولات الانقلابية ضد الحكومات العسكرية كانت عنيفة وفاشلة. ويرجع سبب ذلك إلى ضعف هيبة الحكومات المدنية وانعزالها من جمهور المدن النشط سياسياً. كما كان من السهل على الانقلابيين العسكريين كسب تأييد القوات المسلحة لصالح انقلابهم ضد حكومة مدنية، في حين أن الحكومات العسكرية تهتم كثيراً بتأمين نفسها وتتخذ الإجراءات الكفيلة بذلك([2]). ومع ذلك سقطت الحكومات العسكرية التي مرت بالسودان بفعل الثورات الشعبية رغم قوة هذه الحكومات العسكرية وإجراءاتها الأمنية القمعية، ورغم ضخامة ميزانياتها وتعدد أجهزتها المنشأة خصيصاً لحماية النظام العسكري وقادته.

الأزمة السياسية الحالية

لقد لعب نظام البشير دورا كبيرا في تعقيد أزمة الحكم في السودان حيث اتُّهِم طول فترات حكمه بشن حروب دينية وعرقية في جبهات مختلفة، كما فشل في إدارة التنوع وتوزيع الثروة، وتحقيق المشاركة السياسية الفاعلة، وإيجاد نظام حكم فيدرالي حقيقي يلبي تطلعات الهويات والإثنيات المختلفة ويكون ترياقاً للمطالب الإنفصالية المتنامية. بالإضافة إلى الصراعات التي خلفت الملايين من القتلى والجرحى وملايين من النازحين واللاجئين، وانتهاكات لحقوق الانسان، وإنشاء مليشيات موازية للمؤسسات العسكرية والأمنية، وغيرها من التحديات التي عرقلت استكمال المسار الديمقراطي والحكم المدني خلال الفترة الانتقالية بعد نظام البشير.

وقد تبلورت مقدمات الأزمة الجارية على ثلاث مراحل: الأولى ترتبط بالوثيقة الدستورية للإطار القانوني الحاكم للفترة الانتقالية. والمرحلة الثانية تتعلق بإدارة التفاعلات بين الأطراف السياسية نفسها خاصة بعد مشاركة أطراف العملية السلمية (حركات الكفاح المسلح)، والمرحلة الثالثة تتعلق بأزمتي شرق السودان وتداعيات المحاولة الانقلابية الفاشلة التي جرت في 21 سبتمبر 2021م([3]).

ومن الآراء السائدة في السودان أن المكون العسكري كان يتربص بشريكها المدني المتمثل في “قوى الحرية والتغيير” وأنه يحاول وضع عقبات أمام الحكومة التنفيذية ومؤسساتها ومعاكسة تطبيق سياساتها الإصلاحية منذ التوقيع على الوثيقة الدستورية في 17 من أغسطس 2019م والتي أفضت إلى إقرار الشراكة المدنية العسكرية، بعد سقوط الرئيس السابق عمر البشير([4]).

وقد جاءت الشراكة الهشة بين المدنيين والعسكريين بعد سلسلة مفاوضات وأحداث دامية أخطرها فض اعتصام القيادة العامة للجيش مما ترك آثاراً سالبة في العلاقات بين المدنيين والعسكريين كشركاء في الفترة الانتقالية.

وإلى جانب ما سبق هناك صراع بين مكونات المكون المدني نفسه، وبين بعض مجموعات قوى الكفاح المسلح التي انضمت إلى مؤسسات الفترة الانتقالية. وهناك شكاوى من إقصاء قوى ومكونات أخرى خارج الفئات المذكورة، مما أدى في النهاية إلى تفاقم الصراع واستغلال الجيش انسداد الأفق في المشهد السياسي لتعزيز مصالحه وتحكيم قبضته عبر انقلاب 25 أكتوبر 2021 بقيادة الربرهان الذي أعلن من جانب فضّ الشراكة بين العسكريين والمدنيين وتعطيل بعض بنود الوثيقة الدستورية([5]), الأمر الذي أدخل البلاد في أزمة سياسية ودستورية غير مسبوقة في تاريخ البلاد المعاصر.

المتغيرات التي صاحبت الأزمة

وجد انقلاب أكتوبر 2021 إدانات محلية وإقليمية دولية، وأثار اهتمام أطراف متعددة بغية الوصول للحل. وأدت مبادرات متعددة وجهود دولية إلى اتفاق 21 نوفمبر 2021 الذي قضى بعودة رئيس الوزراء خلال الفترة الانتقالية “عبد الله حمدوك” لمنصبه وإطلاق سراح المعتقلين. ولكن الشارع الثائر رفض دعم الاتفاق مما أدى إلى استقالة “حمدوك” من منصبه في الثاني من يناير 2022.

وشهدت البلاد بعد الانقلاب تحشيد الشارع من قبل المجلس المركزي لقوى الحرية والتغيير ولجان المقاومة السودانية بهدف إسقاط الانقلاب وإبعاد قادته من السياسة والسلطة. كما عمل المكون العسكري على فرض الأمر الواقع مصحوباً بالعنف المفرط والانتهاكات وإعادة تمكين قيادات نظام “عمر البشير” السابق في مؤسسات الدولة وإعادة إنتاج سياساته، وبالإضافة إلى تعطيل الإصلاحات القانونية والإدارية في مؤسسات الدولة؛ وكلها مثلت خصماً على الثورة وتراجعاً من الجنرالات عن تعهداتهم مع الثورة وشعاراتها ومبادئها.

ومن جانب آخر, عملت أطراف العملية السلمية (حركات الكفاح المسلح) على تثبيت مكتسبات سلام السودان الموقع في جوبا عاصمة جنوب السودان, وبرزت بقوة في المعادلة الثلاثية للقوى المؤثرة في المشهد السياسي الراهن.

وكانت المحصلة النهائية أن الشارع لم يتمكن من إسقاط وإبعاد المكون العسكري، ولا تمكّن المكون العسكري من الاستمرار في إكمال انقلابه وتشكيل الحكومة، ولا تمكنت أطراف العملية السلمية (حركات الكفاح المسلح) من تنفيذ اتفاقية جوبا. ونتيجة لكل ذلك زادت الأوضاع تعقيدا وسط تعدد المبادرات الأممية والإقليمية والمحلية، وتداخلت الأجندات السياسية مع تضارب المصالح وتباين المواقف للقوى الفاعلة في المشهد السياسي بالسودان.

وعلى ماسبق واعتمادا على تعدد أطراف الأزمة والفاعلين فيها، والتعقيدات التي نجمت عنها؛ فإن ثمة متغيرات كان لها دور في استمرار الأزمة واستفحالها، منها:

  • أولاً: تشوهات حادة في نموذج الشراكة المدنية العسكرية التي أعاقت تقدم الشراكة منذ إطلاقه، وذلك عبر عدد من المظاهر أبرزها الطبيعة الظرفية لنشأة الشراكة، بجانب تعثر إكمال المؤسسات الدستورية الحارسة والضامنة للشراكة كالمجلس التشريعي والمحكمة الدستورية. ونتيجة لذلك، دخلت الشراكة في شد وجذب وتقارب وتباعد.
  • ثانياً: تصاعد دور أطراف العملية السلمية (حركات الكفاح المسلح) منذ توقيع اتفاق السلام في جوبا في 3 أكتوبر 2020م، والذي أسفر عن دخول أطراف تمثل الهامش السوداني كمناطق دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق، في بنية مؤسسات الحكم الانتقالي في مطلع عام 2021. هذا بجانب التعقيدات المرتبطة بطبيعة وخصائص حركات الكفاح المسلح التي تجمع بين الخصائص السياسية والعسكرية في آن واحد. وقد أدت هذه المعادلة الجديدة إلى إتاحة هامش مناورة جديد للمكون العسكري والمدني على السواء.
  • ثالثاً: تغير موازين القوى في الشارع الثوري على مستوى المكون المدني، لتعزز من دور القوى غير المؤطرة سياسياً ممثلة في لجان المقاومة السودانية، مقابل تراجع القوى الحزبية على وجه الخصوص([6]).
  • رابعاً: استمرار الخلافات الحادة بين القوى السياسية والمكون العسكري، لا سيما بعد تأجيل عملية الحوار السياسي في البلاد، بين أطراف الأزمة الجارية، وهي العملية التي بدأت في يناير 2022، وأفرزت آلية ثلاثية بعد مشاورات موسعة وورش عمل مع القوى السياسية والمهنية والشبابية بهدف حل الأزمة السياسية في البلاد, ولكن دون نتائج ملموسة حتى الآن بسبب تباعد المواقف في توسعة قاعدة المشاركة والانتقال، ودور المؤسسة العسكرية في السلطة.
  • خامساً: تزامن مع زيادة حدة الخلافات السياسية والاستقطاب السياسي بين أطراف الأزمة تفاقمُ المشكلات الأمنية نتيجة للنزاعات القبلية وأعمال عنف على نطاق واسع، في ظل ضعف هيبة الدولة, وحلحلة المشكلات وفقاً للأعراف التقليدية.
  • سادساً: في ظل انسداد الأفق السياسي والهشاشة الأمنية تعاني البلاد من واقع اقتصادي لا يقل خطورة عن الأزمتين السياسية والأمنية. بل كان لتعثّر العملية السياسية دورٌ بالغ في تفاقم الأوضاع الاقتصادية. وفي ظل الفوضى السياسية الراهنة هناك خللاً هيكلياً اعترى المؤسسات بصفة عامة، أدى إلى اتساع نطاق الفساد وسوء الإدارة والذي تعود جذورهما إلى النظام السابق. كما أن امتناع المانحين عن مساعداتهم للسودان بسبب الانقلاب، وتراجع عجلة الانتاج بسبب الاحتجاجات المستمرة؛ كلها أدت إلى استفحال الأزمة الاقتصادية بصورة غير مسبوقة([7]).
  • سابعاً: زيادة حدة الاستقطاب السياسي بين مكونات القوى الثورية التي رفعت شعار مقاومة الانقلاب، أدت إلى انقسامات كبيرة في صفوفها، حيث خرج منها تحالف جديد باسم “تحالف التغيير الجذري” بقيادة الحزب الشيوعي السوداني وجناح من تجمع المهنيين وجزء من التشكيلات الشبابية التي تعرف بـ “لجان المقاومة”. وهذا التحالف أكثر راديكالية عن غيرها في المشهد السياسي الحالي بالسودان.

آفاق الحلول للأزمة

برزت عدة مبادرات تهدف لحل الأزمة الحالية في السودان، ولكن معظم هذه المبادرات على مستوياتها المحلية والإقليمية والدولية والأممية تواجه رفضاً وشكوكاً من أطراف واسعة من الفاعلين في المشهد السوداني. ومن هذه المبادرات المحلية والوطنية: مبادرة رئيس الوزراء عبدالله حمدوك قبل استقالته، ومبادرة حزب الأمة القومي، ومبادرة أساتذة الجامعات السودانية، ومبادرة مديري الجامعات السودانية، ومبادرة الجبهة الثورية، ومبادرة القائد مالك عقار، ومبادرة نداء أهل السودان للتوافق الوطني، وغيرها من المبادرات الداخلية التي لم تنجح في طي صفحة الأزمة بسبب غياب آليات الضغط تجاه أطراف الأزمة وفقدان الثقة في المبادرات بين الفرقاء.

أما المبادرات الخارجية، فقد تبلورن في دعم المبادرة الأممية، بقيادة الألماني فولكر بيرتس، رئيس بعثمة الأمم المتحدة المتكاملة لدعم الانتقال الديمقراطي في السودان، وهي أكثر المبادرات قوة ونفوذاً ووجدت دعماً دولياً, حيث بدأت البعثة الأممية إطلاق مشاوراتها الأولية مع الشركاء المحليين والدوليين، ضمن عملية سياسية متعددة الأطراف للفاعليين السياسيين السودانيين تتولى الأمم المتحدة تيسيرها بهدف التوصل إلى اتفاق للخروج من الأزمة السياسية الحالية، والتقدم في مسار مستدام نحو الديمقراطية والسلام([8]).

وفي إطار المشاورات التي أجراها رئيس البعثة الأممية، ظهرت “الهيئة الحكومية للتنمية” (إيقاد) على الخط للإسهام في تجسير الحوار بين أطراف العملية السياسية, وظهر كذلك ممثل الاتحاد الأفريقي كمُيسّر ثالث لإجراء الحوار بين الفرقاء. وفي النهاية شكل ثلاثتهم “الآلية الثلاثية”([9]). وفي يوم 27 أبريل الماضي، أعلنت الآلية الثلاثية أربعة محاور لحل الأزمة, تشمل: ترتيبات دستورية، وتحديد معايير اختيار رئيس الحكومة والوزراء، والاتفاق على برنامج عمل يتصدى للاحتياجات العاجلة للمواطنين، وترتيبات تنظيم الانتخابات العامة([10]). لكن الآلية لم تنجح في جمع الفرقاء بسبب مقاطعة بعض القوى الحزبية والمهنية والشبابية للحوار.

جدير بالذكر أن دولة جنوب السودان بذلت مساعيها لحل الأزمة السياسية في السودان، تمثّلت في جولات مبعوثي الرئيس “سلفا كير مَيارديت”, وأبرزهم مستشاره للشؤون الأمنية “توت قلواك” الذي زار الخرطوم عدة مرات والتقى بأطراف الأزمة السياسية.

وعلى الرغم من قتامة المشهد السياسي في السودان وتعقيد الأزمة الراهنة، فإن هنالك عدة خيارات تمثل حلولا ناجعاً ومخرجاً آمناً من هذا المأزق السياسي والدستوري، حتى تتجاوز البلاد التحديات الماثلة والمخاطر المحتملة. وهذا المخرج يتمثل في ابتدار حوار سياسي ومجتمعي جادّ ومسؤول وعقلاني بين قوى الثورة الحية، والمتمثلة في “المجلس المركزي لقوى الحرية والتغيير” ولجان المقاومة، و “قوى الحرية والتغيير – التوافق الوطني”، والمكون العسكري، مع استيعاب واستصحاب قوى سياسية مؤثرة في المشهد السياسي لتوسعة المشاركة السياسية وقاعدة الانتقال؛ كل ذلك بغرض التوصل إلى اتفاق سياسي يترجم في إعلان سياسي ودستوري جديد، والاتفاق على مدة الفترة الانتقالية، وتحديد دور الجيش في الفترة الانتقالية، وترتيبات انتقال السلطة واختيار رئيس الوزراء ووضع البرامج وتحديد السياسات التي تحكم الفترة الانتقالية.

ويضاف إلى ما سبق أنه بعد فشل المبادرات العديدة وتجميد الآلية الثلاثية المكونة من الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي ومنظمة إيقاد لحواراتها مع أطراف الأزمة؛ تبدو الاتصالات الجارية حالياً, التي يقوم بها السفيران السعودي والأمريكي في الخرطوم بين أطراف الأزمة، الأقربَ لطي صفحة المأزق الراهن، خاصة بعد إعلان قائد الجيش رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان في الرابع من يوليو الماضي (2022) انسحاب المكون العسكري من الحوار الوطني، ودعوته للقوى السياسية للاتفاق على تشكيل حكومة كفاءات وطنية مدنية. فكانت هذه الجهود محل تقدير  واهتمام دول الترويكا (الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة والنرويج)، والرباعية الدولية الفاعلة في الفترة الانتقالية في السودان (الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة والمملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة)، وكذلك البعثة الأممية في السودان والاتحاد الأفريقي ومنظمة إيقاد.

وأخيرا, يبدو أن أقصر طريق لتجاوز الإشكالية الراهنة هو دخول جناحي قوى الحرية والتغيير، ومجموعة التوافق الوطني, ومجموعة المجلس المركزي، والمكون العسكري، في حوار مباشر. ثم يتم توسعة الحوار في المرحلة التالية، خاصة بعد وصول السفير الأمريكي الجديد جون غودفري، وتنسيقه مع السفير السعودي، والآلية الثلاثية. كما أن معطيات التطورات الأخيرة تؤشر على ان رئيس الوزراء السابق الدكتور عبد الله حمدوك سيكون له حضور كبير في قيادة مؤسسات الفترة الانتقالية سواء في الجهاز التنفيذي أو السيادي، حيث برز اسم حمدوك في المشهد السياسي من جديد بعد تعثر كل المحاولات في إيجاد من يحل محله ومن ينال قلوب الشارع الثائر في غالبية المجتمع السوداني. وهذا يتناسب مع نتائج معظم استطلاعات الرأي والتقارير والآراء التي تؤكد على أن حمدوك لا يزال يتمتع بأعلى نسبة تأييد محلياً ودولياً.

ـــــــــــــ

[1] –  آدم محمد عبدالله أحمد، آفاق التحول الديمقراطي في السودان ومعوقاته،  متابعات أفريقية، العدد 14، (يونيو 2021م)، مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الاسلامية، الرياض –  المملكة العربية السعودية،   ص 35 – 36.

[2] –  الطيب زين العابدين، التجربة الديمقراطية في السودان النجاحات والإخفاقات، مجلة أفكار جديدة، (2003م)، الخرطوم – السودان.

[3] –  أماني الطويل، الأزمة السودانية بين المقدمات والسيناريوهات، (29 أغسطس 2021م)، مركز الاهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، https://bit.ly/3DHjm7r.

[4] –  أبوبكر فضل محمد، قراءة للمشهد السوداني في ضوء التطورات الأخيرة، مقال منشور  بتاريخ (9 نوفمبر 2021م)، في موقع الأفارقة للدراسات والاستشارات، https://alafarika.org/ar/4942/.

[5] –  عباس محمد صالح، عسكرة السياسة: قراءة في انقلاب 25 أكتوبر/تشرين الأول في السودان، ورقة تحليلية ، (15 نوفمبر 2021م)، مركز الجزيرة للدراسات، https://bit.ly/3S4ezkQ

[6] –  أحمد أمل، كيف كشفت استقالة حمدوك عن مشكلات الانتقال الهيكلية في السودان؟، ، مركز الاهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، (6 يناير 2022م)، https://bit.ly/3Lynbhf.

[7] –  صلاح خليل، أبعاد مختلفة للأزمة في السودان، مركز الاهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، (30 يوليو 2022م)، https://bit.ly/3xFvMsX.

[8] –  مزدلفة عثمان، مع استحكام حلقات الأزمة السياسية.. هل تنجح مبادرة الأمم المتحدة للحل في السودان؟،  الجزيرة نت، (10 يناير 2022م)، https://bit.ly/3LvG5oV.

[9] –  أحمد ابراهيم أبو شوك، تعدد المبادرات لحل الأزمة في السودان: أوجه الخلاف وفرص النجاح، ورقة تحليلية، مركز الجزيرة للدراسات، (17 أغسطس 2022م) https://bit.ly/3LxNjZJ.

[10] –  عقبات أمام نجاح الحوار الوطني لحل الأزمة السودانية، العرب، (12 مايو 2022م)، https://bit.ly/3LvFzqZ

ظهرت المقالة التحولات السياسية في السودان وآفاق الحلول للأزمة الجارية أولاً على الأفارقة للدراسات والاستشارات.

]]>
https://alafarika.org/ar/5276/political-transformations-in-sudan-and-prospects-for-solutions-to-the-current-crisis/feed/ 0 5276
الثقافة الإفريقية بين الأخذ والعطاء https://alafarika.org/ar/4503/%d8%a7%d9%84%d8%ab%d9%82%d8%a7%d9%81%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%a5%d9%81%d8%b1%d9%8a%d9%82%d9%8a%d8%a9-%d8%a8%d9%8a%d9%86-%d8%a7%d9%84%d8%a3%d8%ae%d8%b0-%d9%88%d8%a7%d9%84%d8%b9%d8%b7%d8%a7%d8%a1/ https://alafarika.org/ar/4503/%d8%a7%d9%84%d8%ab%d9%82%d8%a7%d9%81%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%a5%d9%81%d8%b1%d9%8a%d9%82%d9%8a%d8%a9-%d8%a8%d9%8a%d9%86-%d8%a7%d9%84%d8%a3%d8%ae%d8%b0-%d9%88%d8%a7%d9%84%d8%b9%d8%b7%d8%a7%d8%a1/#respond Sun, 31 Jan 2021 03:16:54 +0000 https://theafrikans.com/?p=4503

الورقة متاحة باللغة الانجليزية إنَّ الحديث عن الثَّقافة الإفريقيَّة، مثل غيرها من الثَّقافات الأخرى، يستلزم تحرير القول في مقدِّماتٍ نظريَّة، مثل مفهوم الثَّقافة نفسها ومحدِّداتها. لكنَّنا نستأنس هنا بما ذهب إليه الباحث بيدنْغْتون عن الثَّقافة بوصفها: “مجمل المكتسبات الماديَّة والمعرفيَّة لمجتمعٍ مَّا، تشبع حاجاته البيولوجيَّة، وتمكِّنُه من الاندماج ببيئته”.[1] وهو تعريفٌ على الرُّغم ممَّا نستحسنه […]

ظهرت المقالة الثقافة الإفريقية بين الأخذ والعطاء أولاً على الأفارقة للدراسات والاستشارات.

]]>

الورقة متاحة باللغة الانجليزية

إنَّ الحديث عن الثَّقافة الإفريقيَّة، مثل غيرها من الثَّقافات الأخرى، يستلزم تحرير القول في مقدِّماتٍ نظريَّة، مثل مفهوم الثَّقافة نفسها ومحدِّداتها. لكنَّنا نستأنس هنا بما ذهب إليه الباحث بيدنْغْتون عن الثَّقافة بوصفها: “مجمل المكتسبات الماديَّة والمعرفيَّة لمجتمعٍ مَّا، تشبع حاجاته البيولوجيَّة، وتمكِّنُه من الاندماج ببيئته”.[1] وهو تعريفٌ على الرُّغم ممَّا نستحسنه فيه من تركيزٍ، يشفي ولا يُجدي! ذلك أنَّ ما يتصوَّره مجتمعٌ مَّا مكتسباتٍ ومحدِّداتٍ خاصَّة بها، مميِّزة لثقافتها، قد تكون لها أصولٌ في ثقافاتٍ أجنبيَّة، أو أنَّها موجودةٌ بصورة أو بأخرى في ثقافاتٍ أخرى.

بعد ذلك، نخلُص إلى إشكالٍ آخر يتعلَّق بالثَّقافة الإفريقيَّة: أهي ثقافة موحَّدة أم ثقافات؟ وهنا يحتدم الخلاف بين الباحثين؛ حيث يجزم بعضُهُم أنَّ إفريقيا هي ذات ثقافة موحَّدةٍ، ويرى آخرون خلاف ذلك.

على سبيل المثال، نلحظ الرَّأي الأول في استخدام (Culture) بالإفراد، في السِّلسلة التي وضعتها دار نشر (Greenwood) عن الدُّول الإفريقيَّة؛ بعنوان: “Culture and Customs of Africa”؛ حيث أفردت لكلِّ دولةٍ إفريقيَّة حديثة كتابًا بالعنوان المذكور مع ذكر اسم الدَّولة،[2] ومثله في عنوان الموسوعة الثَّقافيَّة الشَّهيرة التي حرَّرها باجْ([3]). والقول بالوحدة الثَّقافيَّة الإفريقيَّة أكثر بروزًا وتأكيدًا لدى الباحثين والمفكِّرين دعاة البانافريكانيزْم (Panafricanism)، أمثال: Guy Hunter (1963), Z. Ademuwagun (1963), Cheikh Anta Diop (1962), (P. Bohannan (1971), E. O. Ayisi (1972) etc, .

ونجد التَّأكيد على هذا الاستخدام من لدُن المؤرِّخ الأنثروبولوجي، عالم المصريَّات شيخ أنتا ديوب، خاصَّة في كتابه الذي يحمل هذا المعنى، “الوحدة الثَّقافيَّة بإفريقيا”.[4] وفيه صرَّح بقوله:

“لقد حاولتُ أن أكشف عن الوحدة الثَّقافيَّة العميقة التي ما زالت حيَّة تحت مَظْهر الاختلاف المضلِّل”.[5]

– شيخ أنتا ديوب

وهو بذلك يختار موقفًا أكثر رفضًا؛ بنفيه حتى القول بالتَّنوُّع، ويعضدُه الباحث الاجتماعي دافيد دالْبي (David Dalby)، الذي صرَّح بقوله إنَّه..

“لا يمكن الحديث إلا عن إفريقيا واحدة، وعليه، ينبغي على يونسكو أن تُعامِل إفريقيا بوصفها كتلةً (ثقافيَّة) واحدة في برامجها الثَّقافيَّة”([6]).

– دافيد دالْبي

بالمقابل، نجد باحثين ممَّن يذهبون إلى ردِّ القول بالوحدة الثَّقافيَّة بإفريقيا، ويستخدمون الجمع (Cultures) تعبيرًا عن هذا التَّنوُّع والتَّعدُّد. من أولئك: Murdock 1959, C. M. Turbull 1962, G. Hunter 1963, J. Middleton 1970, etc..

أما الباحث تويينْ فالولا (Toyin Falola)، فيذهب إلى استحسان الجمع، ويرى أنَّ هذا التَّعبير أدقُّ في الدِّلالة على التَّنوُّع الموجود بإفريقيا التي بها أكثر من 800 ثقافة ولغة. لكنَّ فالولا يذهب إلى التَّحذير من الإفراط في هذا الاستخدام؛ لأنَّه قد يوحي بمفهومٍ مضلِّل، “may convey a misleading nottion“([7]). فسكان المرتفعات الجبليَّة، وسكان الغابات، والصَّحارى، والسافانا، والقاطنون على ضفاف الأنهُر والمستنقعات، لا بدَّ أن تتبايَن طُرق حياتها وخبراتها؛ تبعًا للاختلاف البيئيِّ بينها([8]). وطبقًا لهذا الاعتبار يذهب الباحث فورتيس (Meyer Fortes) إلى ردِّ القول بالتَّوحُّد بين الثَّقافات الإفريقيَّة، ويمثِّل لذلك بمجموعة خونْغْ (!Khung)، أو من كان يُطلق عليهم اعتباطًا “بوشْمنْ” في صحارى كلاهاري، وهم من الرُّعاة الرُّحَّل، فلا وجه للمقارنة بين أولئك –عند فورتيسْ- وبين المجموعات.. “الأكثر تنظيمًا، الأكثر غنًى، الأكثر تعقيدًا سياسيًّا واجتماعيًّا وعسكريًّا في ممالك غرب إفريقيا” ([9]).

بين هؤلاء وأولئك، يعمد باحثون إلى التَّوفيق بين الموقِفَين باستخدام الجمع (cultures)، ثم يحدِّدون ويخصِّصون باستخدام “Cultural Areas“؛ للإشارة إلى بعض الخصوصيَّات الثَّقافيَّة بين مجموعاتٍ إثنيَّة معيَّنة، فيقولون مثلاً: منطقة يوربا الثَّقافيَّة، منطقة السواحلي، منطقة فولاني…. وهو ما ذهبت إليه ندوة أكرا (1980م)؛ إذ توصَّل المنتدون إلى أنَّ هناك “ثقافة إفريقيَّة موحَّدة”، قبل أن تكون هناك مناطق ثقافيَّة (Cultural Areas).[10] هذا، وقد آثر آخرون استخدام الصِّيغتَين: المفرد والجمع، أمثال الباحث دانْ فولاني،[11] والباحث إيداوْ([12]) والفيلسوف امْبِيتي([13]), والباحث بولاجي([14]). للإشارة إلى الثَّقافة والأديان الإفريقيَّة.

على كلٍّ، فإنَّ استخدام المفرد لا يعني التَّأكيد الجازم بأنَّ المجموعات الإثنيَّة هي ذات وحدة ثقافيَّة على امتداد القارَّة، وإنَّما يشير إلى القواسم المشتركة الموجودة بين تلك الثَّقافات، والعكس بالعكس؛ إذ إنَّ الجمع لا يعني وضع فواصل قاطعة بين الثَّقافات الإفريقيَّة.

العلاقة بين الثقافات الإفريقية

بناءً على ما تقدَّم من استعراضٍ لمواقف الباحثين حول التَّوحُّد والتَّنوُّع في الثَّقافة الإفريقيَّة، فإنَّ البحث عن ظواهر مشتركةٍ بين المجتمعات الإفريقيَّة، يفضي إلى قائمةٍ مطوَّلة من المشتركات الثَّقافيَّة، وتكيفينا هنا إلمحاتٌ عارضة في جوانب ثقافيَّة ماديَّة.

أ_ اللُّغات الإفريقيَّة: بصرف النَّظر عن انتماء اللُّغات الإفريقيَّة إلى أسرة متقاربة، فإنَّ الشَّبه الكبير بينها يمثِّل ظاهرة واضحة. هذا على الرُّغم من كثرة تلك اللُّغات وبلوغها أكثر من (2000) لغة، بنسبة (30%) من لغات العالم([15]). كما أنَّ كثيرًا من تلك اللُّغات تُصنَّف بوصفها “لغاتٍ عابرة للحدود” أي أنَّها لغاتٌ يُتحدَّث بها في مناطق ودولٍ عدَّة، مثل لغة: هوسا، وفُلفدي، ومادينغ (في غرب إفريقيا)، ولغة لينْغالا، وبيتي فانْغ (Beti-Fang)، (في وسط إفريقيا)، ولغة شيشْوَا، وسيشْوانا (Sishewa, Setswana) (في الجنوب الإفريقي)، والسَّواحيلية (في الشرق الإفريقي)، ويشير الباحث إيبونوس في هذا المقام إلى وجود حوالي (45) لغة مشتركة بين نيجيريا وبين جاراتها([16]). إذنْ، بوجود هذا الاشتراك اللُّغوي في الاستعمال والتَّداوُل، فإنَّنا نتوقَّع وجود مشتركاتٍ ثقافيَّة وفكريَّة تحملها تلك اللُّغات لمتحدِّثيها وإن تباعدت مواطنهم بوصف اللُّغة وعاءً للفكر والثَّقافة.

ب_ الأدب والفنّ: يوجد تشابُه وتماثُلٌ كبيرٌ بين آداب الشُّعوب الإفريقيَّة الشِّفاهيَّة منها والمكتوبة، وكذلك في الفنون الأدائيَّة الأخرى من تمثيل، ونحتٍ وزخرفة وغيرها؛ لذلك، فإنَّ قضيَّة التَّوحُّد والتَّنوُّع التي تمَّت مناقشتها في الفقرات الأولى من هذه الورقة قد ظهرت بقرونها في الحقل الأدبيِّ: فهل نطلق “أدب أفريقي” بالمفرد أم بالجمع “آداب” (African Literature (s)) ؟ فالذين اختاروا الجمع تعلَّلوا بتبايُن اللُّغات الإفريقيَّة وبتعدُّد صُور الإبداع الشِّفاهيَّة والمكتوبة؛ لكنْ ردَّ عليهم ممَّن اختاروا الإفراد بأنَّ العلاقة بين تبايُن لغات الشُّعوب الإفريقيَّة لا تأثير له يُذكر على ثقافاتها، وقد كشفت الدِّراسات النَّقديَّة المقارنة عن أوجُهٍ شبَهٍ جليَّة بين ملحمة صونجاتا وبين نظيرتها شاكا زولو البطل القوميّ لمجموعات زولو جنوبيَّ القارَّة على الرُّغم من أنَّ كلاًّ من الملحمَتَين قد نشأت في مجموعَتَين منعزلَتَين تمامًا([17]). النَّتيجة هنا، أنَّ العلاقة بين آداب القارَّة علاقةٌ لا تخطئها العينُ، وهي علاقة ترتقي في معظم الأحيان إلى درجة التَّماثُل.

ج_ الرِّياضيَّات ونظام العدِّ والحساب: تتجلَّى علاقة الثَّقافات الإفريقيَّة بعضها ببعض، في وحدة نظام العدِّ والحساب في جميعها تقريبًا، فمن المشتركات في معظم لغات إفريقيا التَّشابُه اللَّفظي بين الأرقام (2، 3، 4، 5)؛ إذ هي عادةً تتألَّف من صوت “di” و “li“، ورقم (3) يحتوي عادةً على صوت “sa/ta“، و(4) يحتوي على الصَّوت الأنفي “n“. كذلك، فإنَّ الإشارة إلى الأعداد (6-9) في معظم اللُّغات الإفريقيَّة، تكون بإضافة (1) إلى العدد خمسة، وهكذا. وتبدأ الإضافة عند بعض الإثنيَّات من العدد (6) كما الحال لدى سانغو (Sango) شماليَّ كونغو([18]):  ويضيق المقام لعرض نظام العدِّ المعقَّد هنا([19]).

العلاقة بين الثَّقافة الإفريقيَّة والثَّقافات الأخرى

لقد اصطبغت العلاقة بين الثَّقافة الإفريقيَّة وبين الثَّقافات العالميَّة بصبغة الأخذ والعطاء النَّشط في ظروف التَّلاقي الطَّبيعيِّ لتلك الثَّقافات، وحتى في الظُّروف الاستثنائيَّة، وفي الفقرات الآتية استعراضٌ عاجلٌ لبعض صُوَر هذا العطاء الثَّقافي في الأمريكَتَين وآسيا.

أوَّلا: في الأمريكَتَين

تتبدَّى العلاقات الثَّقافيَّة بين إفريقيا ومنطقة أمريكا الجنوبيَّة خاصَّة، في احتواء تلك المنطقة لأكبر تواجُدٍ إفريقيٍّ خارج القارة؛ وذلك للأسباب التَّاريخيَّة المعروفة التي أفرزت عنها تجارة الرَّقيق. فالأفارقة أكثريَّةٌ في بربادوسْ، وهايتي، وجامايْكا، وترينيدادْ وتوباغو، ودوَلٍ أخرى ذات علاقات مصاهرة عالية بين الأفارقة وغيرهم كما في كوبا، والبرازيل.. إنَّ هذا التَّواجد الإفريقيَّ المكثَّف في تلك المناطق قد أفرز عن عمليَّة تثاقُف واسعة النِّطاق شملت جميع المظاهر الثَّقافيَّة.

أ- موسيقى وغناء: إنَّ أجلى مظهرٍ من مظاهر التَّثاقُف بين إفريقيا ومجتمعات غرب الأطلسيِّ هو فنُّ الموسيقى، فهناك الكثير من الأنواع الموسيقيَّة تعود أصولها إلى إفريقيا، مثل موسيقى (Abakua) الكوبيَّة، والجاز (Jazz) و(Blues)، وسامْبا البرازيليَّة، و(Juba) و(Akimbo) وغيرها من الفنون الشَّعبيَّة الوافدة من إفريقيا إلى بلاد الأمريكَتَين، وقد أصبحت تلك الفنون ملامح مميِّزة لثقافات تلك الشُّعوب.

بالإضافة إلى ذلك، تأتي مظاهر أخرى مثل: الطب الشَّعبي، والأطعمة، والأزياء والعادات الاجتماعيَّة وغيرها. ومن الأزياء الرَّائجة أقمشة (Kente) المطرَّزة لمجموعات أشانتي بغانا الحاليَّة، وهي ذات أبعادٍ ثقافيَّة، حاملة لغة ومضامين خاصَّة، ولها حضورٌ في مجتمعات الأمريكَتَين([20]). وفي الكتاب الذي حرَّره الباحث جوزيف هولوي استقصاءٌ للكثير من تلك المظاهر الثَّقافيَّة المقترضة من إفريقيا إلى أمريكا: في التَّاريخ، واللغة والفن، والدين، والزِّراعة وغيرها([21]).

ب _ المعتقدات الدِّينيَّة: هناك الكثير من المعتقدات والممارسات الدِّينيَّة بدول الكاريبي التي وفدت من إفريقيا. بل إن الكثير من تلك المظاهر الدِّينيَّة ما زالت محتفظة بالطُّقوس والملامح الإفريقيَّة في لغاتها وطرق عباداتها. من ذلك: ديانة فودو (Voodoo)، التي ترى الباحثة جيسي غاستونْ أنَّها قد انتُزعَتْ من داهومي وزُرعت كاملة بولاية (New Orleans) الأمريكيَّة بطقوسها السِّحريَّة، ورموزها، وأغانيها ورقصاتها([22]). ومنها ديانة (Sasabonsan)، وهي ديانةٌ أشانْتيَّة وفدت إلى جامايْكا، وأخضعت لبعض التَّحوير؛ لتصبح ديانةً أرواحيَّة، ومن ثمَّ أدمِجَتْ طقوسها في المسيحيَّة المعمدانيَّة الحرَّة على يد الأب (Bedward, 1894). ومنها ديانة (Orisa) لمجموعات يوربا بنيجيريا، وديانة (Macumba) البرازيليَّة، وهي مزيجٌ من المعتقدات والطُّقوس الإفريقيَّة القديمة بالطُّقوس الكاثوليكيَّة([23]).

وقبل كلِّ ذلك، فإنَّ الحضور الإفريقيَّ ببلاد الأمريكَتَين حضورٌ سابق –في الأرجح- على ظرف تجارة الرَّقيق، دلَّت على ذلك دراساتٌ أثريَّة كثيرة، ووُجِدت آثار كثيرة تؤكِّد وجود أفارقة من مالي تحديدًا بالسَّواحل  الكاريبيَّة؛ إذ توجد بعض المناطق بأسماء من مالي، كما أنَّ بها مواقع أثريَّة وجد بها علماء الآثار نقوشًا تصوِّر أفارقة لابسين جبَّة وعمامة، وأدوات من النُّحاس في القرن الرابع عشر من مالي، ومن المناطق المعروفة “سيرا دي مالي”، و”مادينغا بايْ”([24]). ويُظنُّ أنَّ أولئك الأفارقة هم من المجموعات التي رافقت ملك مالي مانْسا أبي بكر الثاني في رحلته المغامِرَة عبر المحيط الأطلسي (1311م) ([25]), وكان ذلك قبل اكتشاف كولومبوس لما أسماه بالعالم الجديد (1492م)، وهو ما أكَّد عليه الباحث سيرتيما في عنوان كتابه الشَّهير([26]).

ج_ اللُّغة: يظهر التَّلاقح بين اللُّغات الإفريقيَّة ولغات أمريكا في كثرة الاقتراض. على سبيل المثال، تفيد الدراسات أن الأفارقة في دول الكاريبي قد أحدثوا تأثيرًا كبيرًا في اللغة البرتغالية والإسبانية في تلك البلاد، وفي معجم “بورقي” وصل تعداد المفردات في البرتغالية البرازيليَّة إلى (2500) كلمة مقترضة من لغات يوربا، وإيبو، وفولاني، وماندينغ و(Ewe, Twi)، وتشمل مفردات في أسماء الآلات والأدوات المنزلية، والاجتماعية، والتعبيرات اليومية([27]). هذا، ومن طريق البرتغاليَّة والإسبانيَّة دخلت مفردات إفريقيَّة كثيرة إلى اللغة الإنجليزية والفرنسية واللغات الأوربية، ومن أشهر الباحثين في هذا المجال، العالم اللغوي الأمريكي (Lorenzo Turner, d.1972 )، والألسني الإنجليزي (David Dalby)([28]).

ثانيًا: في آسيا

تُعدُّ العلاقات الثَّقافيَّة بين إفريقيا وآسيا الأقصى أقدَمَ العلاقات وأعمقَها جذورًا؛ بوجود تجارةٍ نشطة عبر المحيط الهندي والهادي، وبهذا الصَّدد تفيد المصدريَّات التَّاريخيَّة بوجود “عبيد” أفارقة في الموانئ الصِّينيَّة منذ عهد ملوك سونغ (Sung Dynasty, 976 A.D.)، ويُطلق عليهم “K’un lun” أي: سود الجلود. وهذا التَّواجد الإفريقيُّ مسجَّلٌ أيضًا في مناطق مختلفة بآسيا.

نتيجةً لذلك، فإنَّ مجموعاتٍ إفريقيَّة بآسيا ما زالت مميَّزة بقسماتها الجسديَّة وبتمايُزاتها الثّقافيَّة التي تُعدُّ جزءًا لا يتجزَّأ من ثقافات المجتمعات الآسيويَّة.

على سبيل المثال، توجد بجزر (Ari Atoll, Feridu) بالمالديف مجموعاتٌ إفريقيَّةٌ يُطلق عليها بابورُو (baburu)، وفد معظمُها من بلاد شرق إفريقيا ومن عُمَّان. ومن الرَّقصات الشَّعبيَّة المالديفيَّة “bodu-beru” أي: الطَّبلة الكبيرة، ويُطلق على الأغاني المصاحبة لهذه الرَّقصة “baburu lava” أي: أغاني الزُّنوج، وتُعدُّ من أكثر الأغاني والرَّقصات الشَّعبيَّة رواجًا بمالديف ([29]).

كذلك، في الهند يوجد أفارقة في مناطق (Gujarat, Kamataka, Maharashta, Goa)، وغيرها. وكذلك في السِّيلان (Srilanka)، تُعرف المجموعات الإفريقيَّة بأسماء عدَّة منها: “coffers/kafra/kaffirs/habshi“، التي وفدت إلى تلك المناطق منذ الرُّبع الأخير من القرن السَّابع عشر، ففي غضون عام (1724م)، وُجد الكثير من الجنود الأفارقة حرَّاسًا بقصور ملوك الدَّولة الأصفيَّة بحيدر آباد، وكان يُطلق عليهم “شاويش” من التركية العثمانيَّة. أمَّا الفنون الشَّعبية التي يمارسها أولئك من رقصاتٍ وأغانٍ، فقد ذكرت الباحثة جياشوري منها: (Manhas) وأشارت إلى أنَّ لهذه الرَّقصة تأثيرًا مباشرًا في أغاني (Baila) الأكثر شعبيَّة في سريلانكا ما بعد الكولونياليَّة([30]).

هذا، وفي مذكّرات الحاكم الهولندي (Van Goens Junior) أنَّ أكثر من أربع آلاف زنجيًّا عملوا في بناء forteress بكولومْبو عام (1675-1680م)، وتلك دلالةٌ على كثرة أعدادهم منذ تلك الفترة، جاء بهم المستعمرون؛ للعمل في بناء الطُّرق وفي الجيش وفي الزِّراعة، وقد حدثت عمليَّة تصاهُر بين أولك وبين السُّكان المحليِّين، نتجت عنها مجموعةٌ تُعرف الآن بـ(Afro-Sri Lankans)([31]). أيضًا، فإنَّ للمجموعات الإفريقيَّة حضورًا قديمًا بباكستان بمنطقة بلوشستان والسند، وتُعرف بـ(Seedee, Sheedi, Makrani, Gulam, Zangibari) من: “سيد” العربيَّة، وقد توغَّل في تلك المناطق منذ عهد السُّلطان سيد سعيد (ت1856م)، وكانت سواحل الباكستان وإيران الحاليًّة آنذاك جزءًا من مملكة عُمان، ولأولئك إسهامٌ ثقافيٌّ في مجال الملاحة والصَّيد البحري بسواحل باكستان، ولهم كذلك رقصاتٌ وفنون شعبيَّة معروفة.

أمَّا في جنوب شرق آسيا، فإنَّ أكثر تواجدٍ للأفارقة بإندونيسيا، ويُعرفون بـ”Orang Belanda Hitam” أي: الهولنديُّون السُّود؛ ذلك لمجيئهم مع الجيش الاستعماريِّ الهولندي. وقد تزوَّج الكثير من أولئك من نساء إندونيسيَّات. والثَّقافة الإفريقيَّة الآسيويَّة واضحة المعالم بجزيرة مدغشقر خاصَّة.

الثَّقافة الإفريقيَّة والأخذ من الثَّقافات الأخرى

على الرُّغم من القول إنَّ إفريقيا هي مهد الحضارات الإنسانيَّة، فإنّها قد أخذت الكثير –ولا تزال- من الثَّقافات الأخرى في جميع مظاهر الحضارة. ففي المجال اللُّغويِّ، تكفينا الإشارة إلى اقتراض اللُّغات الإفريقيَّة من غيرها: العربيَّة مثلا، التي أثَّرت تأثيرًا واضحا في مفردات لغات: السواحليَّة، وهوسا، ومادينغ وكانوري وصونغاي، وسوننكي، وفولاني([32]) ودن ذلك في لغة داغُومْبا بشمال غانا([33]), مُوريهْ (Mossi)، في بوركينافاسو([34]), وغيرها([35]) وهو تأثيرٌ وصفه الباحث سلاوُو بـ”طوفان” من المفردات، (flood of words).[36] وهو تأثيرٌ غير طبيعيٍّ في حال اللُّغات الاستعماريَّة والإنجليزيَّة خاصَّة التي توصف بـ”لغات قاتلة” (Glottophagous, Killer Languages).[37]

         وفي مجال الأزياء تأثيرٌ متعدِّد المصادر في إفريقيا، ومن صُوَر ذلك تطوُّر فنِّ الزَّركشة والتَّطريز والتَّلوين ببلاد هوسا مثلاً، وجيرانهم بمملكة يوربا ونُوبي (Nupe)، وهم يصنعون أقمشة تظهر عليها آثارٌ إسلاميَّة واضحة في رسم الخطوط الهندسيَّة يُطلق عليها الآن “أرابيسْكْ”، والنَّجمات([38]). كذلك تُشتَهر مالي بمطرَّزات “طِلْبِي” (tilbi/tirbiوهو نوعٌ من التَّطريز في الجلابيب نشأ وتطوَّر بمدينة تمبكتو وجيني.

وفي الطِّب الشَّعبيِّ مثلا، نجد تأثيرًا واضحا للإسلام، وثقافات الشَّرق في الطِّب الإفريقيِّ. ففي مجتمع هَوْسا مثلاً ما يُعرف بـ: “أونْوانْزاني”، والتَّأثير الإسلاميُّ فيه أظهرُ، ومنه “بوري” الإسلامي([39]) وبمنطقة السِّنغال نجد أنَّ.. “معظم صُور الطِّب الإثني، مستقاةٌ أساسًا من العقيدة الإسلاميَّة”. ومثل ذلك مسجَّل بين مجتمعات مادينغ، وفولاني، والسواحلي، وقد اشتهر بين السواحلي مجموعات زرامو (Zaramo)، بتنزانيا([40]) ذكر الباحث سوانْتز أنَّ حوالي (98%) من الأطباء الشَّعبيِّين بين زرامو هم شيوخٌ مسلمون([41]).

بالمثل، نجد في المجال المعماريِّ تأثيرًا واضحًا، وفيه ما يُعرف بالطِّراز الأفرو-البرازيليُّ الذي ظهر على أيدي “العبيد” المحرَّرين العائدين من باهيا (Salvador) في البرازيل، ومن أشهَرِ المساجد ذات الطِّراز الأفرو-البرازيلي: المسجد الجامع بمدينة بورتو-نوفو (1912م)، والمسجد الجامع بمدينة (Abeokuta) النيجيريَّة، ومسجد آبومي (Abomey)، والمسجد الجامع بمدينة (Modakeke) النِّيجيريَّة، علمًّا أنَّ هذا الطِّراز لا يختصُّ بدور العبادة فحسب.


[1] Piddington, Introduction ot Social Anthropology, (London: Oliver & Boyd, 1950), p.3.

[2]  يبدو أن السِّلسلة قد شملت جميع بلدان إفريقيا الحديثة، والعناوين الداخليَّة في كل كتاب متماثلة، وهي: الدين ورؤيا العالم، والأدب والإعلام، والفن والعمارة، والطبخ والأزياء، والأسرة والزواج وأدوار الجنْدر، والعادات الاجتماعيَّة، والموسيقى، والرقض، والفن التَّمثيلي.

[3] Encyclopedia of , Willie F. Page, Facts on File, 2001, (5 volumes).

[4] Cheikh Anta Diop, L’unite Culturelle de l’Afrique noire: Domaines du patriarcat et du matriarcat dans l’antiquité classique, (Paris: Presence Africaine, 2e éd. 1982).

[5] Anta Diop, the cultural unity of negro, 7.

[6] Benjamin Nimer, Distinctive Characteristics and Common Features of African Cultures, The International Journal of African Historical Studies, Vol. 22, No. 1 (1989), 145-147, (18).

[7] Falola, Toyin. The Power of African Cultures, (University Rochester Press, 2008), 3.

[8] Victor B. Kapela. Dialectics of Praxis and Theoria in African Philosophy: An Essay on Cultural Hermeneutics, (African Books Collective, 2011), 27.

[9] Meyer Fortes. Introduction, in: Eric O. Ayisi. An Introduction to the Study of African Culture, (East African Publishers, 1992), ix.

[10] Benjamin Nimer, Distinctive Characteristics, Op. Cit. 18.

[11] Dan Fulani. “African Religion in Scholarship: A Critique” in: Adogame et al. Religion in the context of African migration, 9, 23, 25.

[12] E. B. Idowu. African Tradional Religion: A Definition, London: SCM Press, 1973, xi.

[13] John, S. Mbiti. An Introduction to African Religion, (Heinemann, 1990). Also: African Religions and Philosophy.

[14] E. Bolaji, “The Study of Religion with Special reference to African Traditional Religion”, ORITA, I, (1), 1967: 1.

[15] Heine and Nurse (ed). African Languages: An Introduction, (Cambridge Unv. Press, 2002), 1.

[16] Simpson, Andrew. Language and National Identity in Africa, (Oxford University Press, 2008), 172-198.

[17] Researches in African Literatures, Vol.35, AFRICAN AND AFRO-AMERICAN STUDIES, University of Texas, 2004, 178.

[18] Huylebrouk, Dirk. 138.

[19] Zaslavsky, Claudia. Af. Counts.

[20] Joanne B. Eicher & Sandra Lee Evenson. The Visible Self: Global Perspectives on Dress, Culture and Society, (Bloomsbury Publishing USA, 4th ed., 2014), 185.

[21] Joseph E. Holloway. The power Africanisms in American Culture, (Indiana University Press, 2005). (436 pages)

[22] Falola, The Power of African Culture, Op. Cit., 283.

[23] Larry A. Nichols, George Mather, Alvin J. Schmidt (ed). Encyclopedic Dictionary of Cults, Sects, and World Religions: Revised Edition, (Zondervan, 2010).

[24] Rick Duncan. Man, know Thyself, (Xlibris Corporation, 2013), 173.

[25] Gaoussou Diawara, Abubakari II, Explorateur Mandingue.

[26] Sertima, Ivan Van. They Came Before Columbus: The African Presence in Ancient America, Random House Trade Paperbacks, 1976).

[27] John T. Schneider, Dictionary of borrowings in Brazilian Portuguese, (Buske Verlag, 1991).

[28] Geneva Smitherman. Talkin and Testifyin: The Language of Black America, (Wayne State University Press, 1977).

[29] Jayasuriya, Shihan de Silva. Identifying Africans in Asia: What’s in a Name?, African and Asian Studies, Vol.5 (3-4), Brill, 2006. 276-301.

[30] Jayasuriya, Shihan de Silva. African Migrants as Cultural brokers in South Asia, FRAS, Institute of Commonwealth Studies, University of London,  http://portal.unesco.org/culture/en/files/38505/

[31] Ibid., 283.

[32] R. D. Abubakre, “Survival of Arabic in Difficult Terrains”, University of Ilorin, 2002.

[33] Salifu, Nantogma Alhassan. « The Influence of Islam on the Culture and Language of the Dagomba of Northern Ghana”, Maghreb Review, Vol.37, No.3-4, 349.

[34] Gaston Canu, “Remarqes sur quelques emprunts lexicaux en More”, The Journal of West African Language, Vol.5, No.1.

[35] Sergio Baldi. Dictionnaire des emprunts arabes dans les langues de l’Afrique de l’Ouest et en Swahili, (Paris : Karthala, 2008), 662p.

[36] Adewuni Salawu. “The Spread of Revealed Religions in West Africa and Its implications for the Development of Translation”, Journal of Translation, Vol.3, No.2, 2007, 30.

[37] Cecile B. Vigouroux, Salikoko S. Mufwene. Globalization and Language Vitality : Perspectives from Africa, 171.

[38] Colleen E. Kriger, Cloth in West African History, 69.

[39] Abdalla, Ismail Husein. (1981), Islamic Medicine and Its Influence on Traditional Hausa, 101.

[40] Lloyd, w. Swantz. The Medicine man among the Zaramo people, 39.

[41] Lloyd, w. Swantz. The Medicine man among the Zaramo people, 166 (footnote).

ظهرت المقالة الثقافة الإفريقية بين الأخذ والعطاء أولاً على الأفارقة للدراسات والاستشارات.

]]>
https://alafarika.org/ar/4503/%d8%a7%d9%84%d8%ab%d9%82%d8%a7%d9%81%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%a5%d9%81%d8%b1%d9%8a%d9%82%d9%8a%d8%a9-%d8%a8%d9%8a%d9%86-%d8%a7%d9%84%d8%a3%d8%ae%d8%b0-%d9%88%d8%a7%d9%84%d8%b9%d8%b7%d8%a7%d8%a1/feed/ 0 4503
المشروع الأفريقي للمغرب في ظل الصراع الدولي خلال القرن السادس عشر الميلادي https://alafarika.org/ar/4441/%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%b4%d8%b1%d9%88%d8%b9-%d8%a7%d9%84%d8%a3%d9%81%d8%b1%d9%8a%d9%82%d9%8a-%d9%84%d9%84%d9%85%d8%ba%d8%b1%d8%a8-%d9%81%d9%8a-%d8%b8%d9%84-%d8%a7%d9%84%d8%b5%d8%b1%d8%a7%d8%b9-%d8%a7/ https://alafarika.org/ar/4441/%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%b4%d8%b1%d9%88%d8%b9-%d8%a7%d9%84%d8%a3%d9%81%d8%b1%d9%8a%d9%82%d9%8a-%d9%84%d9%84%d9%85%d8%ba%d8%b1%d8%a8-%d9%81%d9%8a-%d8%b8%d9%84-%d8%a7%d9%84%d8%b5%d8%b1%d8%a7%d8%b9-%d8%a7/#respond Tue, 08 Mar 2016 18:35:00 +0000 https://theafrikans.com/?p=4441

لا يمكن معالجة التوسع المغربي على حساب إفريقيا جنوب الصحراء(بلاد السودان الغربي) والقضاء على دولة الصنغاي خلال العصر الحديث دون وضعه في سياقه الدولي إذ تميز الوضع السياسي بالحوض الغربي للمتوسط خلال هذه المرحلة بالتوتر بين أهم القوى السياسية الفاعلة آنذاك الإمبراطوريتين العثمانية والإسبانية، فقد شهد ق16م صعود نجم الإمبراطورية العثمانية وسيطرتها على معظم دول […]

ظهرت المقالة المشروع الأفريقي للمغرب في ظل الصراع الدولي خلال القرن السادس عشر الميلادي أولاً على الأفارقة للدراسات والاستشارات.

]]>

لا يمكن معالجة التوسع المغربي على حساب إفريقيا جنوب الصحراء(بلاد السودان الغربي) والقضاء على دولة الصنغاي خلال العصر الحديث دون وضعه في سياقه الدولي إذ تميز الوضع السياسي بالحوض الغربي للمتوسط خلال هذه المرحلة بالتوتر بين أهم القوى السياسية الفاعلة آنذاك الإمبراطوريتين العثمانية والإسبانية، فقد شهد ق16م صعود نجم الإمبراطورية العثمانية وسيطرتها على معظم دول الشمال الافريقي وتحويلها إلى إيالات تابعة لها سياسيا باستثناء المغرب، كما شهد أيضا تخلص الاسبان من الوجود العربي الاسباني واسترجاع منطقة الاندلس نهاية ق15م والشروع في بناء إمبراطورتيها الاستعمارية عبر ارتياد السواحل الافريقية والامريكية، ولا نجد أبلغ من قول أحمد المنصور الذهبي حول هذه المرحلة باعتباره معاصرا للأحداث: «اليوم أغلق أمامنا باب الأندلس بعد الغزو الكامل الذي قام به أعداؤنا الكفار لهذا البلد، ولم تعد لنا أي حرب مع تلمسان أو ما تبقى من الجزائر بعدما استحوذ الأتراك على هذه الأراضي… وأيضا فإن بلاد السودان أنفع من إفريقية، فالاشتغال بها أولى من منازلة الأتراك لأنه تعب كثير في نفع قليل…»[i].

العلاقات المغربية العثمانية بين التوتر والتقارب

  سوف لن نتطرق إلى تاريخ الإمبراطورية العثمانية من مؤسسات اقتصادية وسياسية وعسكرية وما خلفته من إنجازات كبرى منذ نشأتها إلى حين القضاء عليها من طرف الإمبريالية الأوربية، بقدر ما سنركز على أهم الأحداث التي كانت الإمبراطورية فاعلة فيها أو طرفا رئيسيا بها منذ بداية القرن15م إلى مستهل القرن17م والتي أثرت إما سلبا أو إيجابا على مجريات الأحداث بدول الجوار في الضفتين الشمالية والجنوبية خلال الفترة المذكورة.

   فالعلاقات المغربية العثمانية حديثة العهد مقارنة مع بعض القوى السياسية الأخرى (ممالك السودان الغربي كمملكة غانا ومالي، وبعض ممالك أوربا الجنوبية)، بدأت بعد الفتح العثماني للعاصمة البيزنطية القسطنطينية سنة 1453م من طرف محمد الفاتح، وقد تزامن هذا الحدث الدولي(فتح القسطنطينية) مع حكم آخر ملك مريني عبد الحق بن أبي سعيد الثاني(1420-1465م) الذي وجه رسالة تهنئة إلى السلطان العثماني محمد الفاتح بهذه المناسبة لتكون الدولة المرينية أول دولة عقدت علاقات سياسية مع الدولة التركية الصاعدة في الحوض الشرقي للمتوسط. غير أن أزهى فترات التواصل السياسي بين المغرب والدولة العثمانية كان إبان الدولة السعدية التكمدارتية نظرا للأحداث والوقائع التي همت بالخصوص الأوضاع السياسية بالبحر الأبيض المتوسط.

    لكن هذه العلاقات شابها نوع من التوتر السياسي والعسكري خاصة في المراحل الأولى من عمر الدولة السعدية نتيجة تداعيات القضاء على الدولة الوطاسية ولجوء أبي حسون الوطاسي إلى الأتراك لاستعادة عرشه، حيث كان رد فعل الدولة السعدية قويا في شخص محمد الشيخ المهدي (1540-1557م)، إذ قام باحتلال تلمسان سنة 1551م مما جلب عليه دخول الأتراك إلى فاس وعودة أبي حسون إلى العرش، وقد زاد عدم الاعتراف السعدي بالسيادة العثمانية من تأجيج الصراع بين الدولتين. بالفعل ونظرا لنسبهم الشريف أنف السعديون التبعية للدولة العثمانية كما فعل الوطاسيون قبلهم، والذين سعوا بشتى الوسائل لإرضاء الباب العالي، في الوقت الذي ظلت فيه الدولة العثمانية تعتبر السلاطين المغاربة مجرد تابعين للخلافة بإسطنبول، يظهر ذلك من خلال الرسالة التي وجهها سليمان القانوني لمحمد الشيخ المهدي بتاريخ فاتح محرم 959ه/1552م، ينوه فيها بالمجهودات الجادة التي بدلها هذا السلطان في الرد على العدو المشترك “البرتغال”[ii].

  وقد لعب عامل الجوار ومسألة الانتماء الديني دورا مهما في التدخل العثماني في الشؤون الداخلية للمغرب خاصة في لحظات الصراع حول العرش، فكثيرا ما تدخل الأتراك لحسم الصراع بتنصيب هذا السلطان أو ذاك كما لعبت الصراعات السياسية بين القوى في حوض البحر الأبيض المتوسط دورا مهما في اختيار الأحلاف وتوجيهها، فنظرا للتوتر الذي ساد علاقة الباب العالي  بمحمد الشيخ المهدي، دفع هذا الأخير إلى التحالف مع الإسبان لضرب الإمبراطورية العثمانية[iii]. وخوفا من هذا التحالف لجأ الباب العالي إلى تغيير واليه بالجزائر حسن باشا لرفضه كل تعاون مع المجاهدين حماة الإسلام أي السعديين، خاصة وأن الإمبراطورية كانت تخوض حروبا مع دول أوربا.

  ونظرا للمناوشات السياسية والعسكرية التي كانت تتم بين الفينة والأخرى بين الطرفين، سعت الدولة العثمانية جاهدة لحسم الصراع عن طريق رسم الحدود بين الإيالة التركية(الجزائر) والمغرب الأقصى مما نتج عنه اغتيال محمد الشيخ المهدي سنة 1557م[iv]، نظرا لتعنته ورفضه البات للمسعى العثماني ولرده برسالة تحقيرية للسلطان العثماني مع الوفد الذي أوكلت له مهمة المفاوضة حول رسم الحدود قائلا: «قل لأمير الحواتة سلطانك إنني سأنازعه على ملك مصر»[v].

  هذه السياسة التي دأب عليها بعض الملوك السعديين رافعين شعار “لا للتقارب السياسي” مع الأتراك الذي كلف عبد الله الغالب التنازل عن حجرة باديس لصالح الإسبان لدفع الخطر التركي مما أثار عليه غضب الفئات الشعبية المغربية[vi]، لتظهر من جديد الأزمة التي لازمت الدولة المغربية طيلة القرنين 15م و16م والمتمثلة في الصراع حول العرش بين أفراد الأسرة الحاكمة والتي دامت هذه المرة حوالي أربع سنوات، أي منذ وفاة عبد الله الغالب سنة 1574م إلى حدود 1578م، والتي تؤرخ لحدث وطني بمقياس دولي هو معركة وادي المخازن الشهيرة التي أسفرت عن الهزيمة المخزية لدولة البرتغال الأكثر تطاولا على التراب المغربي، مما جنب المغرب المزيد من مغامرات الأوربيين وكبح جماحهم، ومنحه هيبة لم تتكسر إلا مع هزيمة إسلي في منتصف ق19م[vii]. ويبقى السؤال المطروح هو: هل كانت للدولة السعدية العدة المادية والعسكرية الكافية لصد الأخطار التي كانت محدقة من الشرق و الشمال؟

  بغض النظر عن الظروف السياسية التي عاشها المغرب خلال هذه الفترة فقد تمكن من الحفاظ على استقلاله من جهة، وتحقيق نوع من التوازن السياسي في حوض البحر الأبيض المتوسط من جهة أخرى. فقد استغل البلاط السعدي ذلك التنافس الحاد بين القوى السياسية في الحوض الغربي للمتوسط وحاول التقرب من القوة الأقل ضررا وهي اعتبارات جديدة فرضتها متغيرات المحيط السياسي على الحكام المغاربة للتكيف مع القوة الاقتصادية والعسكرية المتصاعدة بأوروبا[viii].

  كما ساهمت النتائج البشرية لمعركة وادي المخازن في فتح المجال لسلطان سيكون له شأن كبير في تاريخ المغرب السعدي، ألا وهو أحمد المنصور الذهبي الذي تولى عرش المغرب من 1578م إلى حدود 1603م، خمس وعشرون سنة من الحكم حافلة بالمنجزات السياسية والاقتصادية والفكرية.

  فعلى الصعيد السياسي، انشغل أحمد المنصور بثلاث قضايا أساسية شكلت محط اهتمامه، علاقاته بالقوى السياسية الكبرى آنذاك الدولة العثمانية والإسبان، ثم مشروعه الإفريقي المتمثل في ضم السودان الغربي.

   حافظ المنصور على علاقات ودية مع الأتراك وباقي الدول الأوربية ولم يحدث ما يعكر صفو هذه العلاقات خاصة مع العثمانيين إلا تداعيات معركة وادي المخازن[ix]. وهنا نسجل أن هاجس الخلافة لدى أحمد المنصور كان أحد الأسباب الخفية للصراع العثماني السعدي[x]، ويظهر ذلك جليا من خلال المراسلات التي تمت بينه وبين مراد الثالث، وإدريس ألوما ملك بورنو، الذي شكل محطة من محطات الصراع العثماني السعدي الخفي خاصة جنوب الصحراء ويتضح أيضا من خلال الحملات العسكرية العثمانية نحو الصحراء، من بينها الحملة لاحتلال توات سنة 1579م وكذلك الصراع الذي دار بينه وبين حسن باشا (الجزائر) حول واحة فكيك سنة 1583م والذي انتهى لصالح السعديين بعد تدخل تحكيمي من طرف إسطنبول[xi].

العلاقات المغربية الإيبيرية والتوازنات السياسية

   يبدو أن الصراع السياسي بين المغرب السعدي والإمبراطورية العثمانية بالشمال الإفريقي أرخى بظلاله على العلاقات السياسية بين السعديين ودول شبه الجزيرة الإيبيرية البرتغال والإسبان علما أن، من أهم المبادئ الرئيسية التي قامت على أساسها الدولة السعدية هي فكرة الجهاد. فسلاطين الدولة ظلوا أوفياء لمبادئهم في البداية على الأقل وأول اصطدام عسكري مع البرتغال قام حول حصن فونتي (أكادير) سنة 1511م غير أنه باء بالفشل ودفع بالسلطان السعدي محمد القائم بأمر الله إلى الدخول في مفاوضات مع حاكم سانتاكروز دوم فرانسيسكو دي كسرو(Dom Francisco De casro) انتهت بعقد اتفاقية هدنة بين الطرفين ساهمت في تسهيل العلاقات التجارية بين برتغاليي الحصن وسكان المنطقة إذ شرعا الطرفان في تبادل المنتوجات المستوردة من أوربا بمنتوجات المناطق المحادية للحصن[xii].

  ويظهر أن عدم توازن القوة بين الطرفين كان سببا في توقيع اتفاقية الهدنة من طرف السعديين التي تم تجديدها بعد مضي فترة من الزمن لكنه كان أيضا بمثابة إجراء تكتيكي من طرف السعديين لاستجماع قواهم ومهاجمة الحصن. يظهر ذلك من خلال المراسلات التي وجهها برتغاليو الحصن إلى الملك يوحنا الثالث يحذرونه فيها بعدم المغامرة والتخلي عن السواحل الإفريقية بما فيها سانتاكروز، ولم تتجدد الاشتباكات مع البرتغاليين حول الحصن إلا في سنة 1533م مع محمد الشيخ السعدي عندما كان واليا على السوس غير أنه فشل بدوره في استعادة الحصن إلى حاضرة المملكة السعدية نظرا لاستمرار عدم توازن القوة بين الطرفين فتم التخلي عن هذا المشروع لمدة تزيد عن سبع سنوات وهذا ما يعبر عن ذكاء الشاب محمد الشيخ الذي استغل هذه الهدنة أو الاستراحة لتزويد المنطقة بالأسلحة المتطورة عن طريق مراسي صغيرة وعن طريق تجار من أوربا، كما استفاد من خبرة المورسكيين في صنع أسلحة محلية[xiii]. ولم تكد تنتهي  مدة الهدنة سنة 1540م وتطل سنة 1541م حتى تمكن السعديون من السيطرة على الحصن، ويضيف صاحب كتاب “تاريخ سانتاكروز” سببا آخر لفشل البرتغالين يتعلق بالجبهات الأخرى التي فتحوها للحرب في أمريكا اللاتينية، وبذلك تشكل سنة 1541م حدثا مهما للتواجد البرتغالي بالمغرب، إذ شكل هذا التاريخ أول تمزيق في بنية المغرب البرتغالي[xiv].

   فالنجاح العسكري الذي حققه السعديون عزز سلطتهم بالمغرب في الوقت الذي عزز الأتراك العثمانيون تواجدهم بالجزائر، وقد أدرك محمد الشيخ المهدي النوايا التركية إذ كانت حادثة فاس سنة 1554م(الدخول الثاني) نقطة تحول هامة في تاريخ الدولة الناشئة، حيث ظهر كخصم لدى الأتراك ومن المعارضين لسياستهم التوسعية في بلاد المغرب لذلك وجه اهتمامه صوب الإسبان والبرتغال مقابل التقارب العثماني الفرنسي.

  هذا التنافس السعدي العثماني على شمال إفريقيا بل وعلى الخلافة الإسلامية كان في صالح الإسبان والبرتغال، فقد أصبح الأتراك العثمانيون العدو المشترك لهذه القوى بالبحر الأبيض المتوسط، مما نتج عنه نوع من التقارب بين هذه الأطراف الثلاث، ويظهر ذلك من خلال الرسالة التي وجهها الملك جان الثالث (Juan III) إلى ضابط مازكان البرتغالي ألفارو دي كارفاليو في يونيو سنة 1554م جوابا على الطلب الذي تقدم به المولى محمد الشيخ إلى كل من لشبونة ومدريد لمده بقوات عسكرية ضد الأتراك مقابل تجديد بعض الشروط التي فرضها البرتغاليون، كتسليم بعض المراكز البحرية التي يهدد عبرها الأتراك الطرفين خاصة باديس والعرائش وتموين القوات المسيحية ثم ضرورة إخبار الإمبراطور الإسباني[xv]. أسفرت هذه الرسالة عن توقيع هدنة بين السعدييين والبرتغاليين بواسطة حاكم مازكان لمدة ستة أشهر في مطلع سنة 1555م وقد كلف محمد الشيخ المزوار المنصور بوغانم للقيام بهذه المهمة.

انتهت هذه المرحلة بوفاة السلطان محمد الشيخ سنة 1557م مما يدفعنا إلى التساؤل: هل الخلف نهج سياسة السلف أم أن الدبلوماسية فرضت الإخلاص لمؤسس السلالة السعدية محمد الشيخ؟

  يبدو من خلال تتبعنا للعلاقات السعدية مع دول شبه الجزيرة الإيبيرية أن الفترة التالية لمحمد الشيخ تميزت بالصراع مع البرتغال، إذ في سنة 1562م سيحاول الملك السعدي عبد الله الغالب استعادة مازكان(الجديدة) بدون جدوى من البرتغاليين، وتعتبر بعض الدراسات هذه المحاولة آخر ضربة عسكرية قام بها السعديون لتحرير التراب الوطني فقد تم بعد ذلك إخلاء باقي المواقع المحصنة الأجنبية عبر المفاوضات أو عبر عوامل أخرى مستقلة عن إرادة السلاطين[xvi].

  أما مع الإسبان فقد اضطر خلفاء محمد الشيخ نهج سياسة خارجية ثابتة اتجاههم نظرا لحدود إمكانياتهم العسكرية كما استطاعوا تمييز المظاهر الكبرى لهذه الحقبة الموسومة بالصراع بين أكبر الإمبراطوريات بالبحر البيض المتوسط، العثمانيون وإسبانيا، مما دفعهم إلى الاعتماد على إمكانياتهم الدبلوماسية التي خولت لهم إنقاذ مملكتهم من سيطرة أحد الطرفين.

   تميزت الفترة الممتدة ما بين 1557م و1577م بالاصطدامات العسكرية الكبيرة بين الإسبان والدولة العثمانية، وهي ظرفية دولية ملائمة استفاد منها عبد الله الغالب إذ كانت الحملة العثمانية على مالطة سنة 1564م لكنها باءت بالفشل وكشفت عن ضعفها من الناحية العسكرية فلم تعد تشكل أي خطر على قوى البحر الأبيض المتوسط بعدما جاءت نكبة 1571م المتمثلة في معركة “ليبانتي” حيث دمر فيها الأسطول العثماني بكامله، أصبحت الواقعة ذات دلالة كبيرة في تاريخ الصراع العثماني الإسباني الذي انتهى أخيرا سنة 1574م حيث تمكن العثمانيون من السيطرة على تونس وانتزاع شرف الانتصار خلال معركة “حلق الواد”.

  وفي الوقت الذي اشتد فيه ذلك الصراع كان عبد الملك أحد إخوة السلطان عبدالله الغالب قد لجأ إلى الجانب التركي وحاول ربط علاقات مع الأتراك والإسبان[xvii] مما أدى إلى تحول خطير في السياسة المغربية اتجاه الدولة العثمانية، فبعدما عزف السلطان المغربي عن استقبال موفدين عثمانيين بادر بنفسه إلى إيفاد سفارة إلى الباب العالي بقيادة التمكروتي[xviii].

   والسبب ناجم عن اختلال العلاقات التي حاول أن يربطها عبد الملك مع الإسبان وهو في اسطنبول والوعود الإسبانية بمد العون له في حالة تراجع الدولة العثمانية، هذه السياسة التي سلكها عبد الله الغالب كلفته غاليا:

1- فعلى المستوى الترابي، تنازل للإسبان عن حجرة باديس، وهذا الإجراء السياسي يراه المؤرخ المجهول رأيا فاسدا رغم أنه يضعه في إطاره الصحيح وهو ما تؤكده الوثائق الإسبانية إذ تشير إلى كون تصرفه هذا كان مخافة إخوانه أن يأتوه من الجزائر فقد كانت «عمارة أهل الجزائر وسفنهم لا تخلو من”مرسى باديس” ومسافري الجزائر لايركبون إلا من باديس إلى المشرق والمغرب، ولا ينقطع الترك عليها في كل أوان فكتب سلطان النصارى واتفق معه أن يخلي الإيالة من حجرة باديس وبيع له البلاد ويخليها من المسلمين وتنقطع مادة الترك من البلاد»[xix].

2- إضافة إلى موقفه السلبي من الثورة الموريسكية التي اندلعت في غرناطة سنة 1568م وهي سياسة سلكها ربما للضغط على الإسبان بورقة المورسكيين للحصول على مصالح أخرى، هذا الموقف يفسره المجهول قائلا: «فساروا يكتبون إلى ملك المسلمين شرقا وغربا وهم يشدونهم في الإغاثة وأكثر كتبهم إلى مولاي عبد الله وهو القريب من أرضهم، وكان قد قوي سلطانه، وجندت أجناده وكثرت أعداده فأمرهم غشا منه أن يقوموا على النصارى… فلما قاموا تراخى عما وعدهم به وكذب عليهم غشا لهم ولدين الله تعالى ومصلحة ملكه الزائل… وعبد الله المخذول في سلطانه لا يبالي بما يقع للمسلمين وذلك صحيفته غش المسلمين وصادق النصارى وباع لهم باديس وأقدم الجيش من أهل الأندلس الفارين بدينهم ليتعصب بهم فتمهد في ملكه وقد ابتلاه الله تعالى بالضيقة ولعذاب الآخرة أشد إن لم يتجاوز الله سبحانه وتعالى…»[xx].

   أما عبد الملك الذي لجأ إلى الجزائر ومنها إلى اسطنبول للحصول على المساعدة، فقد اتخذ من هذه المدن قاعدة لإجراء اتصالات مكثفة مع مختلف القوى التي كان لها حضور في عالم البحر الأبيض المتوسط[xxi]. كان الرجل يعرف اللعبة السياسية ومختلف التحالفات والمصالح التي كان يسعى كل طرف من الأطراف المتنازعة للحفاظ عليها أو كسبها، ولعل ما ساعده في هذه اللعبة إتقانه للغات المتوسط. وتظهر علاقته مع إسبانيا من خلال بعض رسائله إلى فليب الثاني:

1)- إحداها صادرة من الجزائر وتحمل تاريخ 08 أكتوبر1570م وهي رسالة تضع اليد على المضايقات التي كان يعاني منها الأمير السعدي من باشا الجزائر الذي كان يصر على مرافقته أينما حل وارتحل ربما بسبب تخوفه من العلاقات التي كانت لعبد الملك مع الإسبان.

2)- الوثيقة الثانية: تحمل تاريخ 9 فبراير 1574م يخبر فيها عبد الملك فليب الثاني باستعداده للذهاب إلى مدينة فاس وهذا الاختيار يدل على أن إسبانيا لم يكن لها أي اعتراض على تغيير القيادة في المغرب من المتوكل إلى عبد الملك الذي عكس ما تصوره المصادر المغربية كونه أتى بالأتراك، بل كانت له علاقات مع الإسبان قبل توليه السلطة[xxii].

  انتهت هذه المرحلة بحدث هام في تاريخ المغرب كانت له أبعاد دولية سواء في غرب المتوسط أو شرقه[xxiii] وهو معركة وادي المخازن سنة 1578م،«فبفضل هذه المعركة نجا المغرب نهائيا من المطامع الإيبيرية والتركية بالجزائر معا الذين تخلوا عن مخططاتهم في الغزو»[xxiv].

  فما هي السمات البارزة للعلاقات المغربية الإسبانية بعد سنة 1578م؟

  إنها فترة حكم أحمد المنصور السعدي الخبير بالعلاقات بين دول البحر المتوسط لأنه عايش تحركات الأتراك والإسبان اتجاه المغرب إلى جانب أخيه عبد الملك، لذلك تميزت سياسته اتجاه الطرفين بالحيطة والحذر والمراوغة والتي شكلت مقاومة سياسية كبيرة لصد الأخطار الخارجية، فالدهاء الكبير لأحمد المنصور مكنه من اللعب على الحبلين عن طريق تقديم الدعم المادي والعسكري للعثمانيين اتجاه الإسبان تارة، والتقرب من الإسبان للحصول على المساعدة تارة أخرى. إضافة إلى أسلوب المراوغة الذي اعتمده بلعب ورقة التنازل على العرائش باعتبارها مركزا حساسا ستمكن أحد الطرفين من مراقبة الآخر.

  سياسة الموازنة هاته حافظت على استقلال المغرب لكنها لم تنجح في طرد الإسبان من العديد من المراكز الساحلية الأطلسية والمتوسطية، فقد حافظوا على تواجدهم في كل من وهران والمرسى الكبير ومليلية[xxv]، واستولوا على العديد من المراكز التي كانت تحت تصرف البرتغاليين كالجديدة وطنجة وسبتة بعد التخلي البرتغالي عنها سنة 1578م بموجب الزواج السياسي بين العائلتين الملكيتين في شبه الجزيرة الإيبيرية[xxvi]، رغم اضطرارهم على التخلي سنة 1589م عن مدينة أصيلا لفائدة المغرب بسبب تصاعد القرصنة السلاوية ضد السفن الإسبانية[xxvii].

  خلاصة القول أن العلاقات المغربية التركية والعلاقات المغربية الإيبيرية تحكمت فيها بشكل كبير المستجدات التي كانت تطفو على السطح بين الفينة والأخرى في عالم البحر الأبيض المتوسط، مما دفع بالسلاطين السعديين إلى الخلق السياسي ومداراة أعتى القوى السياسية والعسكرية للحفاظ على استقلال المغرب ووحدته الترابية.

ملابسات الأزمة السياسية السعدية الصنغانية.

  نسجت الدولة السعدية علاقات سياسية مع العديد من ممالك السودان الغربي في مقدمتها مملكة “كانم-بورنو”، كما عرفت في نفس الوقت توترا في علاقتها مع إحدى الممالك الهامة وهي إمبراطورية الصنغاي. فكيف تم ذلك؟ وفي أي إطار؟ وماهي النتائج التي ترتبت عن ذلك؟

1- العلاقات الدبلوماسية بين الدولة السعدية ومملكة كانم-بورنو:

   مملكة كانم- بورنو من الممالك السودانية القديمة التي لم تحض بالاهتمام الكافي من طرف المؤرخين كمثيلاتها غانا ومالي والسنغاي، وهي من أكبر الدول التي ظهرت بالمفازات الشاسعة الممتدة من النيل إلى النيجر. شكلت هذه المملكة إلى جانب البورنو إحدى دول السودان التي عمرت طويلا إذ يرجع تاريخ ظهورها إلى الفترة التي ظهرت فيها السنغاي القديمة بعاصمتها كوكيا  فربطت علاقات تجارية جد مبكرة مع دول المغرب الكبير.

  ويعتبر شعب “الصاوو” وهو من الشعوب النيلية (نسبة إلى منطقة النيل) التي هاجرت واستقرت بالقرب من بحيرة التشاد إلى جانب الهجرات البشرية المتتالية من الخارج، النواة البشرية لدولة الكانم –بورنو التي استطاعت تكوين حضارة جد متميزة تتمثل في نمط عيش ذي تركيبة جديدة بين إفريقيا الغربية وإفريقيا الشرقية.

 ورغم المشاكل السياسية والاقتصادية والحروب التي خاضتها مع الشعوب المجاورة ظلت شخصيتها حاضرة إلى حدود ق17م واستطاعت أن تمدن السودان الأوسط خلال العصر الوسيط على غرار ما فعلته دولة مالي بالسودان الغربي، مستفيدة من سيطرتها على طرق التجارة الصحراوية المؤدية شمالا عبر فزان صوب الساحل المتوسطي وشرقا صوب النيل. هذا وقد عرفت المملكة نظاما سياسيا إمبراطوريا توالى فيه العديد من السلاطين من أشهرهم السلطان ماي إدريس ألوما الذي حكم البلاد ما بين 1571م و1603م وقد أصبحت المملكة في عهده محط صراع حاد بين الأتراك العثمانيين والدولة السعدية.

   فالصراع السعدي العثماني لم يقتصر على المجال المتوسطي فحسب بل شمل أيضا المجال الصحراوي، وقد شكلت مملكة الكانم- بورنو جزءا من هذا الصراع، تشهد عليه المراسلات التي تمت بين هذه المملكة الجنوب– صحراوية والأطراف المتصارعة والتي تدخل في إطار الواقعية والعقلانية التي تعاملت بها إذ تحالفت في البداية مع الإمبراطورية العثمانية وبعد فشلها اتجهت بعد ذلك نحو السعديين بمراكش[xxviii].

  ويمكن معالجة العلاقات السياسية للمملكة السودانية والدولة السعدية من خلال زاويتين رئيسيتين: الأولى وترتبط بالسياسة التوسعية لإمبراطورية الصنغاي على الدويلات المجاورة بأرض الهوسا مما أدى إلى اصطدام مباشر مع دولة البورنو التي كانت تعيش أزهى فترات حياتها مع ماي إدريس ألوما إذ وقف سدا منيعا في وجه التوسع الصنغاني بهذه الأراضي. ونظرا لعدم توازن القوة بين الطرفين لجأ ماي إدريس في البداية إلى الدولة العثمانية لطلب العون والمساعدة العسكرية رغم خلافاتهما حول منطقة فزان التي سيطر عليها الأتراك سنة 1576-1577م[xxix]، والضغوط السياسية المرتبطة بتقديم الطاعة والولاء للسلاطين العثمانيين مما آل هذه المساعي للفشل ليتجه صوب الدولة السعدية باعتبارها طرفا غير مباشر في الصراع، فحل المنصور محل مراد الثالث في إطار لعبة البورنو السياسية.

  والزاوية الثانية كرد للسعديين على التحركات العثمانية بالجنوب الصحراوي بخصوص منطقة توات ما بين 1578م و1579م وسنتي 1581م و1582م، والتي انتهت باحتلال المنطقة وتكورارين وواحة فكيك سنة 1583م.

  ففي ظل الصراع العثماني السعدي بالتخوم الصحراوية تلقى المنصور سفارة من ملك بورنو إدريس ماي ألوما سنة 1582م، كانت بمثابة تعويض عن الخسارة السعدية في الصحراء الشرقية وتغيير الشريك السياسي لمملكة بورنو، وقد كان الهدف من هذه السفارة هو الحصول على العساكر والأجناد والبنادق ومدافع النار لمجاهدة الكفار في الجنوب، رغم أن بعض الدراسات تؤكد أن السبب الحقيقي يكمن في التزود بالمدد العسكري لاستعادة الجزء البورنوي بفزان الخاضع للسيطرة العثمانية.

   فبعدما كانت موافقة السعدي على مطالب ماي إدريس وهي موافقة مشروطة بالاعتراف بالخلافة والتبعية للمنصور السعدي، وأن عملية الجهاد التي نادى بها ملك بورنو لا تصبح واجبة عليه وعملا يجزى عليه من طرف الإله، إلا إذا كان يمتلك توكيلا يخوله له واحد من الجماعة المسلمة والمجسد في شخص أمير المؤمنين (المنصور)[xxx]. ومن ثم كانت فرصة مناسبة لأحمد المنصور للحصول على مساعيه الرامية إلى تطبيق نظرية الخلافة التي كانت قناة من قنوات نشر النفوذ السعدي جنوب الصحراء ومنافسة النفوذ العثماني بالأساس[xxxi].

2- حيثيات الأزمة السعدية الصنغانية:

  لكن لمن ترجع ملكية هذا المعدن، للمغرب أم للسودان الغربي؟

  استطاعت مملكة الكانم-بورنو الحفاظ على علاقات يطبعها السلم والهدوء مع القوى السياسية المتوسطية في حين حسمت إمبراطورية السنغاي الصراع باللجوء إلى الحرب خاصة مع الدولة السعدية مما يدفعنا إلى التساؤل حول أسباب ودوافع هذا الصراع في المنطقة والنتائج المترتبة عنه. وبغض النظر عن الأسباب المباشرة والواضحة التي حصرها المهتمون في الدوافع المادية والدينية والاستراتيجية، لعبت ملاحة تغازا دورا محوريا في أطوار الصراع السعدي السنغاني. فمنطقة تغازا من المناطق الهامة لإنتاج مادة الملح وهي سلعة مطلوبة في أسواق السودان الغربي وأهميتها تعادل أهمية الذهب.

  تقع منطقة تغازا في الشمال اتجاه مراكش وفي الجنوب اتجاه تمبوكتو(حسب ابن بطوطة المسافة الفاصلة بين تغازا ومراكش هي نفس المسافة الفاصلة تقريبا بينها وبين تمبوكتو) مما جعلها محط نزاع بين الدولتين السعدية والصنغانية.

  وإذا رجعنا إلى تاريخ الملاحة نجدها كانت تحت تصرف الإمبراطورية المالية رغم أن موقعها الجغرافي يجعلها لا ترتبط بأية سيادة خلال منتصف ق14م، لكن مع منتصف ق16م والمتغيرات الدولية التي عرفها الحوض الغربي للمتوسط تغيرت نظرة الدول الحاكمة بالمغرب اتجاه ملاحة تغازا. فبعد الحصار الذي ضربه الأتراك من الناحية الشرقية والإسبان من الناحية الشمالية اتجه السعديون صوب الجنوب للمطالبة بعائدات هذه الملاحة لتطرح أمامهم مشكلة حق الاستغلال.

   فالبنسبة للصنغاي حصلت على ملاحة تغازا عن طريق الغزو وبذلك تعود ملكيتها لمستغليها حسب التقليد الغربي الإفريقي، وعائداتها للإمبراطور عن طريق جباية الضرائب، أما بالنسبة للسعديين فقد اتخذت هذه العائدات أبعادا سياسية واقتصادية، ولتحقيق ذلك اعتمدوا على منطلق شرعي يخول استغلال المعادن وعائداتها للإمام أمير المؤمنين باعتباره خليفة لله في الأرض وأن المعادن هي عطاء وبدل رباني، وقد مرت هذه المطالبة والسيطرة على ملاحة تغازا بمرحلتين:

  المرحلة الأولى تمت في عهد كل من أحمد الأعرج وأخيه محمد الشيخ وكانت البداية سنة 1539م حينما طالب أحمد الأعرج من الأسكيا تسليمه معدن تغازا غير أن رده كان عنيفا من خلال جوابه ومن خلال إرسال جماعة من الطوارق (التوارك) الذين قاموا بالإغارة على جهات درعة وخربوا سوق بني صبيح[xxxii]. تعلق إحدى الدراسات على هذا الحدث الجريء كونه جاء نتيجة أحداث داخلية خطيرة عاشتها إمبراطورية الصنغاي متمثلة في الجفاف والأوبئة والصراعات بين الأمراء حول السلطة[xxxiii]، فرد أحمد الأعرج بحملة تأديبية انتقامية فاشلة على منطقة وادان.

  أما في عهد محمد الشيخ السعدي فقد تعرضت المنطقة لضربتين متتاليتين، الأولى تم تحديدها ما بين سنة 1543م و 1544م والتي جاءت بعد الانتصار على البرتغال سنة 1541م وتنحية أحمد الأعرج المنافس الأول على السلطة سنة 1542م لحاجته للمداخيل لإتمام فتح المغرب الشمالي، والضربة الثانية كانت خلال 1556م و 1557م حينما قام محمد الشيخ بالهجوم على تغازا مما أسفر عن مقتل متولى أسكيا داوود خليفة إسحاق الأول وتدشين منجم آخر للملح بتغازا الغزلان[xxxiv]، وانتهت بذلك المرحلة الأولى من الصراع حول معدن تغازا دون سيطرة السعديين على الملاحة.

   الجولة الثانية بدأت بعد سنة 1557م مع أحمد المنصور الذي بدأ طورا آخر من السياسة الصحراوية للسعديين والتي زاوج فيها السلطان بين سياسة اللين والعنف. تمت هذه المرحلة باحتلال توات وكورارة سنة 1581م نظرا لموقعهما الاستراتيجي في التجارة الصحراوية صوب الشرق من جهة ومن جهة ثانية لقطع الطريق أمام الأتراك العثمانيين للتوسع في اتجاه الجنوب. وتظهر سياسة اللين للمنصور من خلال الطلب والهدية التي أرسلها لأسكيا داوود حسب رواية السعدي في تاريخه: «عندما اعتلى مولاي أحمد العرش طلب من الأسكيا داوود أن يترك له استغلال منجم تغازا طيلة سنة كاملة وفي نفس الوقت بعث الأمير المغربي مبلغ عشرة آلاف قطعة ذهبية على شكل هدية… وعندما علم مولاي أحمد بوفاة الأسكيا داوود لبس الحداد وعقد جلسة تلقى خلالها العزاء من كل موظفي الجيش»[xxxv]، كما تظهر من خلال سفارة 1584م التي كانت بهدف جمع المعلومات الكافية حول بلاد التكرور تمهيدا للسيطرة الكاملة[xxxvi]. في حين اعتمد سياسة التهديد حينما أرسل جيشا نحو منطقة ودان في اتجاه تومبكتو رغم أن هذه المحاولة انتهت بالفشل غير أنها لم تثبط من عزيمة المنصور في السيطرة على تغازا والتي تأتت له سنة 1585م. لكن هذه السيطرة السعدية  لم تكن كاملة، بدليل الرسالة التي بعث بها المنصور للأسكيا إسحاق الثاني مضمونها طلب استغلال ملاحة تغازا، غير أن رده على الرسالة كان عنيفا ودالا من خلال بعثه “لرماح وسلاسل حديدية”. وبذلك يكون الإمبراطور السنغاني لمح إلى حسم الصراع عسكريا حول الملاحة مما يوحي بأن الصنغاي ظلت تمارس نوعا من التشويش والضغط على الملاحة عن طريق المقاطعة أو التخريب للتضييق على المصالح المغربية من جهة، وتقدير إسحاق الثاني لسياسة خارجية كانت تهدف حماية الأراضي الصنغانية من كل تدخل خارجي من جهة ثانية[xxxvii].

  ما يهمنا من سرد هذه المحاولات التوسعية السعدية في اتجاه الجنوب هو ردود أفعال باقي دول المنطقة على المستوى السياسي خاصة دولة الصنغاي.؟

  هيأ السعديون الجو السياسي للسيطرة على الصنغاي بالحفاظ على علاقات هادئة وسلمية مع الدولة العثمانية[xxxviii] وعن طريق الحصول على بيعة إدريس ألوما (1582-1583م) ليتم بذلك نوع من العزل السياسي للصنغاي، لكن تضارب مصالح الدول بالمنطقة وتوثر العلاقات بين الأطراف المتصارعة دفعت بالدول المتنافرة إلى التقارب أحيانا والتنافر أحيانا أخرى. ففي الوقت الذي كانت فيه العلاقات بين الصنغاي وكانم بورنو ومنطقة كبي الحدودية جد متوترة نتيجة التوسعات الصنغانية (اتجاه هذه المناطق) على حساب هذه الدول وحدت المصلحة بينهم فخلقت جبهة موحدة لمواجهة التوسع السعدي في منطقة الغرب الإفريقي. فإمارة كانم-بورنو بسبب عدم حصولها على المساعدات العسكرية من السعديين اضطرت إلى التحالف مع الصنغاي ضد المغرب قبل سنة 1591م، وفي الوقت نفسه أبدى ملك كبي داوود نوعا من التعاطف مع نوح إمبراطور الصنغاي مما أثار حفيظة السلطان أحمد المنصور الذي أرسل رسالة تهديد بتدخل عسكري في المنطقة. وفي إطار الصراع السياسي والعسكري مع الدولة السعدية لا يستبعد بعض المؤرخين لجوء دولة الصنغاي إلى عقد تحالف مع الإمبراطورية العثمانية على الرغم من انعدام الشواهد التاريخية الدالة على هذا التحالف الإفريقي العثماني، مما يدفعنا إلى أخذ الحيطة والحذر من هذا المعطى التاريخي[xxxix]. على العموم لقد حلت المصالح العليا للدول محل المنطق مما أدى إلى عقد تحالفات غريبة وغير متوقعة، كل هذا لم يمنع أحمد المنصور من تحقيق رغبة الخلافة الإسلامية والسيطرة على الصنغاي سنة 1591م خلال معركة “تنديبي” القصيرة مما يفتح المجال لتساؤلات عديدة منها:

  هل فعلا كان هم السعديين الأساسي وخاصة أحمد المنصور الربح المادي فقط أم أن الأمر كان أكبر من ذلك؟ هل التدخل السعدي هو الذي أنهى حكم سلالة الأساكي أم أن الأمر كان أعمق من ذلك؟ وأخيرا ما النتائج المختلفة التي ترتبت عن ذلك؟

  كان الربح المادي حاضرا بقوة في استراتيجية التوسع السعدي في الجنوب، يظهر ذلك بجلاء من خلال تصريحات المنصور والتوسعات التي تمت في الصحراء والسيطرة على أهم (طرق المواصلات الرابطة) المراكز الاستراتيجية في الصحراء الغربية الممتدة بين سوس ودرعة شمالا ونهر السنغال جنوبا، لأن المغرب خلال هذه الفترة لم يعد الشريك القوي للصنغاي التي أصبحت تتعامل مع الشرق من جهة، ومن جهة ثانية سيطرة البرتغال على التجارة الصحراوية الساحلية من خلال انقضاضها على منطقة أركين جنوب الرأس الأبيض[xl]، مما حرم المغرب من مداخيل التجارة الصحراوية ودور الوسيط التجاري بين أوربا وإفريقيا جنوب الصحراء. وإذا دققنا جيدا في خطابات المنصور نجد فكرة الخلافة كانت مسيطرة على فكره ومخيلته، وضرورة الحصول على مداخيل وعائدات الملح وإعادة الإشعاع الاقتصادي للمغرب كان لخدمة وتحقيق هذه الفكرة التي كانت بهدف الوقوف في وجه الأجنبي، الدولة العثمانية في الشرق وإسبانيا في الشمال والبرتغال بالجنوب التي أصبحت تحاصر المغرب سياسيا واقتصاديا.

   وبخصوص التدخل العسكري السعدي ودوره في القضاء على حكم أسرة الأساكي تشير المصادر التاريخية المحلية أن الاحتلال العسكري كان بمثابة النقطة التي أفاضت الكأس، إذ أن دولة الصنغاي كانت تعاني أزمة سياسية واقتصادية وتفسخ أخلاقي كبير مما يدل على الانهيار السريع للدولة أمام أول تدخل لجيوش جودر. فبعد فترة حكم أسكيا داوود (1549-1582م) دخلت الدولة في صراعات سياسية حول السلطة بين الأبناء فكانت حسب الكعتي: «سبب فناء صنغي وفتح باب الشر بينهم وسبب فساد ملكهم وقطع سلك نظام دولتهم، إلى أن نزلت محلة أهل مراكش بهم»[xli]، ويذكر في موضع آخر «وهذه الفتنة هي أول خسارتهم وهلاكهم وفنائهم، قبل مجيء مولاي أحمد الذهبي، وهي سبب خراب بلد تندرم»[xlii].

  ويتحدث السعدي في تاريخه عن التفسخ الأخلاقي قائلا: «وبدلوا نعمة الله كفرا وما تركوا من معاصي الله تعالى إلا ارتكبوها جهرا، من شرب الخمور ونكحة الذكور. وأما الزنا فهو أكبر عملهم حتى رجع بينهم كأنه غير محظور، لا لهم فخر وزينة إلا بها، وحتى يفعلوها بعض أولاد سلاطينهم بأخواتهم»[xliii].

  أما اقتصاديا، فقد أثر الوضع السياسي بشكل عميق على الاقتصاد التقليدي لدولة صنغاي القائم على الزراعة والتجارة الصحراوية، كما كان للعوامل الخارجية دور لا يستهان به في إضعاف الدولة التي تراجعت مداخيلها وتدهورت بفعل حركة الكشوفات الجغرافية وفقدت بريقها القديم أيام دولتي غانا ومالي[xliv]، إضافة إلى تراجع ظاهرة الاسترقاق التي كانت مصدرا من مصادر الاقتصادي الصنغاني بفعل انتشار الإسلام بين العديد من القبائل السودانية.

ـــــــــــــــــــ

الهوامش:  

1- أحمد بن خالد الناصري، الإستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى، ج5، دار الكتاب، البيضاء، 1954.

2- خليل الساحلي، المجلة التاريخية المغربية، ع2، 1974.

3- قدور بوزياني، البعد الحدود في علاقة المغرب بأتراك الجزائر(ق10-11ه/ق16-17م)، المغارب في العهد العثماني منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، الرباط، سلسلة ندوات ومناظرات رقم 41، 1995.

4- عبد الباسط المستعين، المدن والمراكز الحضرية بالسوس بين: 668ه-1269م و1081ه-1670م، كلية الاداب والعلوم الإنسانية سايس فاس،

سنة 2007-2008.    

5- عبد الرحيم بنحادة، مساهمة الأرشيف العثماني في كتابة تاريخ العلاقات المغربية العثمانية (ق16/ق19م)، المغارب في العهد العثماني، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، سلسلة: ندوات ومناظرات رقم41، 1995 .  

6- عبد الحفيظ الطبايلي، العلاقات المغربية العثمانية خلال ق16م، د.د.ع.م، كلية الآداب، الرباط، 1989.

7- عز الدين عمر موسى، دراسات إسلامية غرب إفريقية، دار الغرب الإسلامي، بيروت، ط2، 2003.

8- عبد الرحمن السعدي، تاريخ السودان، باريس، نشر هوداس، 1964 .

   9- عبد الهادي التازي، المغرب في خدمة التقارب الإفريقي العربي، دعوة الحق، ع260، أبريل-ماي، 1988.

10- عبد العزيز الفشتالي، مناهل الصفا في مآثر موالينا الشرفاء، دراسة وتحقيق عبد الكريم كريم، مطبوعات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، الرباط، 1972.

11- عبد الرحمن المودن، تساؤلات حول موقف العثمانيين من الغزو السعدي للسودان، المغرب وإفريقيا جنوب الصحراء في بداية العصر الحديث.

12- محمد الصغير الأفراني، نزهة الحادي بأخبار ملوك القرن الحادي، تقديم وتحقيق عبد اللطيف الشاذلي، مطبعة النجاح الجديدة، ط1، الدار البيضاء، 1998. 

13- محمد بن تاويت، من زوايا التاريخ المغربي، مجلة تطوان، سنة 1960.

14- محمد حجي، حملة المنصور وهاجس الخلافة في المغرب وإفريقيا جنوب الصحراء في بداية العصر الحديث، وقائع الندوة التي نظمها معهد الدراسات الإفريقية، 1992.

15- محمد البغدادي، الصحراء المغربية بين الماضي والحاضر والحلول المقترحة للنزاع الصحراوي، إيداع 2004.   

16- مؤلف مجهول، تاريخ سانتاكروز-أكادير، تحقيق بيير دو سينيفال، تعريب أحمد صابر، كلية الآداب- أكادير، 1994.

17- محمد رزوق، دراسات في تاريخ المغرب، الطبعة1، 1991.  

18- مؤلف مجهول، رسائل سعدية، الخزانة العامة، ك 278، الرباط.

19- محمود كعت، تاريخ الفتاش في أخبار البلدان والجيوش وأكابر الناس، نشره هوداس، 1964.

20- Auguste Cour, Etablissement de la dynastie des chérifs au Maroc et leur rivalité avec les Turcs de la régence d’Alger (1509-1830), Ed. Leroux, Paris 1904.

21- Abdalla Laroui, L’histoire du Maghreb, Centre culturel Arabe, 2eme Ed, 2001.

22- M.Abitbol, Tombouktou et les Armats (1591-1833), thèse Doctorat 3ème cycle, Paris, 1974 -75.

23- Zakari Dramani issifou, L’Afrique noire dans les relations internationales au XVIe Siècle, analyse de la crise entre le Maroc et le Sonrhai, édition Karthala, Paris, 1982.


[i] – محمد الصغير الإفراني، نزهة الحادي بأخبار ملوك القرن الحادي، تقديم وتحقيق عبد اللطيف الشاذلي، مطبعة النجاح الجديدة، ط1، الدار البيضاء 1998، ص: 167.

[ii] – انظر نص الخطاب: خليل الساحلي، المجلة التاريخية المغربية، ع2، سنة 1974. عبد الرحيم بنحادة، مساهمة الأرشيف العثماني في كتابة تاريخ العلاقات المغربية العثمانية (ق16/ق19م)، المغارب في العهد العثماني ، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، سلسلة: ندوات ومناظرات رقم41، 1995، ص:11-19.

– مؤلف مجهول، رسائل سعدية، الخزانة العامة، ك 278، الرباط، ص: 11-14.[iii]

[iv] – Auguste Cour, Etablissement de la dynastie des chérifs au Maroc et leur rivalité avec les Turcs de la régence d’Alger (1509-1830), Ed. Leroux, Paris 1904, p:155.

– انظر كل من: أحمد بن خالد الناصري، الإستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى، دار الكتاب، ج5، البيضاء 1954، ص: 27. [v]

 محمد الصغير الإفراني، نزهة الحادي بأخبار ملوك القرن الحادي، تقديم وتحقيق عبد اللطيف الشاذلي، مطبعة النجاح الجديدة، ط1، الدارالبيضاء، 1998، ص: 79.    

– تم ذلك في عهد عبد الله الغالب (1557م-1574م)، انظر بخصوص هذا الموضوع، محمد بن تاويت، من زوايا التاريخ المغربي، مجلة تطوان، سنة[vi]

  1960. 

– عبد الباسط المستعين، المدن والمراكز الحضرية بالسوس بين: 668ه-1269م و1081ه-1670م، كلية الآداب والعلوم الإنسانية سايس-فاس [vii]

   سنة 2007-2008، ص: 32.

– عبد الباسط المستعين، ن.م.س. ص: 33.[viii]

9– نشير إلى أن أحمد المنصور تلقى العديد من الهدايا من الدول الأجنبية بمناسبة معركة وادي المخازن ومن بينهم العثمانيون التي لم ترق هديتهم ولم تلق بمستوى السلطان، فلم يلق الوفد العناية اللائقة من طرف أحمد المنصور فقرر السلطان العثماني تجريد حملة تأديبية ضد المنصور الذي عجل بإرسال هدايا ثمينة للسلطان العثماني. أنظر، النزهة، ص: 151.                

[x] – يرجع ذلك إلى بداية الدولة السعدية، خاصة في عهد محمد الشيخ المهدي الذي راح ضحية هذا الاعتقاد هو وابنيه الحران وعبد القادر. أنظر: محمد حجي، حملة المنصور وهاجس الخلافة في المغرب وإفريقيا جنوب الصحراء في بداية العصر الحديث، وقائع الندوة التي نظمها معهد الدراسات الإفريقية 1992، ص: 27-32.

[xi] – عبد الحفيظ الطبايلي، العلاقات المغربية العثمانية خلال ق16م، د.د.ع.م، كلية الآداب، الرباط 1989، ص: 158-160.

قدور بوزياني، البعد الحدودي في علاقة المغرب بأتراك الجزائر(ق10-11ه/ق16-17م)، المغارب في العهد العثماني، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، الرباط، سلسلة ندوات ومناظرات رقم 41، 1995، ص: 25-32.     

[xii] – مؤلف مجهول، تاريخ سانتاكروز- أكادير، تحقيق بيير دو سينيفال، تعريب أحمد صابر، كلية الآداب، أكادير، 1994، ص.ص: 13-14.

– مؤلف مجهول، ن. م. س. ص: 15.[xiii]

– مؤلف مجهول، ن.م.س. ص.ص: 15- 85.[xiv]

 – عبد الكريم كريم، ن.م.س. ص:83-84.[xv]

[xvi] – Zakari Dramani issifou, L’Afrique noire dans les relations internationales au XVIe Siècle, analyse de la crise entre le Maroc et le Sonrhai, édition Karthala, Paris 1982, p: 78.

 – عبد الرحيم بنحادة، مساهمة الأرشيف العثماني، المغارب في العهد العثماني، ن.م.س. ص: 14.[xvii]

 – نفسه، ص: 15.[xviii]

    – مؤرخ مجهول، م س. ص: 39.[xix]

 – ن.م.س. ص: 41.[xx]

  – نقلا عن قدور بوزياني، ن.م.س. ص: 32. [xxi]

  – انظر الإفراني، ن.م.س. ص: 123. [xxii]

    – عبد الهادي التازي، المغرب في خدمة التقارب الإفريقي العربي، دعوة الحق، ع260، أبريل-ماي، 1988، ص: 139. [xxiii]

[xxiv] – Abdalla Laroui, L’histoire du Maghreb, Centre culturel Arabe, 2eme Ed, 2001, p: 235.

 – محمد رزوق، دراسات في تاريخ المغرب، الطبعة1، 1991، ص: 132.[xxv]

 – مؤرخ مجهول، م.س. ص: 85. محمد البغدادي، الصحراء المغربية بين الماضي والحاضر والحلول المقترحة للنزاع الصحراوي، إيداع 2004، ص:   [xxvi]

    126.

  – مجهول، ن.م.س. محمد البغدادي، ن.م.س. ص: 127.[xxvii]

 – عز الدين عمر موسى، دراسات غرب إفريقية، دار الغرب الإسلامي، بيروت، ط2، 2003، ص: 83-84. [xxviii]

– Zakari Dramani Issifou, op, cit, p: 132.

[xxix] – Zakari Dramani, op, cit, p: 129.

[xxx] – Zakari Dramani, op, cit, p:134. M.Abitbol, Tombouktou et les Armats (1591-1833), thèse Doctorat 3ème cycle, paris 1974 -75, p:64.

 – عبد الرحمن المودن، تساؤلات حول موقف العثمانيين من الغزو السعدي للسودان، المغرب وإفريقيا جنوب الصحراء في بداية العصر الحديث، [xxxi] م.س. ص:15. عبد الرحيم بنحادة، مساهمة الأرشيف العثماني، ن.م.س.ص: 16.             

– عبد الرحمن السعدي، تاريخ السودان، باريس، نشر هوداس، 1964، ص: 199. انظر تعليق أحمد موسى، ن.م.س.ص: 85.  [xxxii]

[xxxiii] – Zakari Dramani Issifou, op, cit, p: 144.

[xxxiv] – G.Pianel, “Les préliminaires de la conquête du Soudan par Moulay Ahmed al-Mansur (d’après trois documents inédits)”, in Hespéris 1er, 2ème trimestre, 1953, pp.185 à 195, cité par Zakari Dramani Issifou, op, cit, p:107.

[xxxv] – Zakari Dramani Issifou, op, cit, p: 92.

 – السعدي، ن.م.س. ص: 120. عبد العزيز الفشتالي، ن.م.س. ص: 120-121. [xxxvi]

[xxxvii] – Zakari issifou, op, cit, p: 109.

 – عبد الرحمن المودن، ن.م.س. ص:17.[xxxviii]

[xxxix]– Zakari Dramani Issifou, op, cit, p: 135.

 – عبد الهادي التازي، المغرب في خدمة التقارب الإفريقي العربي، ن.م.س، ص: 147-148. [xl]

 – محمود كعت، تاريخ الفتاش في أخبار البلدان والجيوش وأكابر الناس، نشره هوداس، 1964، ص: 126.[xli]

      – ن.م.س. ص: 143.[xlii]

 – السعدي، ن.م.س. ص: 144.  كعت، ن.م.س. ص: 152.[xliii]

 – عز الدين عمر موسى، دراسات إسلامية غرب إفريقية، ن. م.س. ص: 193.[xliv]

ظهرت المقالة المشروع الأفريقي للمغرب في ظل الصراع الدولي خلال القرن السادس عشر الميلادي أولاً على الأفارقة للدراسات والاستشارات.

]]>
https://alafarika.org/ar/4441/%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%b4%d8%b1%d9%88%d8%b9-%d8%a7%d9%84%d8%a3%d9%81%d8%b1%d9%8a%d9%82%d9%8a-%d9%84%d9%84%d9%85%d8%ba%d8%b1%d8%a8-%d9%81%d9%8a-%d8%b8%d9%84-%d8%a7%d9%84%d8%b5%d8%b1%d8%a7%d8%b9-%d8%a7/feed/ 0 4441
المغرب وموريتانيا: من أطروحة الحق التاريخي إلى الاعتراف بالاستقلال https://alafarika.org/ar/4435/%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%ba%d8%b1%d8%a8-%d9%88%d9%85%d9%88%d8%b1%d9%8a%d8%aa%d8%a7%d9%86%d9%8a%d8%a7-%d9%85%d9%86-%d8%a3%d8%b7%d8%b1%d9%88%d8%ad%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%ad%d9%82-%d8%a7%d9%84%d8%aa%d8%a7/ https://alafarika.org/ar/4435/%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%ba%d8%b1%d8%a8-%d9%88%d9%85%d9%88%d8%b1%d9%8a%d8%aa%d8%a7%d9%86%d9%8a%d8%a7-%d9%85%d9%86-%d8%a3%d8%b7%d8%b1%d9%88%d8%ad%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%ad%d9%82-%d8%a7%d9%84%d8%aa%d8%a7/#respond Wed, 17 Feb 2016 18:01:00 +0000 https://theafrikans.com/?p=4435

كان الهدف من إنشاء منظمة الوحدة الإفريقية إيجاد إطار تنظيمي دولي إفريقي يسهر على السير العادي للعلاقات بين الدول الإفريقية، ويعمل على إيجاد الحلول الممكنة للمشاكل التي تطرح على الساحة القارية، فالمرجع الأساس لقيام المنظمات القارية يقضي بحل النزاعات القارية في إطار منظمة إقليمية، وفي هذا السياق نجد أن منظمة الوحدة الإفريقية تفرد الفقرة الرابعة […]

ظهرت المقالة المغرب وموريتانيا: من أطروحة الحق التاريخي إلى الاعتراف بالاستقلال أولاً على الأفارقة للدراسات والاستشارات.

]]>

كان الهدف من إنشاء منظمة الوحدة الإفريقية إيجاد إطار تنظيمي دولي إفريقي يسهر على السير العادي للعلاقات بين الدول الإفريقية، ويعمل على إيجاد الحلول الممكنة للمشاكل التي تطرح على الساحة القارية، فالمرجع الأساس لقيام المنظمات القارية يقضي بحل النزاعات القارية في إطار منظمة إقليمية، وفي هذا السياق نجد أن منظمة الوحدة الإفريقية تفرد الفقرة الرابعة من المادة الثالثة من الميثاق لحل النزاعات الحادثة بين الدول الإفريقية في إطار إفريقي، وبما أن المنتظم الإفريقي حديث النشأة، ومن أجل تأكيد حضوره وفعاليته سعى الزعماء الأفارقة بشتى الوسائل إلى التدخل وبشكل ناجع للفصل في القضايا الإفريقية، كما أن اتحاد والتحام الدول الإفريقية حول منظمة واحدة ونهج سياسة خارجية موحدة يحول دون تشتت الدول الإفريقية وانحيازها نحو كتلة معينة.

ولا يخفى على كل دارس للشؤون الإفريقية ما كان للاستعمار الأوروبي من دور خطير في تمزيق القارة وبلقنتها، مما أثر بشكل سلبي على تصورات زعماء الدول الإفريقية حول العديد من مبادئ المنظمة وعلى رأسها “الالتزام باحترام الحدود الموروثة عن الاستعمار”[1] وبعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول المتنازعة، وبحفظ السيادة الترابية للدول الأعضاء و بدعم حق الشعوب في تقرير مصيرها.

فالظاهر أن الحمل كان ثقيلا، لذلك ومنذ إنشائها سنة 1963 واجهت منظمة الوحدة الإفريقية العديد من المشاكل، ليس فقط في الميدان السياسي بل في ميادين أخرى اقتصادية واجتماعية وثقافية وغيرها. ومن أجل ذلك نجد أن المنظمة الإفريقية وخلافا لبعض المنتظمات الإقليمية[2]، تتوفر ضمن أجهزتها على لجنة متخصصة تقوم بالوساطة والتوفيق والتحكيم في الخلافات بين الدول الإفريقية، إضافة إلى باقي الأجهزة الأخرى التي همت ميادين مختلفة (اقتصادية واجتماعية وثقافية…)، وإن لم تقم بدور فعال فإنها دلت على أن الزعماء الأفارقة كانوا على وعي تام بمشاكل القارة. وبشكل عام، إن نجحت المنظمة في حل بعض المشاكل الإفريقية فهي لم تنجح بشكل كبير في حل النزاعات الإفريقية المتعلقة بالحدود لأسباب موضوعية تمثلت في غياب ضوابط قانونية لاقتراح حلول نهائية للنزاعات الحادثة وافتقارها إلى قوة إفريقية للتدخل من أجل فرض احترام الحلول التي تقترحها، بل أكثر من ذلك عدم استقلاليتها المادية والتقنية[3] .

 وسأخصص هذا المقال لتحركات المنظمة لإيجاد حلول مرضية لأحد أبرز الخلافات التي واجهتها وسنركز بشكل خاص على الجانب السياسي منها، وذلك لتبيان مدى أهمية القرارات التي أصدرتها المنظمة أولا ثم مدى حظ هذه القرارات من التطبيق، وسنروم بالخصوص الحديث عن المشكل الحدودي للمغرب مع جارته الجنوبية (موريتانيا) التي ظل المغرب يطالب بضمها إلى ترابه إلى حدود 1969، والمحاولات الإفريقية عن طريق المنظمة لحل هذه القضية.

نظرة تاريخية حول نشأة الحدود بين الدول الإفريقية

   يمكن القول أن مسألة الحدود لم تظهر بشكلها الحالي إلا في مراحل متأخرة من العلاقات الدولية، ذلك أن الحدود في العصور القديمة لم تكن مرسومة بدقة، بل كانت القبائل والشعوب المجاورة تتفق فيما بينها على وضع معالم طبيعية لحصر مجالاتها الحدودية وهذه المعالم الطبيعية هي في الغالب أنهار و جبال[4].

وقد ارتبط مصطلح الحدود بظهور الملكية الفردية للأرض، ومن هنا كانت الحاجة إلى إقامة الحواجز المميزة للملكيات المختلفة، فظهور الحدود هو نتاج مرحلة التوافق بين عالمين متباينين، يرغب كل واحد منهما إلى إثبات وجوده وتقوية كيانه عن طريق خلق إطار يضمن له السيادة ويؤمن له مجال الحرية[5].

ومع مرور الزمن وتطور العلاقات الدولية أصبحت مسألة الحدود من أعقد المشاكل السياسية والقانونية التي يعاني منها المجتمع الدولي، نظرا لما تثيره من قضايا خلافية ونزاعات متعددة في علاقات الدول، كما تعد عاملا مهما من عوامل السلم الدولي ومظهرا متميزا من مظاهر الاستقلال السياسي للدول، مما يجعلها أحد أهم المواضيع التي يتم التفاوض بشأنها من طرف الدول المستقلة أو الناشئة، كما تشكل أحد عناصر الاستقرار والأمن وحسن الجوار المقدس، الأمر الذي يجعل المساس بها بمثابة عدوان صارخ و إعلان للحرب[6]، أما من الناحية الجيوسياسية فإنها تؤثر بشكل كبير على مكانة الدول من وجهة نظر استراتيجية.

وما دمنا نتحدث عن القارة الإفريقية التي خضعت للاستعمار الأوربي ردحا من الزمن، فإن للحدود الإفريقية خصوصيات معينة نظرا لظروف نشأتها من جهة وانعكاساتها على علاقات الدول الإفريقية من جهة أخرى.

    أما عن ظروف النشأة، فقد تزامن مع ظهور الكيانات السياسية الجديدة عن طريق مسلسل التقسيم الذي خضعت له المناطق المستعمرة، حيث كان رسم الحدود يعكس في الآن ذاته هذه التجزئة في إطار اقتطاع مجالات النفوذ الاستعمارية، كما يعكس هدف إحداث الكيانات السياسية الجديدة في شكل دول وأوطان صغرى[7].

أما الانعكاسات فتتمثل في حالات النزاع العديدة بسبب الخلافات حول أوضاعها وكثيرا ما أدت هذه الخلافات إلى نزاعات حدودية بين الدول، كل هذه الأمور انعكست بشكل سلبي على كل الجهود التي بذلتها المنظمات الإقليمية والشبه القارية[8]وبالتالي فشلت في تحقيق تنمية اقتصادية واجتماعية واستقرار سياسي بهذه المناطق.

وما دام اهتمامنا قد انصب على مشكل الحدود في المنطقة المغاربية، فلا بأس أن نشير إلى أنه تاريخيا لم تكن مسألة الحدود مطروحة من قبل، حيث أن المنطقة كانت كتلة متماسكة بمكوناتها الجغرافية والبشرية. فحسب الجغرافيين العرب[9] كانت المنطقة الجغرافية التي يطلق عليها لفظ المغرب تمتد من حدود مصر الساحلية إلى حدود الأطلس مرورا بجميع سواحل إفريقيا الشمالية وصولا إلى إسبانيا .

ومع مطلع ق7هـ/ ق13م، ونظرا لضعف  السلطة المركزية سيعرف هذا المجال الجغرافي تغيرا كبيرا، حيث تم اقتسام هذه المنطقة الجغرافية المتكاملة بين ثلاث كيانات شبه مستقلة رغم أنها ظلت وعاء حضاريا وكتلة سوسيولوجية متراصة[10]، ومع الهجوم الخارجي على المنطقة المتمثل في التدخل العثماني ومن بعده التدخل الأوربي، ظهرت مسألة الحدود بشكل رسمي، فقد نتج عن الخلاف بين الإمبراطورية العثمانية والمغرب على وضع خط للحدود يفصل بين مجالي كل منهما. هذا الخط الحدودي هو الأول من نوعه ليس فقط في تاريخ العلاقات بين المغرب والجزائر، وإنما أيضا في العالم العربي بصفة عامة وبإفريقيا كذلك[11].

وانطلاقا من الوضع الذي أصبح عليه المجال في المنطقة المغاربية في هذه الفترة، أكد أحد الدارسين أن كلمة الحدود بمعناها الدولي الراهن كانت هدية الأتراك العثمانيين إلى شعوب الشمال الإفريقي، حينما تدفقت في القرن الثامن عشر على أقطار ليبيا وتونس والجزائر، فاحتلتها جميعا ثم عينت في كل واحد منها مندوبا ساميا يحكم أهلها باسم السلطة المركزية[12].

أما مع مطلع القرن التاسع عشر ونظرا للموقع الاستراتيجي الهام لدول منطقة شمال إفريقيا المتمثل في قربها من البحر الأبيض المتوسط ومحاذاتها لمستعمرات إفريقيا جنوب الصحراء، فإنها كانت هدفا للاستعمار الأوربي الذي عمد إلى خلق خلافات ونزاعات بين المكونات الاجتماعية لبلدان المنطقة، كما عمد إلى توقيع اتفاقيات ومعاهدات وضع بمقتضاها حدودا فاصلة بين الكيانات السياسية، مما أفرز لديها بعد الاستقلال شعورا ذاتيا بالانفصال وزج بها في نزاعات دولية مختلفة.

 وإذا كان هذا الوضع ينطبق على الحدود بين الدول المغاربية خاصة في المنطقة الشرقية (الحدود بين المغرب والجزائر)، فإن الوضع يختلف تمام الاختلاف في الناحية الجنوبية، ذلك أن إسبانيا كان لها دور مهم في التأثير على حدود المنطقة وخاصة بشمال المغرب وجنوبه، حيث ما تزال آثار الاحتلال تنتظر تسويات نهائية إما عن طريق الانسحاب التام من الثغور الشمالية أو تقرير مصير الصحراء المغربية بواسطة استفتاء تشرف على تنظيمه منظمة الأمم المتحدة[13]. وبجنوب المغرب، شكل طلب استقلال موريتانيا وقيامها ككيان سياسي لدى الرأي العام المغربي إشكالا كبيرا، ذلك أن الأوساط السياسية المغربية ظلت تعتبر موريتانيا جزءا لا يتجزأ من التراب المغربي، إلا أن تغير الوضع الدولي المتمثل في الاعتراف بموريتانيا كدولة مستقلة جعلت المغرب يعترف باستقلالها سنة 1969[14]

إن المبدأ الإشكال الذي خيم على العلاقة بين الدول الإفريقية أثناء مؤتمر أديس أبابا هو “مبدأ عدم المساس بالحدود الموروثة عن الاستعمار”، فقد انقسمت الدول الإفريقية حول هذا المبدأ بين مؤيد ومعارض[15]، ويعتبر المغرب البلد الإفريقي الأول الذي عارض هذا المبدأ بشدة إذ عبر عن ذلك بشكل رسمي عبر مقاطعته لأعمال المؤتمر الوزاري وكذلك مؤتمر رؤساء الدول الإفريقية.

فإذا كانت أغلبية الدول الإفريقية قبلت بهذا المبدأ لتفادي العديد من المشاكل التي قد تغرق القارة في فوضى لا متناهية[16]، فهو لم يكن منصفا للمغرب، ذلك أنه ظل ولفترة طويلة يرفض الأخذ بهذه القاعدة فيما يتعلق بحدوده ويعلن تحفظه عليها لكونها تحرمه من حقوقه التاريخية في عدد من المجالات الترابية الشاسعة والضاربة بعضها في عمق الصحراء لتصل إلى حدود السنغال ومالي[17].

المغرب وأطروحة الحق التاريخي

بتاريخ 2 مارس 1956 أكدت الحكومة الفرنسية “علانية اعترافها باستقلال المغرب الذي يقتضي بالأخص دبلوماسية وجيشا كما تؤكد عزمها على أن تحترم وحدة تراب المغرب المضمونة بحكم المعاهدات الدولية وتعمل على احترامها”[18]، وبذلك يكون قد انتهى العمل بمعاهدة الحماية التي فرضت في 30 مارس 1912، وقد كانت مسألة الحدود من بين المسائل الهامة التي تم الحرص عليها أثناء مفاوضات الاستقلال مع فرنسا حيث تم الاتفاق بين الطرفين على تشكيل لجنة مشتركة للوصول إلى حل لهذه المسألة، وكانت حكومة المغرب ترمي بالطبع إلى تعديل الحدود الجنوبية بحيث تتضمن إقليم موريتانيا ولكنها لم تكن قد أعلنت ذلك صراحة[19].

1- المطالب المغربية.

ظهرت الإشارات الأولى لهذه المطالب مع الراحل “علال الفاسي” الذي أكد أن “المغرب يحد جنوبا بالسنغال وشرقا بالجزائر وغربا بالمحيط الأطلسي وشمالا بالأبيض المتوسط، وأن شنقيط وأدرار وإقليم الساورة بما فيها تندوف والقنادسة وتوات والساقية الحمراء ووادي الذهب وسبتة ومليلية والجيوب الصغرى التي تحت يد إسبانيا في الشمال، كل ذلك أجزاء اقتطعها الاستعمار من بلادنا بنفس الأسلوب الذي جزأ به المنطقة الخليفية وطنجة وطرفاية وآيت باعمران ويفني، وأن هذا العمل لا يغير شيئا من حقيقة الواقع المغربي”[20]. ومن تم ارتبطت مسألة أطروحة الحق التاريخي ارتباطا وثيقا بالأفكار السياسية التي كان يدعو إليها زعيم حزب الاستقلال “علال الفاسي” بعد نيل المغرب استقلاله السياسي في النصف الثاني من الخمسينات[21]، حيث اعتبر موريتانيا جزءا لا يتجزأ من التراب المغربي، وظلت هذه الأطروحة إلى أمد غير بعيد، إحدى المبادئ التي تشبت بها الحزب ودعا إلى تحقيقها حتى بعد وفاة زعيمه، كما أن بعض الخطب الرسمية ومواقف كبار المسؤولين المغاربة لم تخل من الإشارة إلى هذه الأطروحة في مناسبات شتى[22].

ورغم الانسجام التام بين مكونات الحقل السياسي المغربي حول ضرورة إيجاد حل سياسي للمشكلة فإنها اختلفت حول السبل المؤدية لذلك بشكل أفضى إلى بروز تيارين[23].

-التيار  الأول: الداعي إلى ضم موريتانيا للتراب المغربي والذي تزعمه كل من الراحلين “محمد الخامس” و”علال الفاسي” وتجسد ذلك بشكل كبير في خطاب العاهل المغربي آنذاك “محمد الخامس” في محاميد الغزلان في 25 فبراير 1958 حيث جاء فيه: “وإنما يسعدنا أن يستقبلنا في قرية المحاميد التي هي باب الصحراء، أبناؤنا الذين استقبلوا جدنا في قرية أخرى من الركيبات وثكنة وأولاد الدليم، وسواها من القبائل الشنقيطية، وأن نستمع إليهم” إلى أن قال: “سنواصل العمل بكل ما في وسعنا لاسترجاع صحرائنا، وكل ما هو ثابت لمملكتنا بحكم التاريخ ورغبات السكان”[24].

-التيار الثاني: وهو الذي لم يكن يرى ضررا في إمكانية الحسم في هذه المسألة من خلال تقرير المصير، وقد عبر بوضوح عن هذا الاتجاه ولي العهد آنذاك “الحسن الثاني” عندما صرح أنه يساند تقرير مصير الموريتانيين[25]، يقول “الحسن الثاني”: “شخصيا لم أكن تماما مع ضم موريتانيا إلى المغرب، وقد قلت ذلك في أول استجواب لي لما شرفني والدي صاحب الجلالة محمد الخامس… وقد طالبت في تصريحي بإجراء استفتاء في موريتانيا وأن يطلب من الموريتانيين: هل يرغبون في أن يصبحوا مغاربة أو يريدون البقاء مستقلين؟”.

من الناحية البشرية، الأكيد أن السكان الموريتانيين هم من نفس أصل السكان الذين استوطنوا المغرب منذ عشرات القرون والمعروفون في التاريخ بقبائل صنهاجة وما تفرع عنها من قبائل لمتونة وجدالة وغيرهما، كما أن انتشار الإسلام بموريتانيا كان على إثر ذيوع الفتح العربي بالمغرب بداية[26].

ومن الناحية التاريخية والدينية، كان المغرب يثير باستمرار موضوع النفوذ السياسي الذي كان يتمتع به السلاطين المغاربة بالمناطق الصحراوية الجنوبية التي كانت تشكل منطلقا ومجالا لانبعاث حكم وسلطة كثير من الأسر الحاكمة المتعاقبة[27].

أما من الناحية السياسية، فالارتباط يتأكد من خلال تدخل “المنصور” السعدي لطرد البرتغال والإسبان من المنطقة، كما تأكد أيضا من خلال إرسال الشرفاء السعديين لقوات سلطانية لدعم أو تولية أمراء الإمارات الموريتانية، كتلك التي وضعت تحت تصرف “علي شنظورة” أمير الترارزة أو بإرسالهم إلى مختلف قبائل المنطقة[28].

ومن الحجج الدالة على الارتباط الموريتاني بالمغرب دور التحكيم الذي مارسه السلاطين العلويون في المنازعات التي كانت تقع بينهم[29]، بل أكثر من ذلك اعتمدت الدبلوماسية المغربية على إدراج بعض الاتفاقات الدولية الخاصة بترسيم الحدود خاصة معاهدة الجزيرة الخضراء لسنة 1906 التي نصت على حدود مراكش الجنوبية التي تمتد حتى نهر السنغال، وكذلك الاتفاق الألماني الفرنسي لسنة 1911 الذي نص على أن المغرب يشمل جزءا من إفريقيا الشمالية الممتد بين إفريقيا الغربية الفرنسية وريو دي أورو (وادي الذهب) المستعمر من طرف إسبانيا[30]. هذه الحجج السالفة الذكر التي اعتمدت عليها الدبلوماسية المغربية، تمثل وجهة نظر مغربية لتأكيد تبعية التراب الموريتاني للمغرب.

 2- الموقف الموريتاني من المطالب المغربية.

ردا على الدعاوي المغربية أصدرت وزارة الخارجية في موريتانيا “الكتاب الأخضر” تحت عنوان “جمهورية موريتانيا الإسلامية والمملكة المغربية” حيث ضمنته الردود الموريتانية على الحجج المغربية.

على مستوى السيادة: يرى الموريتانيون أن بلدهم لم يعرف (منذ القدم) خضوعا لأي سلطة خارجية مغربية، فالمغرب عرف تاريخيا بمراكش، بينما عرفت موريتانيا بشنقيط[31] ودولة المرابطين التي يحتج بها المغاربة والتي ضمت بالإضافة إلى الأندلس مناطق المغرب العربي، قد انطلقت من موريتانيا فكان منطقيا أن تطالب موريتانيا بالمغرب لا أن يطالب المغرب بموريتانيا، وهذا ما عبر عنه أحد المسئولين الموريتانيين حينما صرح بالإذاعة الفرنسية مفنذا أطروحات “علال الفاسي” بما نصه “إن موريتانيا هي التي يجب أن تطالب بالمغرب لا العكس، فلو كانت حدود الدول ثابتة لأمكن لموريتانيا المطالبة بتوسيع الخريطة المرابطية ولكن نظرا لاقتناع الموريتانيين بأن المطالبة بهذه الأراضي مهزلة. فالعصر أصبح عصر تحرر لكل شعب يملك مقومات السيادة والاستقلال ولم يعد عصر إمبراطورات”[32]، ويضيف الموقف الموريتاني أن الاستشهاد بدولة المرابطين أمر لا يصح وهو حجة لموريتانيا وليس حجة عليها كما يرى أحد الدارسين “أن مزاعم المغرب الحالية… لا تقل مدعاة للسخرية عن ما يمكن مثلا أن تقوم به بريطانيا اليوم من ادعاء على فرنسا بحجة أن باريس جزءا من فرنسا كان زمن “جان دارك” تحت الاحتلال الانجليزي”[33].

عن الاستشهاد المغربي بدولة المرابطين وفي نفس الإتجاه دائما، يضيف الموقف الموريتاني “لو شاءت موريتانيا أن تطبع على غرار المغرب، وتضع خريطة التوسع المرابطي لتبني عليها حق المطالبة بمناطق أخرى لكان بوسعها عندئذ أن تطالب بالسنغال والسودان وغانا وإسبانيا والمغرب، ولا فرق بين الحجج الاقتصادية والحجج الدينية، والاحتجاج بالمرابطين الذي يلجأ إليه المغاربة اليوم، فاستخدامه في الاتجاه موريتانيا- المغرب أولى منه في الاتجاه المعاكس”[34].

وحول مساعدة السلطان المغربي للشيخ “ماء العينين”، كان الرد الموريتاني أنه تدخل في إطار مد يد المساعدة من طرف المغاربة للشيخ “ماء العينين” لدفع خطر يواجهانه معا ألا وهو الخطر الفرنسي[35].

ومن الناحية البشرية، لا ينكر الرد الموريتاني “أن هناك ارتباطا كبيرا بين الشعب الموريتاني والمغربي على المستويين الاجتماعي والثقافي، لكنهم يرون أن الدوائر المغربية قد وظفت أكثر من اللازم في حملتها التي استهدفت الاعتراف الدولي بموريتانيا  أو ما عرف تاريخيا “بالمسألة الموريتانية بالمحافل الدولية”[36].

   وهكذا، حسب الموقف الموريتاني كانت الدعاوي المغربية بشأن موريتانيا تقوم على دعامتين، بعد تاريخي وآخر وثائقي. فالبنسبة للبعد التاريخي اعتمدت المؤسسة السياسية المغربية على ما كتبه الشيخ “ماء العينين” حينما ذهب إلى تهنئة جلالة الملك لدى عودته من المنفى سنة 1956، حيث شكل مادة دسمة لزعيم الاستقلال الراحل “علال الفاسي” الذي نشره عام 1957 ليكون أول مطبوعات مجلة “صحراء المغرب” التي أصدرها الزعيم الفاسي في مارس من نفس العام، واتخذ لها شعار “الدفاع عن حدود المغرب الطبيعية والتاريخية”[37].

    أما من الناحية الوثائقية التي استند إليها المغرب في دعواه، نشرها “علال الفاسي” تباعا في أعداد الأسبوعية لمجلة(صحراء المغرب)تحت عنوان “الحدود المغربية”، ولا تتضمن أيا من هذه الوثائق تصريحا يفيد بعائدية المنطقة الموريتانية للمغرب[38].

هذا الحكم راجع لكون “علال الفاسي” في كثير من الأحيان، ولتأكيد أطروحته اعتمد على اجتهادات وتفسيرات تشير إلى عائدية موريتانيا للمغرب، كما أن العديد من المعاهدات الدولية التي عقدتها حكومة المخزن خلال القرنيين الثامن عشر والتاسع عشر تؤكد على أن الحدود الجنوبية تمتد بين جبل إفني وواد نون”[39]. إضافة إلى ذلك، فإن المعاهدات والمواثيق التي عقدها أمراء موريتانيا العرب كأمراء الترارزة والبراكنة وأدرار خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر مع ممثلي الدول الأوربية تؤكد في مجموعها سيادة هؤلاء الأمراء الكاملة على إمارتهم، إذ لم يرد في مضمون أي معاهدة منها ذكر أو إشارة إلى سلطان المغرب[40]. وهكذا حسب الرد الموريتاني، فالمطالب المغربية بضم موريتانيا كان ينقصها الأساس التاريخي والوثائقي القانوني[41].

ورغم كل المحاولات المغربية حصلت موريتانيا على استقلالها في إطار المجموعة الفرنسية في 28 نونبر 1958 وفي 17 يونيو من سنة 1959 أجريت انتخابات أسفرت عن رئاسة “ولد دادا” لمجلس الوزراء في 23 يونيو 1959[42]، ومن أجل إبعاد المطامح المغربية خاضت موريتانيا معركة سياسية ضد المغرب طيلة الستينات، ارتكزت خلالها على ثلاث محاور: محور التحالف مع الجزائر[43]، محور الحق التاريخي لموريتانيا في الصحراء الغربية المغربية، ومحور المطالبة بقيام دولة صحراوية مستقلة عن المغرب وموريتانيا تفصلهما عن بعضهما جغرافيا وتبعد بالتالي الخطر المغربي المباشر، وتنهي تعقيدات الحدود المشتركة إضافة إلى توجيه هموم المغرب نحو الدولة الجديدة.

خلاصة واستنتاجات:

خلاصة القول إذن، إلى أي مدى تبقى هاتان الأطروحتان معا صحيحتين؟ فمن الناحية القانونية، يظهر أن الأسس التي اعتمدها المغرب تعد من الضعف حيث أفقدها القوة على الصمود والدفاع، مما اضطر المغرب إلى التراجع عنها في الأخير جزئيا (موريتانيا وبعض المناطق الجنوبية الشرقية) بحيث ظل التأكيد على هذه الحقوق فيما يتعلق بمطالبه القاضية باسترجاع الصحراء المستعمرة الاسبانية السابقة في السبعينات إلى اليوم[44].

أما من حيث مفهوم الحق التاريخي المبني على قاعدة الانتماء الديني ضعيف أمام أحكام القانون الدولي الوضعي، خصوصا أن مظاهر هذه السيادة كانت قد انقطعت لفترات في بعض هذه المناطق كما هو الشأن بالنسبة لموريتانيا التي ظلت علاقتها بالحكام المغاربة منذ 1740 علاقة رمزية لا تتعدى أحيانا تقديم الهدايا أو تقديم الدعم[45]، وازداد الأمر صعوبة بالنسبة للمغرب لإثبات مغربية موريتانيا عندما أعلنت فرنسا عن استقلال موريتانيا في 28 نونبر 1960 مما دفع الدبلوماسية المغربية إلى نهج أسلوب آخر للدفاع عن أطروحته، يمكننا أن نجمله في ثلاث تحركات أساسية.

فبمجرد الإعلان عن الاستقلال سعت الدبلوماسية المغربية إلى مواجهة هذا الأمر الواقع من خلال التركيز على طرح مفاده أن المسألة الموريتانية هي إحدى تجليات تصفية الاستعمار، ومن ثم فهي تتطلب مساندة الدول التواقة إلى الحرية والانعتاق[46]، بل أكثر من ذلك نجد أن المغرب سينخرط في توجه غير توجهه لدعم تصوره، حينما كثف من توجهه التقدمي لاستمالة المعسكر التقدمي لأطروحته كمناهض للاستعمار في إفريقيا والعالم العربي، وقد تجلى في رفضه الانضمام إلى أي حلف من الأحلاف العسكرية وتصفية القواعد العسكرية الفرنسية في المغرب، ومناهضة التجارب النووية في صحراء الركان[47] .

وللمزيد من كسب التأييد الإفريقي والدولي، لم تتورع الرباط عن إرسال تجريدة عسكرية إلى الكونغو حيث كان الجنرال “الكتاني” نائبا لرئيس القوات الأممية المساندة للحكومة الشرعية بزعامة “باتريس لومومبا” ضد منشقي كاتونغا[48] هادفا –المغرب- من وراء ذلك الظهور بمظهر الدولة المناهضة للاستعمار والمعادية للقوى الاستعمارية في إفريقيا، كما كانت رسالة مضمرة لتشبيه المسألة الكنغولية بالقضية الموريتانية[49].

وعلاوة على هذا وذاك، ونظرا للصراع الإيديولوجي الذي عرفته القارة في بداية الستينات، ومن أجل سحب البساط من مجموعة برازافيل المعتدلة التي كانت تساند استقلال موريتانيا عن المغرب، ساهم  المشهد السياسي المغربي في إبراز كتلة الدار البيضاء التي ضمت دولا معادية للإمبريالية، عقدت أول مؤتمر لها في البيضاء المغربية من 4 إلى 7 يناير 1961[50].

وكان من نتائج تحركات الدبلوماسية المغربية على صعيد المجموعة الإفريقية التقدمية حصولها على التأييد الكامل للمطالب الترابية بموريتانيا، حيث أصدرت المجموعة قرارا يندد علانية بأنواع الاستغلال الاقتصادي والسياسي والعسكري لإفريقيا، كما يؤكد المؤتمر كل عمل يقوم به المغرب في موريتانيا لاسترجاع حقوقه المشروعة فيها[51]، واستطاعت الدبلوماسية المغربية الحصول على التأييد الكامل على الصعيد العربي حيث ساند مجلس الجامعة العربية الذي انعقد في لبنان (شنتورة) في الثاني والعشرين (22) من غشت سنة 1960 مطالب المغرب في هذا الشأن[52].

تحركات الدبلوماسية المغربية سواء على المستوى القاري أو العربي أو الدولي لم تفلح في تغليب أطروحة الانتماء الموريتاني للتراب المغربي، حيث استطاعت موريتانيا اكتساب العضوية في الأمم المتحدة، مكرسة بذلك استقلالها[53]، وللإشارة فإن قبول موريتانيا بالأمم المتحدة لم يتم بشكل نهائي إلا بعدما قبلت الولايات المتحدة عضوية دولة منغوليا بالأمم المتحدة، حيث أن الاتحاد السوفياتي رفض قبول موريتانيا بالأمم المتحدة واستخدم حق “الفيتو” على قبول دولة منغوليا الشعبية، واعتبر المغرب عدم قبول موريتانيا في المنظمة الدولية انتصارا لقضيته، لكن موافقة الولايات المتحدة الأمريكية على قبول منغوليا بالأمم المتحدة دفع بالاتحاد السوفياتي لسحب اعتراضه على قبول موريتانيا[54].

وأمام التغيرات التي عرفتها الساحة السياسية الداخلية والخارجية، تآكل الموقف المغربي تدريجيا، وكما سبقت الإشارة إلى ذلك، تقاسمه رأيان مما يعني غياب الإجماع السياسي المغربي وسيتأكد الطرح المنافي لعملية الضم بعد وفاة الملك “محمد الخامس” واعتلاء العرش من طرف “الحسن الثاني” الذي كان يناصر تقرير مصير الشعب الموريتاني.

نتائج هذه المستجدات ستنتهي بتطبيع العلاقات المغربية الموريتانية، ظهر ذلك في إلغاء الوزارة المكلفة بالشؤون الموريتانية والصحراوية في 13 نونبر 1963 وعودة مجموعة من المنشقين الموريتانيين إلى بلادهم.

من العوامل الأساسية أيضا التي ساهمت بشكل كبير في تراجع الطموح المغربي، عدم وضوح الملف المغربي وعدم سلامة الحجج التي كان يستند إليها وتأرجحها بين تصفية الاستعمار، وهو الأمر الذي استندت إليه موريتانيا وأنصارها، وبين استكمال الوحدة الترابية، الأمر الذي لم يكن يجد مناصرين حتى بين الدول القريبة، كما هو الأمر بالنسبة لتونس التي اعتبرت هذا المطلب بمثابة نزعة توسعية[55].

إضافة إلى كون الدول الإفريقية والثورية بالخصوص غيرت من مواقفها اتجاه القضية الموريتانية، ذلك أن “نكروما” غانا لم يجد حرجا في إعلان اعتراف حكومة بلاده باستقلال موريتانيا عشية حلوله بالبيضاء[56] وكذلك مالي ممثلة في رئيس وزرائها “موديبو كايتا” الذي لم يكن يحبذ قط فكرة اندماج موريتانيا في المغرب[57].

وأخيرا وأثناء اعتراف المجتمع الدولي بموريتانيا كدولة مستقلة، لم تجد دول مجموعة البيضاء بدا من الاعتراف بالجمهورية الإسلامية الموريتانية، لتفقد بذلك الدبلوماسية المغربية آخر أوراقها[58].

هذه الأحداث المتسارعة حول القضية الموريتانية من طرف المجتمع الدولي والدول الإفريقية كانت خواتم سنة 1962، ومع حلول سنة 1963 سنة انعقاد المؤتمر التأسيسي لمنظمة الوحدة الافريقية ستظهر مستجدات أخرى حول هذه القضية.

القضية الموريتانية أثناء وبعد تأسيس المنظمة

 1- القضية الموريتانية أثناء انعقاد المؤتمر:

نشأت منظمة الوحدة الإفريقية نتيجة التقارب الذي حصل بين المجموعات المتعارضة المعتدلة والثورية في إفريقيا، لكن دون أن يمنع هذا التقارب من حدوث بعض الأحداث الطارئة والاستثنائية التي عبر عنها “موديبو كايتا” رئيس مالي بقوله: “لا يمكن للمغرب أن يكون خارج إفريقيا لأنه جزء لا يتجزأ منها“، لكن تمة أحداث طارئة منعت “الحسن الثاني” من حضور قمة أديس أبابا.

غياب المغرب هذا جاء نتيجة حضور الوفد الموريتاني بالمؤتمر التأسيسي، ونظرا لآمال جل رؤساء الدول الإفريقية آنذاك في إحداث منتظم  إفريقي شامل يعبر عن الوحدة والتضامن الإفريقي، حاولت الدول الإفريقية التدخل بكل الوسائل للحيلولة دون فشل القمة الإفريقية، لكن المغرب رفض أي تدخل في الموضوع من جانب الزعماء الأفارقة لحملها على تليين موقفها[59]، وقد عبر المغرب عن موقفه أمام هذا الحادث عبر العديد من الجهات المسؤولة، وفي هذا الصدد ندرج تصريح وزير الإعلام المغربي “لقد كانت القضية الموريتانية سببا في تخلف الرباط عن عدد من اللقاءات الإفريقية كما أنها ثبطت جهوده في خلق الوحدة القارية”[60]. وفي نفس السياق يأتي تعبير مدير الديوان الملكي “إنه بالرغم من لين موقف الحكومة المغربية من القضية الموريتانية إلا أن جلالته يعتبر حضوره إلى حدث تأسيس المنظمة الإفريقية إلى جانب ولد دادة أمرا سابقا لأوانه[61]، وعلاوة على ذلك عبر بيان البعثة المغربية إلى أديس أبابا عن عدم حضور أشغال القمة التأسيسية لمنظمة الوحدة الإفريقية الراجع إلى موقف المغرب من القضية الموريتانية[62].

وإذا كان المغرب قد عبر عن ردة فعله اتجاه القضية الموريتانية بعدم حضور المؤتمر وعلى أعلى مستوى، فإن الجانب الموريتاني استغل هذه المناسبة الإفريقية الهامة لتطعيم الاستقلال وتأكيد اعتراف المجتمع الدولي، حيث اعتبرت –موريتانيا- دعوتها وحضورها إلى قمة أديس أبابا التأسيسية دعما دوليا  متجددا لاستقلالها[63].

ورغم عدم التزام الدول الإفريقية العضوة في مجموعة الدار البيضاء بمساندة المغرب في مطالبه الترابية حول موريتانيا ورغم الاعتبارات الجغرافية والتاريخية التي تربط بين المغرب ومحيطه الإفريقي، لم تعكس السياسة المغربية ذلك بتناغم كبير[64]، فقد عرفت العلاقات المغربية الإفريقية منعرجات عديدة عكست إلى حد كبير نظرة القارة السوداء لقضايا المغرب خاصة الترابية منها، كما عكست أيضا وجهة نظر المغرب اتجاه الأقطار الإفريقية.

إن اختلاف وجهات النظر بين الطرفين وصلت إلى حد اتهام المغرب بالسعي نحو التوسع وتعقيد مشاكل القارة[65]، مما فرض عليه -أي المغرب- نهج سياسة الكرسي الفارغ التي أصبحت الموجه الأساسي لسياسته الخارجية اتجاه القارة السمراء،  إلا أن الدبلوماسية المغربية خاصة في السنوات الأخيرة حاولت إعادة تحديد أهدافها من خلال إنماء العلاقات الثنائية والمساهمة في بعض التجمعات الإفريقية خارج منظمة الوحدة الإفريقية[66].

 2- موقف المغرب من القضية الموريتانية بعد التأسيس:

من المستجدات الهامة التي ظهرت بعد تأسيس منظمة الوحدة الإفريقية والتي كانت تنبئ بقرب انتهاء المسألة الموريتانية، لين الرباط اتجاه مطالبه الترابية، هذه التطورات تمثلت في ثلاث نقط أساسية:

1- الزيارة الحسنية للسنغال في مارس 1964 والتي صرح أثناءها العاهل المغربي بقوله: “إن عهد الفتوحات قد ولى ابتداء من اللحظة التي يختار فيها كل شعب النظام الذي يرضاه لنفسه، إن احترام إرادة الشعوب واجب ملح على كل الأعضاء في العائلة الإفريقية” ويواصل “الحسن الثاني” كلامه بقوله: “لا خيار أمامنا إلا الاتحاد والوحدة وأن التدخل في الشؤون الداخلية للدول هو أكبر خطر يهدد قارتنا”[67].

تصريح تأكيدي لقرب انتهاء الأزمة الموريتانية دلت عليه العبارات التي استعملها العاهل المغربي: كاختيار النظام واحترام إرادة الشعوب وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، وهذه العبارات كلها نجدها مثبتة كمبادئ أساسية بميثاق منظمة الوحدة الإفريقية في إطار تحديد العلاقة بين الدول الإفريقية.

2- التطور الثاني ظهر على المستوى الإفريقي، وتمثل في الحضور الرسمي “للحسن الثاني” لمؤتمر القمة الثاني لمنظمة الوحدة الإفريقية بالقاهرة ما بين 17 و 21 يوليو من السنة 1964 إلى جانب “المختار ولد دادا” رئيس الجمهورية الإسلامية الموريتانية[68].

بوادر التطبيع لم تظهر فقط في جلوس “الحسن الثاني” إلى جانب “ولد دادا” في قمة تجمع العديد من رؤساء الدول الإفريقية، بل من خلال اللقاء الذي تم بين وزيري إعلام الدولتين واللذان أكدا وقف الحملات الإعلامية ضد بعضهما البعض[69].

3- التطور الثالث ظهر على مستوى وساطة الدول الإفريقية، وعلى رأسها دولتي تونس والسنغال اللتان عرضتا عقد قمة إفريقية رباعية لرؤساء هذه الدول الإفريقية، لكن هذه القمة لم يكتب لها النجاح نظرا لتدخل  بعض الدول  الإفريقية التي كانت غير مرتاحة لضم موريتانيا للتراب المغربي.

كل هذه المستجدات والتطورات، جعلت الرباط تغير موقفها اتجاه موريتانيا، حيث عبرت عن قبول وساطة الدول الإفريقية السالفة الذكر من أجل إنهاء النزاع بين البلدين، موقف ترجمه المغرب من خلال الإجراءات الداخلية التي تمثلت في التعديل الحكومي الذي ألغت من خلاله الرباط المكتب المكلف بقضيتي الصحراء وموريتانيا تماما، كما أعفت الأمير “فال ولد عمير” ذي الأصول الموريتانية من مهامه الحكومية[70].

إن الفترة الممتدة ما بين 1967 و 1969 كانت كافية لتليين موقف الرباط اتجاه موريتانيا، حيث توجت كل المبادرات السالفة الذكر بالاعتراف الرسمي للمملكة المغربية بالنظام الموريتاني سنة 1969. هذا الاعتراف شكل منعطفا تاريخيا خطيرا في تاريخ العلاقات المغربية الإفريقية، وهذا ما خلص إليه أحد الباحثين في السياسة الخارجية المغربية إذ يذكر أنه بعد إنشاء منظمة الوحدة الإفريقية، وقبول المغرب باستقلال موريتانيا كحدث لا رجعة فيه قامت الحكومة المغربية بتغيير توجهاتها في السياسة الإفريقية منذ أواسط الستينات، فعوضت تحالفها مع “إفريقيا التقدمية” بتمتين علاقاتها مع الدول الفرنكوفونية المعتدلة وخاصة السنغال وساحل العاج[71]، وهكذا- يواصل الباحث كلامه- وجد المغرب الذي لم يحصل على دعم كاف في مطالبه بموريتانيا نفسه من جديد دون دعم من القارة الإفريقية في نزاع الصحراء المغربية[72].

ـــــــــــــــــــ

الهوامش:

[1] – المغرب نموذجا الذي رفض الالتزام بهذا المبدأ لأنه كان يرى أنه خضع لأشكال عديدة من الاستعمار في شماله وجنوبه وشرقه وأيضا منطقة دولية في طنجة.

[2] – جامعة الدول العربية التي لم تكن تتوفر على جهاز قضائي متخصص.

[3] – P. F. Gonidec, l’OUA 30 ans après l’unité Africaine, Editions Karthala 1993, p : 112.

[4] – محمد المجذوب، المملكة المورية و حدودها في المغرب القديم، منشورات كلية الآداب و العلوم الإنسانية، المحمدية،  سلسلة الندوات رقم 6، 1999، ص: 7.

[5] – سعيد البوزيدي، مؤسسة الحدود الرومانية بموريتانيا الغربية و دورها في تنظيم المجال والتحكم في الإنسان، كلية الآداب و العلوم الإنسانية سايس فاس، العدد5، 2001،ص: 2.

[6] – محمد رضوان، منازعات الحدود في العالم العربي، إفريقيا الشرق، ط 1، بيروت، 1999، ص: 5.

[7] – نفسه.

[8] – كالجامعة العربة ومنظمة الوحدة الإفريقية.

[9] – أنظر على سبيل المثال: أبو الفدا، تقويم البلدان، وأبو عبيد البكري، المغرب في ذكر بلاد إفريقيا والمغرب، وابن عبد الحكم، فتوح إفريقيا والأندلس.

[10] – Abdellatif Agnouch, Histoire politique du Maroc, éd. Afrique orient, Casablanca, 1987, p : 140.

[11] – Abdallah Laroui, les origines sociales et culturelles du nationalisme marocain (1830-1912), F Maspero, paris, 1977, p : 50.

[12] – عبد الله إبراهيم، صمود وسط الإعصار محاولة لتفسير تاريخ المغرب الكبير، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء،  ط2، 1976، ص: 36.

[13] – محمد رضوان، ن.م.س.ص: 41.

[14] – كان ذلك خلال المؤتمر التأسيسي لمنظمة المؤتمر الإسلامي الذي انعقد بالرباط.

[15] – E. Djouve,  l’O.U.A, presse universitaires de France, Paris, 1984, p : 109-110.

[16] – أنظر جريدة:

Le monde, 50 année, N°15331, le 13 mai 1994, p: 2.                                        

[17] – Michel Foucher, Fronts et frontières un tour du monde géopolitique, Fayard, 1970, p :181-183.

– محمد رضوان، منازعات الحدود، ن.م.س. هامش (1)، ص: 94.

[18] – انظر التصريح المشترك ب:

الصديق بن العربي، كتاب المغرب، مطبعة الأمنية، ط2، الرباط 1956.

[19] – محمد سعيد بن أحمد، موريتانيا وجامعة الدول العربية، د.د.ع.م، القاهرة 1993، ص : 31.

[20] – علال الفاسي، دفاعا عن وحدة البلاد، بدون تاريخ، ص : 3.

[21] – الحسن بوقنطار، السياسة الخارجية المغربية، الفاعلون والتفاعلات، ط 2002، ص : 79.

[22] – Mohamed Lamouri, le contentieux relatif aux frontières terrestres du Maroc, Thèse du 3ème cycle en droit public, Nancy II, 1977, p : 99.

[23] – الحسن بوقنطار، ن.م.س.ص: 79.

[24] – أنظر النص الكامل في:

 انبعاث أمة، الجزء الثالث، 1957-1958، مطبوعات القصر الملكي، ص: 149-150.

[25] – عبد القادر لعرج، السياسة المغربية في المحيط المغاربي، د.د.ع.م، كلية الحقوق الرباط 1995، ص: 28-29.

[26] – عادل رائيس، الدبلوماسية المغربية في تدبير المسألة الموريتانية، د.د.ع. في القانون العام، جامعة محمد الخامس، الرباط، 2001، ص: 14.

[27] – Abedellatif Agnouch, op, cit, p : 145.

[28] – عادل رائيس، ن.م.س.ص: 15. اسلم ولد محمد الهادي، موريتانيا عبر العصور، طبعة الأطلس، دون تاريخ، ص: 166.

[29] – على سبيل المثال النزاع الذي تدخل لفضه المولى إسماعيل، بين علي شنظورة وأولاد رزق.

[30]– أنظر اسلم ولد محمد الهادي، ن.م.س.

– Mohamed Lamouri, op, cit p : 112-113.

[31] – المختار ولد دادا، مقال منشور بجريدة:

Jeune Afrique, N° 139, du 17-23 juin, 1963.

[32]– جمهورية موريتانيا الإسلامية والمملكة المغربية (الكتاب الأخضر الموريتاني)،  د.ت. ص: 32.

[33]– هذا النص مذكور عند:  محمد سعيد بن أحمد، ن.م.س.ص: 38.

[34] – نفسه.

[35]– اسلم ولد محمد الهادي، ن.م.س.ص: 168.

[36]– نفسه.

[37] – محمد سعيد بن أحمد، ن.م.س.ص: 37.

[38] – محمد سعيد بن أحمد، ن.م.س.ص: 38.

[39]– نفسه.

[40]– محمد سعيد بن أحمد، ن.م.س، ص: 39.

[41]– أحمد محفوظ مناه، ميراث ” السيبة”، نواكشوط، 1994، ص: 120-122.

[42] – اسلم ولد محمد الهادي، ن.م.س.ص: 176.

[43] – أحمد محفوظ مناه، ن.م.س.ص: 123.

[44]– Mohamed Lamouri, op, cit.p :110-111.

[45] – أحمد ولد لحسن، موريتانيا والمغرب العربي، صراع الوصل والفصل، مجلة المستقبل العربي، س: 15، عدد 159، مايو 1992، ص: 22.

[46]– الحسن بوقنطار، ن.م.س، ص: 80-81.

[47]– نفسه، ص: 81.

[48]– لارامندي، ن.م.س، هامش (32)، ص: 159.

[49] – أشرف هلالي، ن.م.س.ص: 84.

[50]– العربي بنرمضان، ميثاق منظمة الوحدة الإفريقية بين التنظير والتطبيق، (دراسة تاريخية)، د.د.ع.م، كلية الآداب سايس-فاس، 2005-2006، ص: 52.  

[51] – وزارة الخارجية، مؤتمر رؤساء الدول الإفريقية، ن.م.س.ص: 37.

[52]– محمد سعيد بن أحمد، ن.م.س.ص: 40.

[53] – حصلت موريتانيا على العضوية بالأمم المتحدة، بناء على توصية من الجمعية العامة بتاريخ 28/10/1961.

[54]– محمد سعيد بن أحمد، ن.م.س.ص: 36.

[55] – الحسن بوقنطار، ن.م.س.ص: 82.

[56]– أنظر جريدة:

 Le Monde,  29 décembre, 1960.                                                                       

[57] – Mohamed Elmanssauri,  le Maroc et l’organisation de l’unité africaine, 1963/1973, Mémoire des études supérieures, Paris 1, Panthéon, Sorbonne, 1974, p : 63.

[58]– Hassan Aourid, Contributions de la coopération Maroco-africaine, Mémoire des études supérieures, université Mohamed V, Rabat 1992, p : 60.

[59] – عادل رائيس، ن.م.س.ص: 94.  

[60] -Med Bouzidi, le Marco et l’Afrique subsaharienne, in le Maroc et l’Afrique Subsaharienne, Paris, C.N.R.S 1980, p: 9.

[61]– أنظر جريدة:

Le Monde, 15 Mai, 1963.

[62]– La vigie marocaine, 19 Mai, 1963.

[63]– Botros Ghali, les difficultés institutionnelles du panafricanisme, institut des  hautes études internationales, Genève, 1971, p: 37.

[64] – الحسن بوقنطار، ن.م.س. ص: 193.

[65] – تونس على سبيل المثال أنظر:

Raoul Weexteen, l’O.U.A et la question saharienne in Annuaire de l’Afrique du nord, Editions C.N.R.S, Paris 1979, p : 217.

[66] – الحسن بوقنطار، ن.م.س.ص: 194.

[67]– أنظر جريدة:

 Le Monde de 28 Mars 1964.     

[68] – د. شوقي الجمل، ن.م.س. ص: 72 وما بعدها.

[69] – عادل رائيس، ن.م.س. ص: 94.

[70] – Hammad Zouitni, le Maroc dans les organisations régionales politiques : L.E.A/O.U.A/ O.C.I, thèse de doctorat d’état en droit, Paris 196, p : 317.

[71] – ميغيل هيرناندو، ن.م.س. ص: 154.

[72] – نفسه.

المصادر والمراجع المعتمدة:

-بالعربية:

1– علال الفاسي، دفاعا عن وحدة البلاد، بدون تاريخ.

2– جمهورية موريتانيا الإسلامية والمملكة المغربية (الكتاب الأخضر الموريتاني دون تاريخ).

3– اسلم ولد محمد الهادي، موريتانيا عبر العصور، مطبعة الأندلس، دون تاريخ.

4– الحسن بوقنطار، السياسة الخارجية للمغرب، الفاعلون والتفاعلات، طبعة 2002.

5– الصديق بن العربي،  كتاب المغرب، مطبعة الأمنية، الرباط، ط 2، 1956.

6– عبد الله إبراهيم، صمود وسط الإعصار، محاولة لتفسير تاريخ المغرب الكبير، مطبعة النجاح الجديدة، البيضاء، ط2، 1976.

7– محمد رضوان، منازعات الحدود في العالم العربي، إفريقيا الشرق، بيروت، الطبعة الأولى، 1999.

8– ميغيل هيرناندو دي لارامندي، السياسة الخارجية للمغرب، سلسلة ضفاف (9)، منشورات الزمن، ط.1، 2005.

الرسائل والأطروحات:

1– أحمد محفوظ مناه، ميراث السيبة دراسة في تاريخ الثقافة السياسية ببلاد شنقيط، موريتانيا، انواكشوط، 1994.

2– أحمد ولد لحسن، موريتانيا والمغرب العربي، صراع الوصل والفصل، مجلة المستقبل العربي، س: 15، عدد 159، مايو 1992.

3– أشرف هلالي، المغرب ومنظمة الوحدة الإفريقية، دبلوم الدراسات العليا في التاريخ، كلية الآداب والعلوم الإنسانية سايس فاس، 2005-2006.

4– عادل رائيس، الدبلوماسية المغربية في تدبير المسألة الموريتانية، دبلوم الدراسات العليا في القانون العام، جامعة محمد الخامس، الرباط، 2001.

5– عبد القادر لعرج، السياسة المغربية في المحيط المغربي، دبلوم الدراسات العليا المعمقة في القانون العام، كلية الحقوق، الرباط، 1995.

6– محمد سعيد بن أحمد، موريتانيا وجامعة الدول العربية، دبلوم الدراسات العليا في العلوم السياسية، القاهرة، 1993.

 7– محمد المجذوب، المملكة المورية و حدودها في المغرب القديم، منشورات كلية الآداب و العلوم الإنسانية، المحمدية،  سلسلة الندوات رقم 6، 1999.

8– سعيد البوزيدي، مؤسسة الحدود الرومانية بموريتانيا الغربية و دورها في تنظيم المجال والتحكم في الإنسان، مجلة كلية الآداب و العلوم الإنسانية سايس فاس، العدد5، 2001 .

-بالفرنسية:

1-Abdellatif Agnouche, Histoire politique du Maroc, éd. Afrique orient, Casa Blanca, 1987.

2-Abdallah Laroui, les Origines sociales et culturelles du nationalisme Marocain (1830/1912) Maspero, Paris 1977.

3-B.Botros Ghali, les difficultés institutionnelles du panafricanisme, institut des hautes études internationales, Genève, 1971.

4-Edmond Djouve , l’O.U.A, presse universitaires de France, Paris, 1984.

5-P.F. Gonidec, l’O.U.A 30 ans après, Editions KARTHALA 1993.

6-Raoul Weexteen, l’O.U.A et la question saharienne in Annuaire de l’Afrique du nord, Editions C.N.R.S, Paris 1979.

Mémoires et Thèses :

1-Ahmed Mjad, l’Etat des travaux portant sur la révision de la charte d’Addis Abiba, Mémoire d’études supérieures sciences politiques, université Mohamed V, 1985.

2-Hammade Zouitni , le Maroc dans les organisations régionales politiques : L.E.A/O.U.A/O.C.I/  thèse de doctorat d’état en droit public, Casa Blanca, 1998.

3-Mohamed EL Manssouri, le contentieux relatif aux frontières terrestres du Maroc. Thèse de 3eme cycle en droit PUBLIC, Nancy II, 1977.

LES REVUES:

1– Mohamed EL Bouzidi, le Maroc et l’Afrique sub-saharienne, in le Maghreb et l’Afrique Subsaharienne, Paris, C.N.R.S, 1980.

LES JOURNAUX 

1– Jeune Afrique, N° 139, du 17- 23, 1963.

2-La vigie Marocaine du 16 Mai 1963.

4-Le Monde du 29 décembre 1960

5-Le Monde du 15 Mai 1963.

ظهرت المقالة المغرب وموريتانيا: من أطروحة الحق التاريخي إلى الاعتراف بالاستقلال أولاً على الأفارقة للدراسات والاستشارات.

]]>
https://alafarika.org/ar/4435/%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%ba%d8%b1%d8%a8-%d9%88%d9%85%d9%88%d8%b1%d9%8a%d8%aa%d8%a7%d9%86%d9%8a%d8%a7-%d9%85%d9%86-%d8%a3%d8%b7%d8%b1%d9%88%d8%ad%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%ad%d9%82-%d8%a7%d9%84%d8%aa%d8%a7/feed/ 0 4435