صعود “باسيرو ديوماي فاي” وديناميكيات التغيير في رئاسيات السنغال لعام 2024
إن ظهور “باسيرو ديوماي فاي” كرئيس منتخب، دون خبرة سابقة في القيادة التنفيذية، يمثّل فصلاً جديدًا في تاريخ السنغال السياسي. وتجسد رحلتُه من مفتش ضرائب إلى أعلى منصب في البلاد، وسط المعارك القانونية والافتقار إلى الاستمالة السياسية التقليدية، مرونةَ المثل الديمقراطية في السنغال والطبيعة المتطورة لمشهدها السياسي.
إعداد: بالوغون كاميلو ليكان – باحث لدى الأفارقة للدراسات والاستشارات
نقله إلى العربية (بالتصرّف): أحمد عبد الرحيم البدوي
في تحوّل ملحوظ للأحداث، تمت إعادة تشكيل الساحة الانتخابية في السنغال مع صعود الوافد الجديد “باسيرو ديوماي فاي”، مما يمثل تحوّلا كبيرا في التاريخ السياسي للبلاد.
وقد جرت انتخابات 24 مارس 2024م، وسط خلفية من التشويق السياسي والاضطرابات العامة، مما شكّل تحدياً لصورة السنغال التي ظلت قائمة لفترة طويلة كمنارة للاستقرار في غرب أفريقيا. ويبشّر بعصر جديد الختام السلمي للانتخابات، الذي شهد تنازل الحزب الحاكم (التحالف من أجل الجمهورية) أمام “فاي”، مرشح المعارضة، الذي بلغ من العمر 44 عامًا.
فالسنغال، البلد الذي يبلغ عدد سكانه 17 مليون نسمة ويتمتع بمشهد سياسي نشط مع أكثر من 300 حزب سياسي؛ تمّت الإشادة بها منذ فترة طويلة باعتبارها منارة للديمقراطية في غرب أفريقيا. وأكسبتها سمعتها كدولة ديمقراطية مستقرة هتّافات وشراكات من الغرب، وعلاقات تجارية مع الصين. وعلى النقيض من الدول المجاورة لها مثل مالي والنيجر وبوركينا فاسو وغينيا، حيث استولت حكومات المجلس العسكري مؤخرًا على السلطة من خلال الانقلابات العسكرية؛ حافظت السنغال على سجل رائع, ولم تشهد أبدًا انقلابًا عسكريًا أو دكتاتورية على النمط المعتاد في دول إفريقية أخرى, منذ حصولها على الاستقلال عن فرنسا عام 1960م.
وبتولّي “فاي” منصب القيادة؛ فإن صعوده من مفتّش ضرائب إلى أعلى منصب، والتغلب على السجن والمحن السياسية، يلخص القوى الديناميكية التي لعبت دورها في ديمقراطية السنغال. وهذا المقال يتعمق في ديناميكيات التغيير المعقدة التي دفعت “فاي” إلى الصدارة في الانتخابات الرئاسية لعام 2024م، ومهد الطريق لما قد يكون قيادة تحويلية في منطقة لا يزال فيها السعي إلى الديمقراطية الدائمة يمثّل تحديًا كبيرا.
مقدمة الانتخابات: اختبار للمرونة الديمقراطية
لم يكن الطريق إلى الانتخابات الرئاسية لعام 2024م خاليًا من التحديات، حيث صمت الرئيس السابق “ماكي سال” بشأن ترشحّه لولاية ثالثة، على الرغم من الحدود الدستورية لفترات الولاية، أدى إلى تصاعد الضغوط والاحتجاجات. ومع ذلك، طغت على قراره النهائي بعدم الترشح محاولات تأجيل الانتخابات، مما أثار المزيد من الاضطرابات وانتشار التكهنات.
ويمثل فوز “فاي” تحولا كبيرا في المشهد السياسي في السنغال، خاصة بالنظر إلى سجنه قبل أيام قليلة من الانتخابات، إلى جانب مرشده “عثمان سونكو” الذي هو كذلك شخصية بارزة مُنِعَ من الترشح وشُتِّت حزبه (الوطنيون الأفارقة في السنغال من أجل العمل والأخلاق والأخوة؛ PASTEF).
وبينما كان “عثمان سونكو”, وهو مفتش ضرائب آخر, تحول إلى شخصية سياسية ووجهاً للمعارضة في البداية، فقد حوّل سجنه بتهمة التشهير الأنظار إلى “فاي”. وعلى الرغم من سجن “سونكو”، كان لموقفه المناهض للفساد ومناشدته للشباب المحرومين, أولئك الذين خلّفهم النمو الاقتصادي في السنغال, صدى عميقٌ. وأدى تأييده لـ “فاي”, الذي عيّنه خلَفه السياسي، إلى إعادة توجيه الزخم نحو “فاي”، ونتج في موجة كبيرة من الدعم من مختلف الطبقات المجتمعية.
ومن عجيب المفارقات أن الطفرة الاقتصادية التي شهدتها السنغال قبل فيروس كورونا (كوفيد-19)، والتي حظيت بإشادة دولية، زرعت بذور السخط بين الشباب؛ لأن هذا النمو المثير للإعجاب لم يترجم إلى فرص عمل ملموسة، مما أدى إلى بقاء 3 من كل 10 شباب سنغاليين عاطلين عن العمل. وأصبحت هذه المفارقة بين نجاح الاقتصاد وانعكاساته على الواقع نقطة تجمع للمعارضة، مع ظهور “فاي” كتجسيد للوعد بمستقبل اقتصادي أكثر شمولا وأيقونة للأمل للشباب في السنغال.
“باسيرو ديوماي فاي”: الرئيس غير المتوقع للسنغال
برز “باسيرو ديوماي فاي”، وهو شخصية غير معروفة نسبياً في الساحة السياسية الوطنية إلى أن دفعته الأحداث الأخيرة إلى مسرح الأنظار، كرئيس منتخب للسنغال في تحول ملحوظ للأحداث. ومما لا شك فيه أن رحلته من زنزانة السجن إلى أعلى منصب في البلاد تجسد المجال المضطرب للسياسة السنغالية والتطلعات القوية لشعبها من أجل التغيير.
وُلد فاي عام 1980م في قرية ندياغانياو الواقعة في غرب وسط السنغال. ولم يكن طريق “فاي” إلى الشهرة السياسية تقليديًا على الإطلاق, إذ جعلته حياته المهنية كمفتش ضرائب على اتصال مع “سونكو” الذي اشتهر بحملته ضد الفساد وشعبيته بين الشباب الذين لعبوا معًا أدوارًا محورية في تشكيل نقابة عمال ووضع الأساس لمستقبلهم السياسي.
قاد نشاط “فاي” رحلته السياسية إلى اتخاذ منعطف دراماتيكي في أبريل 2023 عندما قُبِض عليه بِتُهَم تتراوح بين نشر أخبار كاذبة والتشهير بهيئة مشكَّلة، بسبب منشور على وسائل التواصل الاجتماعي انتقد فيه الحكومة. وأدى سجنه إلى جانب “سونكو” إلى إثارة غضب أنصارهما ضد الحكومة وأشعل احتجاجات واسعة النطاق ضد إدارة الرئيس “ماكي سال”، مع اتهامها بالفساد وإهمال الفقر المدقع والمؤثّر بشدة على حياة السنغاليين.
وعلى الرغم من مواجهة الشدائد، ظل عزم “فاي” ثابتًا؛ إذ أُطلِق سراحه (هو وسونكو) من السجن في 14 مارس 2024م (أي قبل أيام من الانتخابات) نتيجة مشروع قانون عفو للسجناء السياسيين من قبل الحكومة لتهدئة الاضطرابات الاجتماعية والسياسية. وبدعم من “سونكو” الذي سُدّ أمامه أبواب التنافس في الانتخابات, وبتأييد من حزب “PASTEF” المشتَّت، دخل “فاي” السباق كمرشّح مستقل، وحصل على قوة جذب كبيرة بين المنتخبين المحبطين, وخاصة الشباب.
ومما لا شكّ فيه أن “فاي” استفاد من استياء المنتخبين الشباب الذين يعانون من ارتفاع معدلات البطالة, وضرب على وتر حساس لدى الكثيرين الذين شعروا بالتهميش بسبب الوضع الراهن. وقد أرسى هذا الأساس لوعود حملته الانتخابية بمعالجة قضايا الفساد والفقر التي طال أمدها مع الدخول في عصر جديد من الحكم الشامل.
سباق متعدد الأوجه
كشفت الانتخابات الرئاسية لعام 2024 في السنغال عن كونها واحدة من أكثر المسابقات الانتخابية حيوية وتنوعًا في تاريخ البلاد، حيث قدم 93 مرشحًا ترشيحاتهم في البداية, ولكن في نهاية المطاف تقلص السباق إلى 19 متنافسًا مثّلوا نطاقًا واسعًا من الأيديولوجيات والتطلعات السياسية.
وإلى جانب “فاي” الذي خرج منتصرا بين المتنافسين بحصوله على أكثر من 54.28% من الأصوات في الانتخابات الرئاسية في السنغال، برز “أمادو با” كشخصية بارزة دعمها الرئيس السابق “سال” لتمثّل استمرارا لسياسات الحكومة السابقة. وعكس ترشيح “با” أيضا الجدل الدائر حول مسار الحكم في السنغال ودور شاغل المناصب العليا في تشكيل النتائج الانتخابية التي تأخر ظهوره.
ومع ذلك، لم تكن الشخصيات السياسية الراسخة تهيمن على المجال الانتخابي فحسب، بل شهد المشهد أيضًا “محمد بن عبد الله ديون”، رئيس الوزراء السابق الذي نصب نفسه “رئيسًا للمصالحة”، داعيًا إلى الوحدة والتماسك في بيئة سياسية مستقطبة. وعلى نحو مماثل، جلب “خليفة سال”، الذي تولى منصب عمدة داكار مرتين، خبرته الواسعة في إدارة البلديات إلى المسرح الوطني، حيث قدم منظوراً فريداً للتنمية الحضرية والمشاركة الشعبية. ومن الجدير بالذكر أن رائدة الأعمال “أنتا بابكر نغوم” برزت باعتبارها المرشحة الوحيدة وصوّرت ترشيحها من أجل الشمولية ليشكل تمثيلاً جنسانياً.
التحديات والفرص
في أعقاب الانتصار الانتخابي الذي حققه “باسيرو ديوماي فاي”، تقف السنغال عند منعطف محوري، حيث تستعد للتغيير التحويلي تحت قيادته. وإن فوزه الساحق يعكس بوضوح إحباط الشباب وتحريضهم على التغيير الثوري والإغاثة.
وفي حين يعاني الشباب السنغالي، مثل كثيرين في مختلف أنحاء أفريقيا، من الإحباط إزاء القادة الذين يُنظر إليهم على أنهم منفصلون عن الأولويات المحلية ومتشابكون مع المصالح التجارية؛ فإن صعود “فاي” يشكل منارة أمل في مستقبل أكثر إشراقا, وخاصة أن حملته الانتخابية، التي تجاوبت مع تطلعات الشباب، تعهدت بالإصلاح الاقتصادي واتخاذ تدابير لمكافحة الفساد، ومعالجة التحديات النظامية التي أعاقت تقدم السنغال.
وقد كانت المفارقة بين الإمكانات الاقتصادية والواقع واضحة، وهو ما يتجسد في الوعود المُخلَفة بشأن احتياطيات النفط والغاز قبالة سواحل السنغال وسياسات التحرير الفاشلة في قطاع مصايد الأسماك. وعلى الرغم من المؤشرات المشجعة, مثل النمو الاقتصادي القوي وانخفاض نسبة الفقر، فإن هناك نسبة متزايدة من الشباب السنغاليين الذين ينطلقون في رحلات محفوفة بالمخاطر إلى أوروبا، بعد خيبة أملهم بسبب الافتقار إلى الفرص في الوطن.
علاوة على ذلك، تتمتع النساء، باعتبارهن العمود الفقري لقطاع الخدمات في السنغال، ويمثلن 75% من السكان، بنفوذ كبير في تشكيل المشهد السياسي في البلاد.
وقد تولى “فاي” منصبه في الثاني من أبريل 2024، ليصبح أصغر رئيس في أفريقيا, في الوقت الذي تقف السنغال على مفترق طرق. وقد أكّد في خطاب تنصيبه ضرورة التزامه بالمبادئ التي دفعته إلى السلطة, قائلا: “أتعهّد بالحكم بالتواضع والشفافية، ومحاربة الفساد على كافة المستويات، وأتعهّد بتكريس نفسي بالكامل لإعادة بناء مؤسساتنا”.
ومن الناحية الاقتصادية؛ تفضّل رؤية “فاي” للسنغال الخروج عن الماضي، مع التركيز على إعادة التفاوض على عقود النفط والغاز مع الشركات الدولية لإعطاء الأولوية للمصالح الوطنية ودعم الشركات المحلية. ويعكس هذا الموقف تصميمه على تأكيد سيادة السنغال على مواردها الطبيعية والتحرر مما سمّته حملته “الاستعباد الاقتصادي”.
وقد أوضح “فاي”, قائلا: “رغم أن إصلاح العملة يظل يشكل أولوية، فإنني أتفهم الحاجة إلى التحلي بالحس العملي, وسوف نسعى إلى الإصلاح داخل منظمة الإيكواس”، معترفًا بتعقيدات الديناميكيات الإقليمية وأهمية المبادرات التعاونية.
وفي وجهة نظر “أليكس فاينز” من معهد “تشاتام هاوس”؛ كان “فاي أكثر واقعية بكثير في حياته الخاصة ويعرف أنه بحاجة إلى تحسين حالة الاقتصاد وجذب المزيد من الاستثمار. فهو ملتزم بإصلاح العملة لكنّه لن يتخذ قرارات متسرعة”.
فإن الاعتماد على تحذيرات وكالة “إس أند بي جلوبال” للتصنيف الائتماني العالمي يعني أن التحديات تلوح في الأفق, حيث أعربت الوكالة عن مخاوفها بشأن نقص التواصل فيما يتعلق بالسياسات المالية والاقتصادية، محذرة من أن ذلك قد يؤثّر على الجدارة الائتمانية للسنغال. وبالإضافة إلى ذلك, قد يؤدّي تركيز “فاي” على تدابير مكافحة العفونة إلى توتر سياسي، ما قد يؤدي إلى ردع الاستثمار الدولي وإعاقة النمو الاقتصادي. وهذا يسلط الضوء على حاجة “فاي” لتحقيق التوازن الدقيق في سعيه للإصلاح.
خاتمة
يمثّل ظهور “باسيرو ديوماي فاي” كرئيس للسنغال، دون خبرة سابقة في القيادة التنفيذية، فصلاً جديدًا في تاريخ السنغال السياسي. وبتوليه منصب الرئاسة يواجه عدة تحديات مع تركيز الأمة السنغالية والمجتمع الدولي أعينهم على كيفية تعامله مع تعقيدات الحكم، بدءًا من التنشيط الاقتصادي وحتى الإصلاح المؤسسي. ومن الواضح أن نجاحه لن يقاس بمدى قدرته على الوفاء بوعوده الانتخابية فحسب، بل أيضاً بقدرته على توحيد أمة متنوعة ومفعمة بالأمل في ظل رؤية مشتركة للمستقبل. وأخيرا، تحمِل رئاسة “فاي” آثاراً أوسع نطاقاً على مسار الديمقراطية في غرب أفريقيا، باعتبارها منطقة تتصارع مع عدم الاستقرار السياسي المتكرر والتراجع الديمقراطي، ويشكل التزام السنغال بالتحول السلمي للسلطة والحكم التعددي مثالاً قوياً لأخواتها في المنطقة, ويلهم الدول الأخرى لدعم القيم الديمقراطية وتعزيز الأنظمة السياسية الشاملة.
أخبار الأفارقة وتقارير فعالياتها واستشاراتها.