انتقلت النقاشات منذ الشهرين الماضيين حول أزمة وباء كورونا المستجد (كوفيد-19) إلى مرحلة جديدة تتمثّل في كيفية توزيع اللقاحات المعتمَدة ضد الفيروس، وسعي مختلف الدول نحو تأمين حصتها, وخاصةً بعدما طرحت المملكة المتحدة أُولى هذه اللقاحات في العالم في الأسبوع الماضي، وأظهرت تجاربها السريرية نتائج واعدة.
وإذا كان فيروس كورونا لا يزال يجتاح العالم؛ حيث تُعتبر الولايات المتحدة الأمريكية والهند والبرازيل وروسيا من بين الدول الأكثر تعرُّضًا لإصاباته, فما زالت الحياة في معظم الدول الإفريقية على طبيعتها.
بل ومن الغرابة أن الولايات المتحدة الأمريكية التي تعاني أكثر الإصابات لا تزال تُحذِّر رعاياها من السفر إلى دول إفريقية مثل كينيا؛ بدعوى كثرة الإصابات فيها!, على الرغم من أن عدد الإصابات والوفيات في أمريكا وصل 16,583,753 و305,345 على التوالي, بينما وصل عدد الإصابات والوفيات في كينيا 91,892 و1,587 على التوالي (بتاريخ 13 ديسمبر 2020م).
وما تزال وسائل الإعلام الغربية والعربية تطرح السؤال الذي ينمّ عن توقعاتهم السلبية، وافتراض حدوث الأسوأ في القارة بسبب الأزمة: “لماذا تُسجّل قارة إفريقيا القليل من إصابات فيروس كورونا؟“
على أن “نغوي نسينغا”, عالم الأوبئة الكونغولي ومدير برنامج منظمة الصحة العالمية للاستجابة لحالات الطوارئ في إفريقيا, قد لخّص الإجابة عن هذا السؤال عندما قال:
“من المستبعَد جدًّا وجود إجابة واحدة ونهائية عن سبب ذلك. نعتقد أن السكان الشباب (ضمن هذه الأسباب الرئيسية)، والمناخات الأكثر دفئًا، وإمضاء وقت أقل في داخل البيوت والأماكن المغلقة، ونسبة سفر أقلّ، وقلة إصابة الأفارقة بالسمنة ومرض السكري (مقارنة بالمناطق الأخرى)، والحصانات المستمدَّة من أمراض أخرى -حتى فيروسات كورونا الأخرى– كلها تلعب دورًا (في قلة الإصابة بفيروس كورنا في إفريقيا). وما تميّز إفريقيا عن أماكن أخرى مثل البرازيل التي قد تشترك معها في هذه العوامل, ولكنها ما زالت تتضرر بشدة من أزمة كورونا المستجد، (إننا في إفريقيا نختلف عن غيرنا في صرامة) تدخلاتنا البشرية (وتشديد إنفاذ القيود لاحتوائه)”.
– نغوي نسينغا
جهود مدغشقر:
تصدّرت مدغشقر مشهد توفير اللقاح والدواء ضد كورونا بتقديمها حلّ التداوي بالأعشاب التي اعتادت عليها غالبية المجتمعات بإفريقيا جنوب الصحراء الكبرى. ولكنّها أخفقت في هذه المحاولة لعوامل تعود بعضها إلى موقف المجتمع الدولي والمنظمات الدولية ضدها, وتراجع من دول إفريقية أخرى عن دعمها بسبب مزاعم عدم فعالية هذا الدواء العشبي (Covid-Organics) طوّره “معهد مدغشقر للبحوث التطبيقية” (IMRA).
على الرغم من أن معهد الأبحاث الصيدلانية الحكومي في نيجيريا قد قال بعد اختباره لتركيبة مدغشقر العشبية: “إنها ليست فعَّالة لعلاج فيروس كورونا”؛ ومع ذلك فقد كشفت دراسات أخرى أن التركيبة العشبية من مدغشقر فعَّالة لعلاج الملاريا؛ لأنها تحتوي على الأرتيميسينين المستخرَج من نبات الشيح الحولي, ما قد يجعل مدغشقر رائدة في مادة الأرتيميسينين وعلاج الملاريا في العالم.
على جانب آخر, ساهم في إخفاق هذه الجهود الملغاشية إخفاء المسؤولين في مدغشقر الكثير من المعلومات حول هذه التركيبة؛ حيث شكا باحثو معاهد ومراكز إفريقية من عدم تعاون مدغشقر معهم لتكاتف الجهود وإجراء بحوث مكثَّفة حول التركيبة؛ إذ أشار مسؤولو الصحة في نيجيريا إلى أن مسؤولي مدغشقر يُخْفُون الكثير من الأشياء عن الدواء، وهو ما أثار الشكوك فيهم.
لقاح نيجيري لفيروس كورونا:
في شهر أكتوبر 2020م, أعلن باحثون في نيجيريا تطويرهم للقاح خاصّ بإفريقيا ضد فيروس كورونا المستجدّ قائمًا على الحمض النووي. ولكنَّ مشروع اللقاح -كعادة المبادرات الإفريقية الطموحة– لم يحظَ بتمويل كافٍ لإجراء التجارب البشرية, كما أنه لم ينلْ اهتمام قادة إفريقيا.
ووفقًا لما أشار إليه “كريستيان هابي”، عالم الوراثة النيجيري ومدير المركز الإفريقي للتميز في علم جينوم الأمراض المعدية (ACEGID) في جامعة “ريديمر” بجنوب غرب نيجيريا -وهو أول مختبر في إفريقيا يقوم بتسلسل جينوم الفيروس التاجي-؛ فقد طُوِّر هذا اللقاح باستخدام تقنية DIOSynVax, وذلك باستهداف سلالات من فيروس كورونا المنتشر في القارة الإفريقية. وقد أظهرت تجاربها على الحيوانات مستوًى عاليًا من الفعالية والحماية (90 بالمائة) في التقييم قبل السريري.
ومما يجعل مشروع اللقاح مهمًّا بالنسبة لإفريقيا؛ أن اللقاحات المطوَّرة سابقًا خارج إفريقيا مثل لقاحات ملاريا، قد طُوِّرت دون مراعاة التنوُّع الجيني للأفارقة ومسببات الأمراض المنتشرة في القارة. كما أنه تنتشر حاليًا في نيجيريا وحدها 10 سلالات مختلفة من “سارس-كوفيد-2″، وستستمر هذه السلالات في التغيُّر والتطوُّر إلى سلالات جديدة. إضافة إلى أنّ مطوري لقاحات كورونا خارج إفريقيا كانوا يركّزون على السلالتين A وB, في حين تمَّ العثور على السلالة C في جنوب إفريقيا، ما يعني أن اللقاحات المطورة لـA وB قد لا تكون فعَّالة لـ C، وخاصة مع اعتبار الاستجابات المناعية للذين سيُعْطَوْنَ اللقاح العالمي في إفريقيا.
وللتغلُّب على عقبات التمويل لإجراء تجارب اللقاح على البشر؛ أفاد “كريستيان هابي” أنه هو ومجموعته يحاولون الحصول على المِنَح وشراكات القطاع الخاص. وفي حال نجاح مشروع اللقاح قد يقتنع الزعماء الأفارقة بضرورة مضاعفة الاستثمار في أبحاث الصحة العامة والعلوم والتكنولوجيا.
“إذا استثمرت (الحكومات الإفريقية) في البحث وتطوير اللقاحات، فإنها ستغير الروايات (السلبية والنمطية) حول إفريقيا، وستظهر أن علماء القارة يمكنهم المساهمة في المعرفة في مجال اللقاحات”؛ هكذا قال “هابي”, وأضاف: “من المؤسف أنَّنا لا نعرف كيف نستثمر في مجال اللقاحات، لذلك نحن نبحث عن مموّلين ومستثمرين. وبالنسبة لنا، فهي صفقة كبيرة لأنه بإمكاننا رؤية مساهماتنا في مجال اللقاحات بمجرد (تأمين التمويل)”.
مشاركة إفريقيا في المبادرة العالمية:
لقد ساهمت إفريقيا أيضًا في محاولات إيجاد “اللقاح العالمي” لفيروس كورونا المستجدّ؛ حيث شاركت دول مثل جنوب إفريقيا ومصر مع دول كثيرة أخرى حول العالم في تجارب لقاحات Pfizer/BioNTech و ChAdOx1-S من جامعة أكسفورد. وقد أشارت دراسة في سبتمبر 2020م إلى أن تجارب لقاح ChAdOx1-S سار بشكل جيّد بعد إجراء التحقيقات في مخاوف السلامة الأولية من تجربة المرحلة الثالثة للقاح.
ورغم اعتراضات بعض مواطني دول إفريقية ضد إجراء تجارب لقاحات كورونا في إفريقيا؛ لمخاوفهم من أن يكونوا فئران التجارب؛ فقد أشار باحثون أفارقة مطّلعون على مراحل هذه التجارب أن مشاركة إفريقيا في هذه العملية ضرورية؛ لأن القارة ليست منعزلة عن حوادث العالم, وستساعد المشاركة أيضًا في إثبات سلامة اللقاحات لمجموعات بشرية متنوعة تعيش في أماكن مختلفة، مع القدرة على تحديد فعالية هذه اللقاحات في منع العدوى والمرض الذي أُوجِدت من أجلها.
وقد أشارت نشرة إخبارية للأمم المتحدة أن جميع الدول الإفريقية البالغ عددها 54 في القارة قد أعربت عن اهتمامها لمبادرة COVAX العالمية التي يقودها التحالف من أجل ابتكارات التأهب للأوبئة (CEPI)، وتحالف اللقاحات (Gavi)، ومنظمة الصحة العالمية (WHO).
وتسعى المبادرة إلى ضمان توفير لقاح كورونا لجميع البلدان مرتفعة ومتوسطة الدخل المستعدة لتمويل حصتها ذاتيًّا، والبلدان ذات الدخل المتوسط ومنخفضة الدخل التي ستحتاج إلى تأمين حصتها عبر التزام السوق المسبق (AMC) للمبادرة.
وقد وافقت ثماني دول إفريقية على التمويل الذاتي لحصتها من جرعات اللقاح العالمي من خلال منصة COVAX بالرغم من أن مسؤولي صحةٍ أفارقة قد أبدوا مخاوف من عدم العدل في توزيع اللقاح, خصوصًا وأن هناك تقارير حول هيمنة الدول الصناعية على أكثر من 5 مليارات لقاح, ما يعني أنه سيصعب على الدول الإفريقية الحصول على حصّة كافية.
بل في رأي “جون نكينغاسونغ”، رئيس المراكز الإفريقية لمكافحة الأمراض والوقاية منها (Africa CDC)، فإنه من غير المرجّح أن تبدأ التطعيمات بهذه اللقاحات في إفريقيا حتى منتصف عام 2021م؛ لأن تأمين إجمالي 1.5 مليار جرعة لقاح مطلوبة (بمعدل جرعتين) لحوالي 60% من سكان القارة البالغ عددهم 1.3 مليار نسمة قد يستغرق حتى أكتوبر 2021م. وستتراوح تكلفة هذا اللقاح بين 7 مليارات و10 مليارات دولار.
ومهما يكن الأمر؛ فإن المخاوف السابقة تُعيد إفريقيا إلى المربع الأول, وهو: ضرورة تمويل المبادرات الصحية الإفريقية ولو بنسبة معيّنة من المبالغ التي تتعهّد بها الحكومات الإفريقية لصالح “اللقاحات العالمية” التي قد لا تصل إلى الدول الإفريقية إلا بشقّ الأنفس؛ إذ يؤكّد مشروع اللقاح النيجيري ومساعي أوغندا في إجراء تجارب لقاحاتها الخاصة على أن العلماء والباحثين الأفارقة قادرون على تقديم حلول لمشاكل مجتمعاتهم وتقدُّم شعوب القارة إذا ما وجدوا الدعم اللازم والتمويل المناسب.
- باحث نيجيري مهتم بالتحولات السياسية والقضايا الاجتماعية والتنموية والتعليمية.
- حاصل على دكتوراه في الأصول الاجتماعية والقيادة التعليمية من الجامعة الإسلامية بماليزيا.