العملات المشفرة في أفريقيا: بين رفض الحكومات وزيادة إقبال المستخدمين

في إفريقيا تزداد نسبة اكتشاف العملات المشفرة وتبنّيها بشكل تدريجي, ويوجد اليوم نوع من أنواع العملات المشفرة والافتراضية في بلدان مثل نيجيريا وجنوب إفريقيا وغانا وكينيا وبوتسوانا وزيمبابوي. وتختلف العملات المشفرة عن العملة الورقية العادية والتقليدية التي تكون في شكل أوراق نقدية أو عملات معدنية مادية أو نقود سلعية مدعومة بالذهب أو الأحجار الكريمة الأخرى.

ومن أبسط التعريفات للعملات المشفرة والمعروفة لدى البعض أيضا بـ “العملات الافتراضية” ما ذهبتْ إليه مجلة “أفريكان بيزنيس” بأنها وسيط رقمي للتبادل والتعامل التجاري. وتعد تكنولوجيا سلسلة الكتل (blockchain) حيوية لهذه العملات حيث تستخدم سلسلة الكتل تكنولوجيا التشفير لإنشاء (وتعدين) وحدات وتخزينها وتأمين المعاملات وتحويل الرموز المميزة وإجراء المدفوعات. فهي إذًا – عملياتٌ تُحوِّل العملة المشفرة من مجرد رمز رقمي إلى أصول مرقمنة ذات قيمة اقتصادية يمكن لمستخدميها كسبها وتخزينها وتداولها ونقلها وبيعها.

البنوك المركزية الأفريقية ورفض العملات المشفرة

صدرت عدة دراسات حول العملات الرقمية في إفريقيا وكيف يمكن لـتكنولوجيا سلسلة الكتل أن تساهم في حل مشاكل إفريقيا الحالية وتعزيز النمو المستقبلي. ومع ذلك, لا تزال المواقف الرسمية في العديد من الدول الأفريقية تعارض التطورات الجارية على أرض الواقع, حيث أكّدت تقارير الشهور الماضية على تزايد تبنّي العملات المشفرة والرقمية بين المواطنين في مختلف دول القارة.

وترفض البنوك المركزية وصانعو السياسة الأفارقة فكرة العملة المشفرة بشراسة؛ فالمشكلة الأولى أن العملات المشفرة تتسم بالتقلبات العالية للأسعار والسقوط غير المبرر لها ومخاطر هجمات القرصنة والفدية وأحداث أخرى تنفّر المستثمرين من تبنّيها. ولذا لا تعترف البنوك المركزية في القارة بها سواء كأموال أو وسائط تبادل أو مناقصة قانونية. كما أصدرت بعضها تحذيرات رسمية بينما فرضت الأخرى أوامر حظر ضد استخدامها المشفرة وتداولها.

وقد عززت مواقف الحكومات الأفريقية دور العملات المشفرة في تمويل أنشطة الحقوق المدنية خارج نطاق المراقبة الحكومية, مثل المظاهرات الشبابية في أكتوبر 2020 التي تُعدّ أكبر المظاهرات في نيجيريا منذ عقود؛ فأثناء هذه الاحتجاجات علّقت الحكومةُ الحساباتِ البنكية التابعة لمنظمات المجتمع المدني والأفراد المؤيدين للمظاهرات الذين كانوا يجمعون الأموال لتحرير المتظاهرين المعتقلين أو تزويدهم بالإسعافات الأولية والطعام. وكان من بين هذه المنظمات “الائتلاف النسوي” الذي تأسس من 13 شابة نيجيرية وجذب الاهتمام الوطني. وعندما عُلِّقت حسابات الشابات مؤسِّسات “الائتلاف النسوي” لجَأت المجموعة إلى استخدام العملة المشفرة “بيتكوين” لتلقي الدعم الذي بلغ في النهاية 150 ألف دولار. وقد أثار هذا التطوّر حفيظة الحكومة النيجيرية خاصة ضدّ “جاك دورسي” – مؤسس تويتر والمدافع البارز عن العملات المشفرة والذي دعم المظاهرات النيجيرية وأعاد نشرَ صفحة التبرع بـ “بيتكوين” في تويتر لدعم “الائتلاف النسوي”. بل وهذا من الأسباب الرئيسية التي أدت إلى تعليق عمليات تويتر في يونيو 2021 من قبل الحكومة النيجيرية.

ففي وجهة نظر الحكومة النيجيرية – كغيرها من دول مختلفة حول العالم؛ لسيت العملة المشفرة بعملةٍ لأنها لا تنتمي إلى فئة النقود أو العملات المعدنية الصادرة عن البنك المركزي النيجيري (Central Bank of Nigeria = CBN). وقد بلغت مخاوف الحكومة النيجيرية ذروتها في فبراير الماضي (2021) عندما أمرت جميع البنوك المرخصة في البلاد بحظر المعاملات بالعملات المشفرة. وفي أواخر يوليو (2021) أعلنت عن خطة لإطلاق عملة رقمية جديدة باسم “e-naira” تتحكّم فيها الحكومة على أمل أن تكون بديلا لمتداولي العملات المشفرة النيجيريين.

وفي المنوال نفسه؛ صدرت إخطارات مختلفة من قبل البنوك المركزية في كينيا في عام 2015, وفي المغرب في عام 2017 والجزائر في عام 2018؛ كلها تحمل قوانين تحظر استخدام وامتلاك العملات الافتراضية. وقد حذّر بنك الاحتياطي الزيمبابوي (Reserve Bank of Zimbabwe = RBZ) في 2018 الزيمبابويين من استخدام العملات المشفرة ووجّه جميع المؤسسات البنكية في الدولة إلى وقف الخدمات المصرفية التي تسهل التعامل مع العملات المشفرة أو إعدادها. بل واتخذت الحالة الزيمبابوية منعطفا آخر عندما أوقف بنك الاحتياطي الزيمبابوي في 15 مايو 2018 شركة Golix من جميع عمليات تبادل العملات المشفرة في زيمبابوي, لتلجا الشركة فيما بعد إلى المحكمة العليا للطعن في شرعية الحظر على أساس أن تصرّف بنك الاحتياطي غير قانوني وغير عقلاني وغير دستوري وخارج نطاق القانون الإداري؛ فـأصدرت المحكمة العليا في 24 مايو 2018 حكمًا لصالح شركة Golix.

وتربط بعض البنوك المركزية في القارة أيضا العملات المشفرة بالاحتيال وغسل الأموال والتهرب الضريبي والتحايل على مراقبة الصرف وتمويل الإرهاب والأنشطة الإجرامية الأخرى التي تغذي المعاملات المالية غير المشروعة, وهي مبررات يمكن فهمها بتتبّع أنشطة الشبكات الإجرامية في القارة, حتى وإن كانت هذه البنوك المركزية تبالغ أيضا في بعض مبرراتها حيث أثبتت الدراسات حول العملات الورقية والنقدية وأنشطة المسلحين والشبكات الإجرامية أن الأنظمة المالية التقليدية محفوفة بالمخاطر المماثلة التي يثار حول العملات المشفرة.

أفريقيا تقود العالم في مجال العملات المشفرة

أشار تقرير في أغسطس 2021 بأن منطقة أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى تجاوزت أمريكا الشمالية في مجال الحصول على العملات المشفرة, حيث حصل مستخدمو العملات المشفرة بإفريقيا جنوب الصحراء على ما يعادل 80 مليون دولار من العملات المشفرة فيما بين شهري أغسطس وسبتمبر (30 يومًا) – وهو مبلغ أكبر من مبالغ أي منطقة أخرى ويمثّل زيادة بنسبة 19 في المئة عن المتوسط ​​الشهري البالغ 67 مليون دولار على مدى الأشهر الـ 12 الماضية وأكثر من 79 مليون دولار التي حصلت عليها أمريكا الشمالية.

وشهدت أسواق مثل كينيا ونيجيريا وجنوب أفريقيا وتنزانيا بعضًا من أعلى عمليات استخدام العملات الرقمية في العالم من حيث القواعد الشعبية المحلية. كما تُصنَّف هذه الدول في قائمة أفضل 20 دولة في المؤشر العالمي لاعتماد العملات المشفّرة. وقد أظهرت أحدث الأرقام أن حجم المعاملات (بالعملات المشفرة) المكونة من التحويلات بحجم التجزئة في أفريقيا كان 7 في المئة مقابل 5.5 في المئة للمتوسط ​​العالمي.

ووفقا لـتقرير صادر من Chainalysis, لا توجد منطقة تستخدم منصات النظير للنظير (P2P) بمعدل أعلى من مستخدمي العملات المشفرة الأفارقة، حيث يمثلون 1,2 في المئة من إجمالي حجم المعاملات الأفريقية و 2,6 في المئة من إجمالي حجم “بتكوين” (Bitcoin) على وجه التحديد. ونمت أحجام التداول للعديد من العملات الأفريقية بشكل خاص على منصات LocalBitcoins و Paxful اللتين تعتبران من أكبر منصات النظير للنظير (P2P) في العالم من حيث حجم المعاملات.

بل بالرغم من تحذيرات البنوك المركزية وفرض الحظر؛ لا تزال التعاملات بالعملات المشفرة من خلال شبكات النظير للنظير جارية في دول مثل نيجيريا وكينيا, حيث اعتمدها المستهلكون لتجاوز اللوائح المالية الصارمة التي تحد من التحويلات النقدية من البنوك إلى شركات العملات المشفرة. وتحدث معاملات شبكات النظير للنظير في عدة دول أفريقية – وخاصة في نيجيريا – عبر محادثات المجموعات غير الرسمية على تطبيقات المراسلة مثل “تليغرام” و “واتساب” وغيرهما – بدلاً من على الأنظمة الأساسية التقليدية.

وهناك من يرأى أن زيادة استخدام العملات المشفرة في أفريقيا قد يؤثر في خطة الحكومات والبنوك المركزية بإطلاق عملاتها الرقمية الخاصة. بينما رأى آخرون أن إطلاق العملات الرقمية قد تكون محفّزا لرجال الأعمال الشباب في ظل انخفاض استخدام العملة النقدية في الاقتصادات الكبرى في القارة، حيث بدأ المستهلكون يتبنون طرق الدفع الإلكترونية الأخرى مثل  M-PESAفي كينيا وبطاقات الائتمان وبوابات الدفع في جنوب أفريقيا ونيجيريا ودول كثيرة أخرى.

العوامل التي تحفز تبنّي العملات المشفرة في أفريقيا

نما تبني العملة المشفرة في إفريقيا بنسبة 1200 في المئة بين يوليو 2020 ويونيو 2021 ، مما يجعلها أسرع معدل اعتماد في العالم. وجمعت إفريقيا ما قيمته 105.6 مليار دولار من العملات المشفرة في تقديرات العام الماضي مدفوعة بمعاملات النظير للنظير (P2P) في أسواق النمو الرئيسية.

وتلعب عدة عوامل دورا في تغذية نمو العملات المشفرة في إفريقيا, أهمها:

أولا: تكلفة التحويلات العابرة للحدود

تؤدي التحويلات المالية للأفارقة المغتربين من الخارج إلى داخل بلدانهم دورا مهما في الاقتصادات الأفريقية. ووفقًا للبنك الدولي، كانت تدفقات التحويلات إلى إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى لعام 2019 قريبة من 48 مليار دولار أمريكي, وكانت نيجيريا وحدها استقبلت 23.8 مليار دولار – أي حوالي نصف إجمالي التحويلات المرسلة إلى المنطقة. ومع ذلك, تكلف هذه التحويلات وإرسال الأموال العابرة للحدود في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى مبالغ باهظة؛ فالتحويل المالي إلى دولة أفريقية يكلف المغترب مثلا 8.9 في المئة من (المبلغ المرسل) في المتوسط.

ولذلك يفضّل العديد من الأفارقة استخدام العملة المشفرة لإرسال الأموال العابرة للحدود عبر شبكة النظير للنظير مع تفضيلهم الشبكات والبوابات التي تتعامل بـ “بيتكوين” – بدلاً من التحويل عبر البنوك الوطنية, وذلك لأن إرسال الحوالات بالعملات المشفرة وعبر منصات النظير بالنظير غالبا ما لا يحمل أي تكلفة أو تكون التكلفة أقل بكثير من البنوك.

ثانيا: التضخم المفرط وتخفيض قيمة العملات المحلية

شهدت مختلف الدول الأفريقية في العقد الماضي أزمة اقتصادية وارتفاع معدلات التضخم وتخفيض قيمة العملات الوطنية؛ ففيما بين عامي 2016 و 2017 بلغ معدل التضخم في جنوب السودان حوالي 102 في المئة, كما واجهت دول مثل نيجيريا وزامبيا وغانا وكينيا وموزمبيق وزيمبابوي ارتفاعًا في معدلات التضخم وانخفاضا لقيمة عملاتها الوطنية. ولذلك كانت بعض أكبر اقتصادات العملات المشفرة في هذه الدول.

بل في حالة زيمبابوي؛ ارتفعت معدلات التضخم – الذي بدأ منذ أكثر من عقد من الزمان – إلى ما يقرب من 89.7 سكستليون في عام 2008, واستمر التضخم حتى عام 2016, مما أجبر الزيمبابويين على التخلّي عن العملات والمناقصة القانونية لصالح العملات الدولية وعلى رأسها الدولار الأمريكي. وقد أدّى النقص الحاد في الدولار الأمريكي أيضا إلى لجوء الناس على “بيتكوين”. وقد أشار المنتدى الاقتصادي العالمي إلى أن الاعتماد الكامل للعملات المشفرة في زيمبابوي قد يقلل من التلاعب بالمعاملات وسيوفر حوالي 90 مليون دولار سنويًا في التحويلات للبلاد.

من جانب آخر, كان موقف العديد من النيجيريين الشباب وأصحاب الشركات الرقمية أن العملات المشفرة والافتراضية وسيلة أكثر أمانًا للمعاملات حيث “تحميهم” عن عملاتهم الوطنية المتضخمة أو قيمتها المنخفضة في وجه العملات الدولية. ولا تزال نيجيريا تواجه التحديات الاقتصادية رغم تعافيها من الركود في ظل تداعيات وباء كورونا. وفي العام الماضي (2020) اضطر البنك المركزي النيجيري إلى خفض قيمة العملة الوطنية (نَيْرَا Naira) بنسبة 24 في المئة مما دفع المواطنين للبحث عن مصادر دخل بديلة أخرى شملت تداول العملات المشفرة في المعاملات العابرة للحدود. بل وأضافت العديد من الشركات في البلاد مكونات الدفع بالعملات المشفرة لإجراء الدفع عبر الانترنت أو تطبيقات الهاتف الذكي.

ثالثا: الدفع عبر الهاتف المحمول وسوق السلع في إفريقيا

يساهم ضعف البنية التحتية المصرفية ببعض دول القارة في تعزيز تبني العملات المشفرة في أفريقيا. وقد أطلقت بعض الحكومات والبنوك المركزية منصات الدفع عبر الهاتف المحمول والتي ساعدتْ بالفعل في توفير الوصول المصرفي للملايين في السنوات القليلة الماضية. بل وأصبحت منصات الدفع عبر الهاتف المحمول الطريقة الأساسية المعتمدة لدى التجار الصغار والأشخاص الذين لا يمكنهم الوصول إلى الأنظمة المصرفية التقليدية في المناطق الريفية.

يضاف إلى ما سبق أن أكثر من 60 في المئة من سكان أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى هم من المزارعين وأصحاب الحيازات الصغيرة، كما أن نحو 23 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي للمنطقة يأتي من الزراعة. والرغم من تصدّر القارة الأفريقية في مجال إنتاج المنتجات الزراعية مثل الكاكاو والطماطم والفانيليا وغيرها؛ إلا أن الإمكانات الزراعية الكاملة للقارة لا تزال غير مستغلة لعدم وجود بوابة موحدة لتداول السلع الزراعية من القارة وصعوبة الدفع العابرة للحدود, خاصة وأن الخيارات المتاحة بهذا الخصوص تكّلف المشتري مبلغا كبيرا وتكبّد البائع عناء الإدارة وصعوبة التعامل.

وبالتالي, فإن تعوّد المزارعين والتجار الصغار – والذين لا يمكنهم الوصول إلى الأنظمة المصرفية التقليدية في المناطق الريفية – على استخدام المنصات القائمة مثل منصات الدفع عبر الهاتف المحمول لعمليات الدفع داخل دولتهم يقرّب التعامل مع العملات المشفرة إلى العديد من الأفارقة الذين هم على دراية بالفعل بمفهوم “محفظة النقود الرقمية” (digital money wallet).

خاتمة

يمكن القول بأن العملات المشفرة – كأي استثمارات أو ابتكارات مالية أخرى – تحمل مخاطر كما يمكنها أن تكون حلا لبعض التحديات القائمة. وتؤكد سرعة تبنّيها في القارة – رغم الحظر والتهديد من قبل الحكومات والبنوك المركزية – على أن النظام المالي القائم غير فعّال إلى حد ما, وأن الكثيرين يتوقون إلى وسائل الدفع البديلة للأموال الأفريقية الضعيفة والتي لا يمكن الاعتماد عليها. بل الأولى للحكومة الأفريقية استغلال تطور التكنولوجيا المالية ووضع لوائح منظّمة للعملات المشفرة والافتراضية – بدلا من حظرها- لأن القارة ستشهد في السنوات القادمة درجة أكبر من الاعتمادًا والابتكار للعملات المشفرة والأنظمة المالية الجديدة.

- المدير التنفيذي للأفارقة للدراسات والاستشارات.
- باحث نيجيري مهتم بالتحولات السياسية والقضايا الاجتماعية والتنموية والتعليمية.
- حاصل على دكتوراه في الأصول الاجتماعية والقيادة التعليمية من الجامعة الإسلامية بماليزيا.