آفاق المرحلة الانتقالية وواقع التجربة الديموقراطية في تشاد

لم يكن يدور في مخيلة المواطن التشادي الذي عاش أكثر من 60 سنة تحت أنظمة الاستبداد السياسي أن بإمكانه الخروج من بيته ويشارك في مظاهرة معارضة لنظام الحكم, ويعود مجدداً إلى أسرته دون أن تلقى عليه القنابل المسيلة للدموع أو يعتقل وتلفق عليه كبيرة من الجنايات؛ تَحقَّق ذلك الخيال وأصبح واقعاً مع المسيرات السلمية التي نظّمت من عدة جمعيات مهتمة بالديموقراطية والتداول السلمي للسلطة في تشاد. و برزت حركة ( وقت تمة ) مع عدد من المنظمات الأخرى بصفتها مؤسسات ضامنة لترسيخ الديموقراطية والالتزام بالفترة الانتقالية التي حددت لــ 18 شهراً تدعو المجلسَ العسكري الانتقالي إلى عدم إساءة استخدام مؤسسات الحكم، حتى وإن كان المجتمع لا يزال يراهن على فترة ما بعد المرحلة الانتقالية التي ستبدأ في نوفمبر 2022.

تشاد وعسكرة مؤسسات الدولة

لقد ظل ولاء المواطن التشادي طيلة أكثر من نصف قرن يتعلق بالنظام الحاكم وليس بالدولة الوطنية, كما سعت أنظمة الحكم المتعاقبة لتجسيد فكرة عسكرة الدولة. ومن المستحيل أن تكون الفترة المقبلة التي لا تتعدى السنة والنصف كافية لتغيير واقع المجتمع الذي يؤمن بالبزة العسكرية والذي تعاقب عليه خمس رؤساء كلهم أعضاء في مؤسسة عسكرية هي التي تسيطر على مفاصل الدولة في التعيينات والمشاريع الوطنية.

ومما يلاحظ في تشكيل المجلس الانتقالي العسكري عشية إعلان وفاة الرئيس إدريس ديبي إتنو أن التقسيم لم يقم على الكفاءات والأقدمية العسكرية, وإنما كان وفقا لمحاصصات قبائلية لشخصيات تملك مناصب رفيعة في القوات المسلحة. وعلى سبيل المثال: عُيِن الجنرال طاهر أردا طاهيرو والجنرال بشارة عيسى جاد الله في المجلس بناءً على منصبهما في رئاسة الأركان والدفاع؛ إذ الرجلان لم يشاركا في معركة اغتيال ديبي. فهل يعقل أن يكون قادة الجيش في العاصمة ويقتل رئيس البلاد في المعركة؟!

يضاف إلى ما سبق أن معظم الشخصيات العسكرية لم تستطع أن تحدث أي تغيير أو نقلة نوعية في عملها السياسي والإداري. بل كانت شخصيات إقطاعية استفادت من عائدات النفط في الفترة من 2008 ـ 2014. وبسبب فشل القرارات التي اتخذتها القوات المسلحة تعيش تشاد حاليا إحدى  أسوء أزماتها الاقتصادية. وقد كانت المشاركات العسكرية الخارجية للجيش التشادي في عهد الرئيس الراحل (التدخل في مالي) أحد الأسباب التي أدت إلى خسائر مالية وبشرية لم تحقق للبلاد أي مكتسبات, ومن المفارقات العجيبة أن يكون قائد التدخل في مالي رئيسَ المجلس الانتقالي الحالي.

وعليه, تقع على عاتق محمد إدريس ديبي كومة من التحديات في المؤسسات العسكرية والأمنية؛ فالفساد الذي عشعش في أركان الدولة والمحسوبية التي تبرز في التعيينات والارتكابات التي يمارسها العسكر ضد المدنيين، وقضية محاربة جماعة بوكو حرام والتوترات العسكرية في شمال تشاد، والمعارضة المسلحة وعلاقة تشاد العسكرية مع دول الجوار؛ كلها بحاجة إلى توازن وخبرة في التعامل. بل رغم أن محمد إدريس قد تطرق في أكثر من لقاء إلى حساسية المرحلة الحالية وصعوبتها, إلا أن طبيعة قيادته تعطي انطباعا بأنه لم يدرك بعدُ أن عليه التنازل في كثير من الملفات الوطنية لصالح الشعب وتغيير الوجوه القديمة التي أسرفت في التعامل مع المواطن التشادي. وقد تكون مسألة الانقسامات العسكرية وطلب رضا جميع القادة العسكريين من خلال منحهم مناصب مرموقة على حساب المواطن أحد الأمور التي لم يستطيع محمد إدريس تجاوزها في تعييناته الأخيرة، مما يعني أنه في إدارته للمجلس الانتقالي العسكري يسير على خطى والده إدريس.

المعارضة الديموقراطية خير من المسلحة

عندما يحمل المعارض سلاحاَ دون أن يحمل مشروعاً, فهو عبء على الوطن والمواطن. وفي حالة تشاد؛ تتشارك المعارضة المسلحة مع العسكر في تفاقم الأوضاع التي تعيشها البلاد طوال السنوات الماضية.

وقد صرّح أحد رؤوس المعارضة التشادية في مقابلة مع صحيفة محلية عن سبب خروجه من العاصمة نجمينا وتشكيله جبهة ثورية مسلحة دخلت في صراع مسلح مع الجيش التشادي راح ضحية الصراع مئات المواطنين التشاديين – قائلا: إنه كان يود لقاء رئيس الجمهورية وكانت الحاشية المقربة من الرئيس ترفض اللقاء, فغضب وأخذ أبناء عشيرته العاملين في القوات المسلحة وقاد جبهة ثورية ضد النظام. وهذا يؤشر على أن سبب الخلاف شخصي وأن المعارضة المسلحة أحيانا لا تحمل قيماً ساميةً كالعدالة والحرية وتحسين الوضع الاقتصادي للمواطنين، وأن قادتها إذا وصلوا إلى ما يشتهون سيكونون نسخة طبق الأصل للنظام الذي خرجوا عليه، وبطريقة التعبير نفسها. ويمكن ملاحظة هذا في عام 2008 عندما خرجوا من العاصمة أنجمينا, حيث بدا أنه يعب إحداث أي تغيير في مؤسسات الدولة, وأن الكلمة الفصل ستكون لقبيلة القائد العسكري، وأن شخوصاً تم استغلالهم كمرتزقة في حروب خارجية هم أبعد ما يكونون عن صون حقوق المواطنة وسمعة الدولة والحفاظ على كيانها.

أما المعارضة الديموقراطية (أمثال حزب التغيير, وحزب الإصلاح, والوفاق الوطني لحقوق الإنسان, واتحاد العمال التشاديين, وحركة وقت تمة, وغيرها)؛ فهي كيانات أقرب ما تكون إلى طموحات الإنسان التشادي وآماله من خلال معارضة فلسفة التوريث, وتدعو إلى حقوق المواطنة وتطالب بنزع رداء القبيلة عن مؤسسات الدولة. وتتوحد جهودها في مسيراتها السلمية وتشكل ورقة ضغط على المجلس الانتقالي العسكري، وأمامها فرص كبيرة لتكتسح الساحة السياسية في الانتخابات المقبلة إذا لم يحدث فيها تزوير. وبالتالي تختلف المعارضة الديموقراطية عن الشخصيات التي عارضتْ لسنوات طوال ثم عادت باحثة عن مصالحها في التشكيلات الوزارية الصورية.

وفي حين تقع على عاتق وزارة المصالحة مسؤولية صياغة ميثاق المرحلة الانتقالية، ومشاركة الأحزاب الديموقراطية المعتدلة التي غرست في نفوس المجتمع التشادي معنى الوحدة والمصير المشترك وهيأت المناخ للتجربة الديموقراطية؛ فإن الرهان الحالي على المعارضة المعتدلة يمثل توجه النخبة التي تتمنى رؤية الشارع السياسي في تشاد شبيها بدول غرب إفريقيا التي قطعت أشواطاً متقدمة في فلسفة المعارضة والحكم.

وعليه, فإن المعارضة الديموقراطية أمل معظم التشاديين لأنها لا تكلفهم أرواحاً باهظة ومليارات ودبابات. وبعبارة أخرى: لو  أن الأرواح التي أزهقت في سبيل المعارضة المسلحة كانت من أجل الديموقراطية المعتدلة, فستكون تشاد اليوم تنافس دولاً عظمى في الديموقراطية والتداول السلمي للسلطة.

هل فرنسا هي كل شيء؟

 لا يمكن الحديث عن المرحلة المقبلة في تشاد دون تحديد الفاعلين المؤثرين. وفي مقدمة هذا الحديث علاقات تشاد الخارجية وإدارة سياستها الداخلية -من جانب- لكونها تتشارك في مصالحها مع مجموعة من الدول. وعلاقتها أيضا مع فرنسا والتي يمكن ملاحظة أهميتها في حضور إيمانويل ماكرون لمراسم تأبين الرئيس الراحل ‘دريس ديبي وخطابه المبطن بالتهديد للدول التي تحاول أن تنافس فرنسا في تشاد.

جدير بالذكر أنه بإمكان ضابط في المؤسسات الأمنية العسكرية الفرنسية أن يدير انقلابا عسكرياً في الدول الإفريقية التي استعمرتها فرنسا. بل وتعد هذه السنة سنة الانقلابات العسكرية والتحولات السياسية في إفريقيا حيث حدث تغيير سياسي عبر الانقلاب العسكري في مالي وغينيا كوناكري وتشاد. وتوقّع باحثون في “مختبر إفريقيا في العالم بجامعة بوردو فرنسا بأن تشمل التحولات السياسية الكاميرون والكونغو وغينيا مالابو وإفريقيا الوسطى وبوركينا فاسو مع احتمال تغير الأنظمة التي عملت مع فرنسا لأكثر من عقدين.

وتوجد على رأس الفاعلين المؤثرين الذين تخشاهم فرنسا في تشاد: الولايات المتحدة الأميركية التي بنت أحد أكبر سفاراتها بإفريقيا في العاصمة التشادية, واكتسبت موطن قدم في تدريب قادة الجيش التشادي والحصول على مزايا في التنقيب عن النفط. والفاعل الثاني هو الصين التي غالبا ما يكون هدفها الاقتصادي أعظم من الأمني. ومع ذلك تملك الصين سجلاً سيئاً في التجسس والتصنت على الدول الإفريقية.

ويمكن فهم خوف فرنسا أيضا في أن الولايات المتحدة الامريكية دعمت المعارضة الديموقراطية وأصدرت عدة بيانات تؤيد الحراك السلمي وساهمت في حصول رئيس حزب التغيير المعارض سيكسي ماسرا على تصريح لممارسة نشاطه السياسي. وفي المنوال نفسه تنهك الصين خزينة الدولة بالمشاريع التي تنظر إليها على انها رديئة طويلة وأن الأجيال القادمة هي التي ستتحمل عبء ديونها.

يتساءل البعض ماذا عن الدولة العميقة في تشاد؟

أقول أستبعد وجود كيانٍ غير ما ذكرتُ؛ فعندما تولى يوسف صالح عباس رئاسة الحكومة عام 2010 وكان فقيهاً قانونياً عمل مع عدة منظمات عالمية, قال له رئيس الحكومة المنتهية ولايته “نور الدين كاسيرى كوماكاي” : دَعْك عنك جانباً كل النظريات التي درستَها في الجامعات والخطط الاستراتيجية التي تعلّمْتَها من المنظمات الغربية، وشمرْ عن ساعدَيْك فإنك تتعامل الآن مع حالة خاصة اسمها تشاد.

كاتب تشادي مهتم بالشؤون السياسية والأدبية.