تقدير موقف - الأفارقة للدراسات والاستشارات https://alafarika.org/ar/amp/section/situation-report/ مؤسسة بحثية استشارية. Sat, 20 Apr 2024 18:42:31 +0000 ar hourly 1 https://wordpress.org/?v=6.5.2 https://i0.wp.com/alafarika.org/ar/wp-content/uploads/2022/08/cropped-Alafarisc-favc-1.png?fit=32%2C32&ssl=1 تقدير موقف - الأفارقة للدراسات والاستشارات https://alafarika.org/ar/amp/section/situation-report/ 32 32 209004356 الاقتصاد النيجيري.. التنقل عبر الظروف الصعبة https://alafarika.org/ar/5752/the-nigerian-economy-navigating-through-difficult-circumstances/ https://alafarika.org/ar/5752/the-nigerian-economy-navigating-through-difficult-circumstances/#respond Sat, 20 Apr 2024 14:01:48 +0000 https://alafarika.org/ar/?p=5752

إن تبني الحصافة والشمولية والقدرة على التكيف أمر بالغ الأهمية للتغلب على التحديات الاقتصادية ودفع نيجيريا إلى الساحة العالمية. كما أن زيادة الشفافية فيما يتعلق بالعملة الوطنية (نيرا) والقدرة على التنبؤ بسياسات إدارة سعر الصرف ستقلل من التشوهات في المخصصات في القطاعين الخاص والعام، وستضمن قدرة الوكلاء على الوصول إلى النقد الأجنبي في الوقت المناسب وبطريقة منظمة وبسعر متفق عليه. ومن الواضح أنه من خلال تنويع الاقتصاد والاستثمار في البنية الأساسية ورأس المال البشري وتعزيز الحكم الرشيد واحتضان التجارة الإقليمية والدولية تستطيع نيجيريا أن تطلق العنان لإمكاناتها الهائلة لتحقيق النمو الاقتصادي المستدام. وبينما تتغلب البلاد على تحدياتها، فإن قدرة المواطنين النيجيريين على التكيف في مواجهة الصعوبات المعيشية والاقتصادية واضحة، حتى وإن كان توقع آفاق اقتصادية أكثر إشراقًا ظل طمحا مشتركا للجميع كأمة.

ظهرت المقالة الاقتصاد النيجيري.. التنقل عبر الظروف الصعبة أولاً على الأفارقة للدراسات والاستشارات.

]]>

إعداد: أويباميجي أديسوجي – باحث لدى الأفارقة للدراسات والاستشارات

نقله إلى العربية (بتصرّف): أحمد عبد الرحيم البدوي

النسخة الانجليزية من المقال متوفرة هنا

تقع نيجيريا على خليج غينيا، ويتوقع أن ينمو عدد سكانها من أكثر من 186 مليون نسمة في عام 2016 إلى 392 مليون نسمة في عام 2050، مما سيجعلها رابع أكبر دولة في العالم من حيث عدد السكان. وهي دولة أفريقية متنوعة من حيث إثنيات سكانها وعاداتهم وثقافاتهم, كما تتمتع بموارد طبيعية وفيرة، ولا سيما احتياطيات كبيرة من النفط والغاز الطبيعي. والاقتصاد النيجيري اقتصاد مختلط لأنه ذو طبيعة رأسمالية بشكل أساسي وفق اللوائح الحكومية. ورغم اعتماد الاقتصاد على عائدات النفط إلا أنه يتضمن أيضا مجالات زراعية وتجارية وقطاعات أخرى, مما عززت كون نيجيريا واحدة من أكبر الاقتصادات في أفريقيا مع إمكانات هائلة للنمو والتنمية.

وفي الوقت الراهن يشكل قطاعا المعلومات والتكنولوجيا القوى الدافعة للاقتصاد النيجيري، حيث يحملان فرصاً هائلة للمستثمرين. وقد أشار الاقتصاديون إلى أن هناك العديد من الأحداث في الآونة الأخيرة التي ستفتح فرصًا لنمو الأعمال التجارية والتوسع في البلاد, وأن اتفاقية التجارة الحرة القارية الإفريقية ستتيح الوصول إلى سوق كبيرة للتجارة وتنذر بفرص مربحة, مع الإشارة إلى أن قيمة “نيرا” العملة النيجيرية، انخفضت بشكل كبير مؤخرًا، بسبب سلسلة من الأحداث المؤسفة.

التطورات الأخيرة: بيانات وأرقام

بلغ معدل التضخم معدلا سنويا بلغ 29.9% في يناير/كانون الثاني، مدفوعا بارتفاع أسعار المواد الغذائية الذي أثار أزمة تكلفة المعيشة في أكبر اقتصاد في أفريقيا. وفي الوقت نفسه، انخفضت عملة نيرا إلى أدنى مستوى لها على الإطلاق عند حوالي 1600 مقابل الدولار الأمريكي في أواخر فبراير 2024.

ومع ذلك, شهد القطاع الزراعي في نيجيريا زيادة كبيرة في قيمة الصادرات للسلع الأساسية المهمة في البلاد, حيث صدرت البلاد الواقعة في غرب إفريقيا سلعًا زراعية بقيمة 1.23 تريليون نيرا في عام 2023، وفقًا لتقارير التجارة الخارجية الواردة من المكتب الوطني للإحصاء (National Bureau of Statistics = NBS). وهذا الرقم يمثّل زيادة بنسبة 53 في المئة عن 583.3 مليار نيرة المسجلة في عام 2022. وقد يكون هذا الارتفاع بسبب الانخفاض الكبير في قيمة نيرا في عام 2023، مما أدى إلى زيادة قيمة إجمالي الصادرات بالعملة الوطنية (نيرا).

في عام 2022، بلغ الناتج المحلي الإجمالي لنيجيريا 477 مليار دولار أمريكي، في حين بلغ نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي 2.33 ألف دولار أمريكي. وفي الربع الثاني من عام 2023، بلغ الناتج المحلي الإجمالي لنيجيريا 52.1 تريليون نيرا، أي حوالي 66.84 مليار دولار أمريكي. ونما الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 2.54 في المئة (على أساس سنوي) بالقيمة الحقيقية في الربع الثالث من عام 2023 – وهو أداء أفضل من المتوقع. بل ويُعَدّ معدل النمو هذا أعلى من نسبة 2.25 في المئة المسجلة في الربع الثالث من عام 2022 وأعلى من نمو الربع الثاني 2023 البالغ 2.51 في المئة.

وكان أداء الناتج المحلي الإجمالي في الربع الثالث من عام 2023 مدفوعا بشكل رئيسي بقطاع الخدمات الذي سجل نموا بنسبة 3.99 في المئة, وساهم بنسبة 52.70 في المئة في إجمالي الناتج المحلي الإجمالي. ونما قطاع الزراعة بنسبة 1.30 في المئة ارتفاعاً من نمو 1.34 في المئة المسجل في الربع الثالث من عام 2022. كما بلغ نمو قطاع الصناعة 0.46 في المئة بتحسّن من -8.00 في المئة المسجلة في الربع الثالث من عام 2022. بل ساهمت حصة الناتج المحلي الإجمالي وقطاعات الزراعة والصناعة بشكل أقل في إجمالي الناتج المحلي الإجمالي في الربع الثالث من عام 2023, مقارنة بالربع الثالث من عام 2022. ونتيجة لتأثير كوفيد-19، تشير التقديرات إلى أن الناتج المحلي الإجمالي لنيجيريا قد انخفض بنسبة ما يقرب من 1.8 بالمئة خلال عام 2020. ومع ذلك، يقول المراقبون إن نيجيريا تواجه تحديات اجتماعية واقتصادية تواصل تخريب عملية التنمية في البلاد.

التحديات

كان الارتفاع المفاجئ في العائدات في نيجيريا نتيجة للازدهار النفطي سبباً في توليد موقف سياسي اعتبر أن الموارد لا تشكل مشكلة للبلاد، وأن كيفية إنفاقها هي المشكلة الحقيقية. وكان الحكومات المختلفة تنظر إلى الرقم المتزايد لإيصالات النقد الأجنبي على أنه سيدوم ما دامت الموارد متاحة. وهذا الموقف والتفكير أدّيا إلى توسّع غير منضبط في الإنفاق, وقول البعض إن التخفيضات في إيرادات النقد الأجنبي خلال السنوات العجاف (كما حدث في عام 1978) لن تكن سوى حدث مؤقت. وعدم المرونة في التوقعات صعّبت عمليات تخفيض النفقات على الفور، وأحدثت صدمات سلبية, ووضع أجبر الحكومة على الاقتراض الخارجي لتمويل أنشطتها الحكومية. ونتيجة لذلك، ظهر العجز المالي وصعوبات دفع الديون الخارجية والتي استمرت من مختلف الأنظمة السياسية السابقة إلى حكومة اليوم.

ويُضاف إلى ما سبق أن عدة أزمات اجتماعية لا تزال مستمرة على الرغم من مجيئ إدارة جديدة ربط النيجيريون آمالهم إليها. وهذه الإدارة بقيادة الرئيس “بولا أحمد تينوبو” الذي أدى اليمين الدستورية في 29 مايو 2023، بعد فوزه في الانتخابات الرئاسية في فبراير 2023. وهذه الأزمات تنحصر في انعدام الأمن, مثل أعمال اللصوصية والاختطاف، خاصة في المنطقة الشمالية الغربية، واستمرار التمرد من قبل الجماعات الإرهابية في الشمال الشرقي، والتحريض الانفصالي في الجنوب الشرقي.

وتشمل العقبات الرئيسية التي تعترض التنمية المستدامة في نيجيريا الفساد المستشري، وعدم كفاية البنية التحتية، وضعف التنوع الاقتصادي، والاعتماد المفرط على عائدات النفط، وارتفاع مستويات الفقر وعدم المساواة. وفي حين أن العوامل التي تؤثر على النمو الاقتصادي والتنمية في نيجيريا تشمل الإرهاب الذي يؤثر سلبا في أعمال المزارعين وقدراتهم الزراعية, والصراع المحلي والإقليمي, والإنفاق الحكومي والاستثمار المحلي؛ فإن العوامل اللازمة لتحقيق النمو الاقتصادي والتنمية المستدامة هي في المقام الأول الاستقرار السياسي والاستثمار ومزيج من المبادرات العامة والخاصة. بل وأصبحت إعادة النظر في هذه العوامل حاجة ملحة للزيادة الكبيرة في تكاليف المعيشة في السنوات القليلة الماضية, وكون الضروريات الأساسية مثل الغذاء والسكن والتعليم والرعاية الصحية أكثر تكلفة، مما جعل العديد من النيجيريين يكافحون من أجل الحفاظ على نفقاتهم اليومية.

وفي الوقت الحالي، تشهد نيجيريا اضطرابات اقتصادية عميقة، مما أدى إلى انخفاض القوة الشرائية والتضخم المفرط وانخفاض قيمة عملة نيرا. وهناك اضطرابات في سلسلة الإمدادات الغذائية رغم أن نيجيريا تملك موارد زراعية هائلة وغير قابلة للقياس لإطعام القارة الأفريقية بأكملها – وحتى التصدير إلى قارات أخرى, وذلك بالنظر إلى عدد سكان البلاد البالغ 210 مليون نسمة وفق تقدير عام 2023، وباعتبار أن نحو 55 في المئة من سكانها نشطون، بينما تبلغ مساحتها من الأراضي الصالحة للزراعة 91 مليون هكتار، مع أنه يتم استغلال 50 في المئة فقط من مواردها المائية رغم كمية الموارد المائية للبلاد وخصوبة تربتها والتضاريس المواتية والمناخ, الأمر الذي يجعل بعض الباحثين الاقتصاديين يصفون نيجيريا ضمن الدول الأكثر ثراءً لما تتوفر فيها من موارد مائية غير محدودة للتنمية الزراعية. ومع ذلك، فإن القيادة النيجيرية لا تُولي الاهتمام الكافي للقطاع الزراعي، اللهم إلا الوعود والكلمات الجوفاء من الحكومات المحلية في الولايات المختلفة مرورا إلى الحكومة الفيدرالية في أبوجا. وكانت أن تلقت الزراعة استثمارات منخفضة على مر السنين من حكومات البلاد.

السياسات والإصلاحات الاقتصادية

تتضمن السياسات الاقتصادية الرئيسية في نيجيريا: السياسة المالية والسياسة النقدية وسياسة جانب العرض (أو سياسة تنشيط العرض). وتتضمن السياسة المالية: الإنفاق الحكومي والضرائب, بينما تتعامل السياسة النقدية مع إدارة أسعار الفائدة وعرض النقود, وتركز سياسة جانب العرض على تحسين كفاءة الاقتصاد.

أما برامج الإصلاح الاقتصادي التي شهدتها البلاد في السنوات الأخيرة, فهي تشمل ما يلي: توحيد المؤسسات المالية؛ والخصخصة والتسويق؛ والتوطين؛ والتأميم؛ وإلغاء القيود التنظيمية. وتشمل برامج الإصلاح الأخرى الأدوار التي تؤديها بعض الوكالات الحكومية، مثل لجنة الجرائم الاقتصادية والمالية (Economic and Financial Crimes Commission = EFCC), والوكالة الوطنية لإدارة ومراقبة الغذاء والدواء (National Agency for Food and Drug Administration and Control (NAFDAC)، واللجنة المستقلة لممارسات الفساد والجرائم الأخرى ذات الصلة (Independent Corrupt Practices and Other Related Offences = ICPC)، ومنظمة المعايير النيجيرية (Standards Organization of Nigeria = SON)، وغيرها من الوكالات التي تنشط وتساهم في عماليات تشغيل وأداء الاقتصاد النيجيري.

وقد تعهد الرئيس الحالي “تينوبو” بمواصلة إصلاح الاقتصاد وضمان الأمن في جميع أنحاء البلاد, كما التزم المجتمع المدني ووسائل الإعلام والمجموعات المدنية الأخرى بمواصلة الدعوة للإصلاحات والإجراءات الرامية إلى تحقيق نتائج اقتصادية واجتماعية أفضل للمواطنين. وقد أعلنت إدراة “تينوبو” سلسلة من السياسات لمعالجة أزمة صرف العملات الأجنبية من خلال إيجاد طرق للتحكم في المراجحة والمضاربة المالية داخل النظام البيئي المالي. هذا, إلى جانب مجموعة من الإصلاحات الاقتصادية التي تهدف إلى تحرير الاقتصاد، مثل إلغاء دعم الوقود وتخفيف القيود على العملة الوطنية. وكان محافظ البنك المركزي النيجيري، “أولايمي كاردوسو”، منذ توليه منصبه في 5 أكتوبر 2023، يبذل جهودًا مختلفة لتحقيق استقرار الاقتصاد وترويض التضخم المتسارع.

مؤشرات التقدم والفرص

ففي نهاية المطاف، تلعب القدرة على جذب الاستثمار الأجنبي دوراً محورياً في تشكيل المسار الاقتصادي لنيجيريا وإقرار قوتها في مواجهة عدم الاستقرار العالمي. هناك حاجة ماسة إلى إصلاحات قطاعية حاسمة لدعم النمو الاقتصادي عريض القاعدة والقدرة التنافسية العالمية لنيجيريا. وفي الوقت الحالي حصلت نيجيريا على استثمارات أجنبية مباشرة بقيمة 30 مليار دولار لدعم اقتصاد البلاد منذ مايو 2023، خاصة في القطاعات الحقيقية للاقتصاد، بما في ذلك التصنيع والاتصالات والرعاية الصحية والنفط والغاز وغيرها. وفي حين ارتفعت واردات رأس المال إلى نيجيريا بنسبة 66 في المئة في الربع الرابع من عام 2023، مما يعكس انخفاضًا بنسبة 36 في المئة في الربع السابق، فقد تجاوز مؤشر جميع الأسهم في البورصة النيجيرية (Nigerian Stock Exchange All Share Index)  في يناير 2024 أيضًا علامة 100,000 نقطة، وهو أعلى مستوى له على الإطلاق.

جدير بالذكر أن البنك الدولي أشار إلى أن الإصلاحات الأخيرة في نيجيريا توفر نقطة انطلاق لـميثاق اجتماعي جديد للتنمية في البلاد. ومن شأن تعزيز أساسيات الاقتصاد الكلي أن يسمح بمواصلة الإصلاحات الهيكلية واستعادة النمو الاقتصادي. ومن الممكن تحويل التوازن الاجتماعي والاقتصادي المنخفض الحالي إلى توازن يتسم بدولة أفضل تمويلاً وأكثر فعالية توفّر خدمات عامة تتسم بالكفاءة والمنافع العامة وبيئة اقتصادية مواتية لازدهار القطاع الخاص وخلق المزيد من فرص العمل الجيدة للنيجيريين.

ومع ذلك، يرى الخبراء أن ما يحدث اليوم من الأزمات الاقتصادية – مثل التضخم المفرط وأزمة قيمة عملة نيرا وأزمة الديون وتحدي الإيرادات والبطالة والفقر المدقع وما إلى ذلك – غير مفاجئة, وذلك بالنظر إلى ما عاناه اقتصاد البلاد من سوء الإدارة لفترة طويلة, ولحقيقة أن الخيارات لها عواقب. وهناك جوع وغضب في مختلف المدن والقرى النيجيرية، وكانت السنوات العشر الماضية مدمرة بشكل خاص نتيجة سوء إدارة غير مسبوق للسياسة المالية والاقتراض الخارجي غير المنتج والعجز غير الضروري في الميزانية والإقراض غير القانوني من قبل البنك المركزي النيجيري للحكومة الفيدرالية بما يصل إلى 30 تريليون نيرا، إضافة إلى الفساد غير المسبوق.

وفي الختام؛ إن تبني الحصافة والشمولية والقدرة على التكيف أمر بالغ الأهمية للتغلب على التحديات الاقتصادية ودفع نيجيريا إلى الساحة العالمية. كما أن زيادة الشفافية فيما يتعلق بالعملة الوطنية (نيرا) والقدرة على التنبؤ بسياسات إدارة سعر الصرف ستقلل من التشوهات في المخصصات في القطاعين الخاص والعام، وستضمن قدرة الوكلاء على الوصول إلى النقد الأجنبي في الوقت المناسب وبطريقة منظمة وبسعر متفق عليه. ومن الواضح أنه من خلال تنويع الاقتصاد والاستثمار في البنية الأساسية ورأس المال البشري وتعزيز الحكم الرشيد واحتضان التجارة الإقليمية والدولية تستطيع نيجيريا أن تطلق العنان لإمكاناتها الهائلة لتحقيق النمو الاقتصادي المستدام. وبينما تتغلب البلاد على تحدياتها، فإن قدرة المواطنين النيجيريين على التكيف في مواجهة الصعوبات المعيشية والاقتصادية واضحة، حتى وإن كان توقع آفاق اقتصادية أكثر إشراقًا ظل طمحا مشتركا للجميع كأمة.

ظهرت المقالة الاقتصاد النيجيري.. التنقل عبر الظروف الصعبة أولاً على الأفارقة للدراسات والاستشارات.

]]>
https://alafarika.org/ar/5752/the-nigerian-economy-navigating-through-difficult-circumstances/feed/ 0 5752
باماكو و وقف إتفاق الجزائر: قراءة في الرهانات والتداعيات https://alafarika.org/ar/5732/%d8%a8%d8%a7%d9%85%d8%a7%d9%83%d9%88-%d9%88-%d9%88%d9%82%d9%81-%d8%a5%d8%aa%d9%81%d8%a7%d9%82-%d8%a7%d9%84%d8%ac%d8%b2%d8%a7%d8%a6%d8%b1-%d9%82%d8%b1%d8%a7%d8%a1%d8%a9-%d9%81%d9%8a-%d8%a7%d9%84%d8%b1/ https://alafarika.org/ar/5732/%d8%a8%d8%a7%d9%85%d8%a7%d9%83%d9%88-%d9%88-%d9%88%d9%82%d9%81-%d8%a5%d8%aa%d9%81%d8%a7%d9%82-%d8%a7%d9%84%d8%ac%d8%b2%d8%a7%d8%a6%d8%b1-%d9%82%d8%b1%d8%a7%d8%a1%d8%a9-%d9%81%d9%8a-%d8%a7%d9%84%d8%b1/#respond Tue, 02 Apr 2024 14:04:59 +0000 https://alafarika.org/ar/?p=5732

بالنظر إلى الأحداث المتسارعة التي تشهدها منطقة السّاحل الأفريقي ككل، وحالة الفوضى وعدم الاستقرار بدول المنطقة على غرار مالي، النيجر و بوركينافاسو، يتضّح بشكلٍ جلي تصاعد في إحتمالية زعزعة الاستقرار الأمني بغالبية الدول ذات الصلة المباشرة وغير المباشرة بهذا الحزام الهش

ظهرت المقالة باماكو و وقف إتفاق الجزائر: قراءة في الرهانات والتداعيات أولاً على الأفارقة للدراسات والاستشارات.

]]>

شهدت العلاقات المالية الجزائرية منذ النصف الثاني لسنة 2023 توترات واضحة المعالم، طبعت في أغلبها تباينات في المواقف الثنائية حول الأحداث والتصادمات الميدانية بدولة مالي، والتي ساهمت في تقويض حالة الاستقرار خاصة بالأراضي والأقاليم التي انسحبت منها القوات الفرنسية وعناصر حفظ السلام الأممية، وقد مثّل مطلع السنة الجارية ذروة التشنج في التعاطي السياسي الدبلوماسي بين البلدين، كان آخره قرار السلطات المالية أُحادي الجانب بإنهاء العمل باتفاق السّلم والمصالحة المعروف باتفاق الجزائر 2015، الذي تمّ إبرامه لإنهاء حالة الصراع والإقتتال الداخلي بشمال البلاد، وهو القرار الذي من شأنه أن يفتح الأبواب والمجال أمام قراءات وتحليلات مختلفة حول مستقبل الوضع الأمني بدولة مالي ومنطقة السّاحل الأفريقي.

تحاول هذه الورقة البحثية أن تعالج بالدراسة والتحليل الأبعاد والعوامل الأساسية المؤثرة بالسياق السياسي لبيئة وخلفية القرار المالي، وكذا رصد التداعيات المحتملة لخطوة إنهاء العمل باتفاق الجزائر للسلم والمصالحة، وتبيان مختلف الإنعكاسات والسيناريوهات الممكنة على الأوضاع الأمنية لدولة مالي، والتأثيرات الإقليمية المتوقعة جرّاء تنامي مؤشرات الممارسات العدائية المسلحة بشمال البلاد، الأمر الذي قد يُعيد دولة مالي إلى  المربع الأوّل لحالة اللاأمن التي عاشتها نهاية العقد الأوّل من الألفية الجديدة.

القرار المالي.. السياق والخلفيات

من الضروري جداً قبل التعمّق في تحليل أبعاد وتداعيات القرار المالي الأخير، بإعلان إنسحابها من ترتيبات بنود إتفاق الجزائر 2015 الذي رسّخ لبصيص من الأمل لتحقيق الأمن والإستقرار بالبلاد، عقب فترة زمنية من الصراع المسلح منذ سنة 2010 بين قوات الجيش المالي من جهة، وتشكيلات مسلحة غير نظامية بشمال البلاد من جهةٍ أخرى، أدخلت المجتمع المالي في دوامة من العنف والتصفيات العرقية القبلية[i]، واتّساعٍ لرقعة النزوح والهجرة السّكانية الداخلية وخارج البلاد باتجاه دول الجوار الشمالي، والتي مثّلت الجزائر أحد أبرز هذه الوجهات المقصودة، مع إصرار الأخيرة على تبني مقاربة ثنائية (الأمن والتنمية)[ii] لمجابهة هذه الظاهرة المتنامية منذ إندلاع الصراع الداخلي بمالي، وجعل من الجزائر الدولة الأكثر إستحقاقاً للعب دور الوساطة وإنفاذ إتفاق سلام فاعل.

منذ ذلك الحين خبِرت سلطات الحكم في دولة مالي عديد التجارب والتحديات لإدارة البلاد، وأثرت في مجملها على الوضع العام للإستقرار السياسي الأمني السّائد، ونتيجةً لإعتبارات صراعات المصالح وتوازنات القوة الداخلية، وكذا لطبيعة التحوّلات الجيوسياسية بالقارة الأفريقية بشكلٍ عام ومنطقة السّاحل بشكلٍ خاص، إصطدم الواقع السياسي المالي بقيام موجات إنقلابية عسكرية متتالية بدايةً من سنة 2020، أعقبتها بعد ذلك الإستيلاء على السلطة بتاريخ 24 ماي 2021 من قبل الضابط أسيمي غويتا ومناصريه[iii]، وهي الخطوة التي قوبلت بتنديد دولي (الولايات المتحدة الأمريكية، فرنسا، الإتحاد الأوروبي..) وإقليمي واسعين، ولم يُخفِ الرّئيس الفرنسي[iv] حينها رغبته في سحب قواته العسكرية (حوالي 5100 جندي في إطار عملية باراخان) من البلاد في حالة ما إذا تأكّد توجه باماكو صوب إقامة نظام راديكالي، وتباينت تحليلات المتتبعين وتفسيراتهم حول دوافع وأسباب الإنقلاب على إعتبار أنه نتيجةٌ حتميىة لسببين رئيسيين[v]، الأوّل متعلق بالتراكمات النخبوية الصراعية (الشمالي /الجنوبي) ذات الطابع التاريخي منذ إستقلال البلاد مطلع الستينات، فيما يتمثّل الثاني في التغيُرات الناجمة عن حالة التنافس الدولي المحتدم بمنطقة السّاحل الأفريقي، خاصةً بعد تصاعد الدور الرّوسي المتزايد في مقابل التواجد الفرنسي.

وتبعاً للتغيرات السياسية والأمنية التي شهدتها منطقة السّاحل الأفريقي ككل ومنطقة غرب أفريقيا، شهدت دولة مالي تصعيداً مفاجئاً في حدة التوتر بالإقليم الشمالي من البلاد، أين خاض الجيش المالي حملات عسكرية مختلفة بمحاور قتالية عدّة وسط وشمال البلاد[vi]، خاصّة في الفترة الممتدة مابين شهري أوت – ديسمبر 2023، كانت كلها ضد الجماعات المسلحة غير النظامية على غرار جماعة نصرة الإسلام[vii]..وفي هذا الإطار رصدت تقارير هيئة Armed Conflict Location & Event Data Project (ACLED)[viii] المختصة في النزاعات المسلحة أنّ سنة 2023 عرفت تزايداً ملحوظاً في نسبة إستهداف المدنيين فاقت %38، بحيث تسببت قوات الجيش المالي مدعومةً بتنظيم فاغنر الروسي بحوالي %29، إلى جانب %33 من إجمالي الأحداث عبر هجمات جماعة نصرة الإسلام أين قُدّر عددها بحوالي 180 هجوم، إضافةً إلى مانسبته %15 من طرف تنظيمات مسلحة غير نظامية أخرى بالشمال.

بتاريخ 25 جانفي 2024 أعلنت سلطات المجلس الإنتقالي الحاكم بدولة مالي عن إنهاء العمل بإتفاق الجزائر للسلم والمصالحة المبرم سنة 2015، وقد علّل الناطق باسم الحكومة عبد الله مايغا[ix] موقف بلاده إزاء هذه الخطوة في بيان رسمي متلفز بعدّة تبريرات ودوافع، بدأها بكون الجزائر مارست أعمالاً عدائية تجاه دولة مالي تدخل ضمن دائرة التّدخل الصارخ في الشؤون الداخلية للبلاد، وذلك على إثر اللقاءات الرّسمية الجزائرية مع ممثلي تنظيمات إنفصالية متمردة تنشط بشمال مالي، وكذا إستقبال شخصيات معروفة بمناوأتها للسياسة المالية على غرار الشيخ محمد ديكو، مما يجعل الجزائر حسب السلطات المالية دولة غير مؤهلة لتولي دور الوساطة بشكلٍ حيادي، وقد سبق هذا القرار إستدعاء السفير الجزائري بباماكو للتنديد بما تسميه السلطات المالية تعديّاً على سيادة الدولة من الجزائر، ومن جانب آخر إعتبرت السلطات الجزائرية في بيانٍ لوزارة الخارجية الخطوة المالية بأنها إستندت لإدعاءات غير واقعية، فيما أكّدت على أنّ القرار كان مُخططٌ له مسبقاً للتنصل من ترتيبات إتفاق الجزائر، الأمر الذي من شأنه أن يدخل البلاد والمنطقة في دوامة عنف ولا إستقرار جديدة، هذه التطوّرات وغيرها من الإنعكاسات فتحت المجال واسعاً لقراءات وتحليلات المتتبعين حول الرّهانات المالية جرّاء تبني باماكو لهذا التوجه من جهة، وكذا التداعيات المتوقعة على أمن واستقرار المنطقة ككل من جهةٍ أخرى.

باماكو ورهانات ما بعد الانسحاب من اتفاق الجزائر

بالرّغم من أنّ قرار القيادة الإنتقالية بالعاصمة باماكو إنسحابهم وإنهاء العمل بإتفاق الجزائر 2015، بدا للوهلة الأولى مفاجئاً لعدّة أوساط بحثية متباينة، إلا أنه بالنسبة لمتتبعي شؤون منطقة السّاحل الأفريقي عموماً، وللوضع السياسي- الأمني بدولة مالي على وجه الخصوص لم يتفاجأ بهذه الخطوة، وهذا ما عبّر عنه بشكلٍ صريح بيان وزارة الخارجية الجزائرية عند تعليقه على قرار الجارة الجنوبية، وعلى ضوء هذه المعطيات فإنّ المقاربة المالية لا تخلُ من إعتمادها على تصورات وقراءات مُعدّة مسبقاً، تساعدها في إبقاء الأسبقية والمقدرة على التحكم أكثر بزمام توازنات القوة الوطنية والإقليمية، تدخل كلها ضمن حزمة رهانات قد تتبناها السلطات في البلاد، للإستفادة إيجابياً من حالة فك الإرتباط أحادي الجانب من الاتفاق، بدل العودة إلى مربع العنف الأوّل، ويمكن إعتبار الإستناد للدعم الخارجي عن طريق قوات فاغنر الروسية من جهة، وتوليفة التحالفات الإقليمية المستقبلية الجديدة من جهةٍ أخرى، أحد أبرز هذه الرهانات الفاعلة على الإطلاق.

على مدى السنتين الماضيتين شهدت منطقة الساحل الأفريقي تحوّلات وتطورات متسارعة، تضمنت في مجملها مؤشرات بالغة الأهمية على إحتمالات تغيُّرات على خارطة التحالفات الإقليمية والدولية الفاعلة بربوع دول الإقليم، وفي هذا الإطار فقد صُنّفت الحركات الإنقلابية التي مسّت كلٌّ من بوركينافاسو، مالي والنيجر، ضمن سلسلة وموجة الظاهرة الإنقلابية التي ضربت عديد الدول الإفريقية خاصة بغرب القارة، ومنذ ذلك الحين تبلورت معالم تكتّل إقليمي جديد يربط الدول الثلاثة المذكورة، جعلت من مناوءة التواجد والنفوذ الفرنسيين هدفاً لها، واستخدمت بذلك عدّة مقاربات وآليات سياسية وأمنية، وتزامنت هذه التوجهات مع اتساع لرقعة التنافس الدولي بالمنطقة، فبالإضافة للأدوار المتعاظمة لروسيا الإتحادية، تزايد التسابق مابين الولايات المتّحدة الأمريكية والصين، مدفوعتان بوفرة المنطقة على إمكانيات إقتصادية هامة وكذا الفراغ الذي أحدثه التراجع الفرنسي على الساحة[x]، وقد سعت الدول الثلاثة في ذات السياق للعمل على تغيير قواعد اللعبة إقليمياً، كان آخرها إعلان الانسحاب الثلاثي أحادي الجانب من تكتّل الإيكواس لدول غرب أفريقا بتاريخ 28 يناير 2024، على إثر العقوبات الاقتصادية الصارمة التي تبنّاها التكتل في حقها، مع تعليق عضويتها في التكتل الإقليمي وفرض منطقة حظر جوي على الرحلات الجوية التجارية، فضلاً عن إغلاق الحدود البرية والبحرية، وكذا تجميد الأصول التي تحتفظ بها هذه الدول في البنوك المركزية للمجموعة[xi].

ويستند الرهان المالي في سياساته الجديدة، خاصّة عقب إعلانه الانسحاب وإنهاء العمل باتفاق الجزائر، إلى الرؤية الثلاثية المتصاعدة إلى جانب كل من بوركينافاسو والنيجر، بتشكيلهم تحالف وجبهة أمنية جديدة تعمل خارج صندوق المنطق “القديم” لمنطقة غرب أفريقيا المدعوم من السلطات الفرنسية صاحبة الوجود التقليدي، وهذا ما يُفسر خروج الدول الثلاثة هن تحالف دول السّاحل G5 وتشكيل تحالف إقليمي جديد تحت مسمى AES  منذ سبتمبر 2023، بهدف تنسيق التعاون المشترك، ودعم أي دولة من داخل دول الحلف تواجه أي تهديدات داخلية أو خارجية[xii]، وقبله إستقدام قوات فاغنر الرّوسية التي يتاوز وجودها الدور العسكري إلى مجالات أخرى تتصل بالحكم والإقتصاد، إذ يرى كثير من المحللين والمتتبعين لشؤون الساحل الأفريقي، أنها الذراع الروسية العسكرية التي من شأنها خلط أوراق التفاعلات الدولية بالقارة الأفريقية، وإعادة تشكيل توازنات قوة جديدة لسحب النفوذ من القوى الأوروبية والغربية التقليدية بالمنطقة[xiii]، وبالنسبة لدولة مالي خاصة عقب إنقلاب سنة 2021، فقد أصبحت تعتمد عليها كثيراً في إعادة ترجيح كفة القوة بشمال البلاد، وهو أحد التفسيرات الهامة لإلغاء الإلتزام ببنود إتفاق السلم والمصالحة المبرم بالجزائر سنة 2015 بين الجيش المالي والتنظيمات المسلحة الأخرى.

التداعيات القومية والإقليمية لقرار وقف العمل باتفاق السّلم والمصالحة

بالرّغم على مرور أزيد من عقد كاملٍ منذ الأحداث المأساوية التي شهدتها دولة مالي، جرّاء أعمال العنف والإقتتال الداخلي مابين الفرقاء والمكونات القبلية المتنوعة، إلا أنّ الوعي الجمعي للبلاد لايزال يتوجس ويتخوف من إحتمالية عودة الوضع الأمني إلى نقطة الصفر والبداية، وهو ذات التخوّف الذي أبدته غالبية دول المنطقة، باعتبار أنّ السلطات الماسكة بزمام الحكم بباماكو مهّدت لهذه الخطوة منذ فترة ليست بوجيزة، وأنّ جميع الحجج والتبريرات التي ساقتها لا أساس لها من الصحة، والأهم بالنسبة للسلطة المركزية هي إعادة ترتيب العلاقة مع التنظيمات المسلحة بشمال البلاد إتساقاً مع موازين القوة الجديدة، خاصة مع الدعم الكبير الذي تلقته المؤسسة العسكرية المالية من قِبل روسيا الإتحادية، عبر التواجد المتعاظم لقوات فاغنر المسلحة بالمنطقة.

وفي نفس السياق ومقارنةً بالظروف الجيوسياسية التي مرّت بها  المنطقة والناجمة عن الأزمة المالية سنة 2012 يجد أبعاداً وجوانب كثيرة من التشابه، فإالصراع والأزمة المالية مثّلت آنذاك حالة جدّ معقدة على مستوى دول الساحل الإفريقي، و ذلك لما ميزها من تداخلات و تركيبات عديدة في أبعادها و معالمها، فوفق تقرير صادرٍ عن هيئة  Peace Buildingالنرويجية لسنة 2013 حول الأزمة بمالي، فقد أشار إلى ثلاثة أبعاد أساسية للأزمة، ساهمت بشكل أساسي في ضبابية المشهد الأمني السياسي بمالي، و صعّبت من مهمة فرض و بسط الأمن و الإستقرار بها، و هذه الأبعاد كالتالي[xiv]:

  • أزمة سياسية و دستورية داخلية، متمثلة في الإنقلاب العسكري على الحكم بمالي بقيادة Amado Sanogo مما زاد من إحتمالات التدخل الأجنبي بالبلاد فيما بعد.
  • معضلة في الإندماج الوطني بدولة مالي أنتج أزمة إنفصالية Secessionist crisis ساهمت في بروز عدة جماعات مسلحة متمردة و ثائرة على السلطة المركزية الحاكمة منذ الستينات، من بينها الحركة الوطنية لتحرير أزاواد The National Movement for the Liberation on Azawad و الناشطة شمال البلاد.
  • إنتشار الجماعات الجهادية على غرار جماعة أنصار الدين، تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي و غيرها.

ترى عدّة تحليلات أنّ التراكمية التي تشكّلت من مخرجات السياسة المالية بالداخل والخارج، خاصّة منذ تولي المجلس العسكري الإنتقالي الحكم بالبلاد سنة 2021، ساهمت بشكلٍ دراماتيكي في حشر الدولة الأفريقية بزاوية العزلة القارية والدولية[xv]، وتنامت هذه العزلة خاصّةً في مقابل سياسات الدول الغربية الكبرى من جهة، والإصطفاف المالي مع التواجد الروسي بالمنطقة من جهةٍ أخرى، وتبنيه سياسات مناوئة للقوى الغربية على رأسها فرنسا، فمسار السلام والمصالحة الذي تسعى باماكو الآن إلى قطعه، من شأنه أن يضرّ بمصالحها الحيوية في شتى المجالات سياسية أمنية واقتصادية، ويجعلها تندرج تحت المسميات الغربية النمطية المعهودة (دولة مارقة، فاشلة، هشّة..)[xvi]، ومن جهةٍ عكسية أخرى قد تساهم هذه العزلة أيضاً في زيادة إحتقان الوضع الداخلي المتأزم أصلاً، والذي كثيراً ما تحاول السلطة المركزية أن تشتت وطأته بالتركيز على سردية المؤامرة الخارجية كجزء من سياسة رمزية للبقاء أكثر بالحكم، وإطلاق مبادرات وطنية عريضة تهدف لرصّ الصف الوطني في مجابهة الآخر، والتي كان آخر إعتزام القيادة العسكرية بالبلاد للإلتزام بعقد مباحداث حوار وسلام وطني بعيداً عن أي تدخلات خارجية أجنبية، إذ تبدو في ظاهرها غير شاملة لعدم إعترافها بقطاع كبير من مكونات الشعب المالي باعتبارهم يؤيدون “قوى متمردة إنفصالية[xvii]“.

إلا أنّ المتتبع لسيرورة السياسة المنتهجة من طرف السلطات الحاكمة بباماكو، يدرك تمام الإدراك مدى النفور الشديد الذي تبدية القيادة إزاء ممثلي الجماعات المسلحة الموقعة على إتفاق الجزائر 2015، إذ يعزز هذا الطرح النداءات المتتالية لهذه الحركات للوسطاء الدوليين على رأسهم الجزائر[xviii]، بضرورة العمل جاهدا لدفع بمتطلبات الاتفاق لإنجاح كافة جهود السلام بالبلاد، وقد واكبت هذه النداءات حالة التزايد وتضاعف المخاوف من الإجراءات الحكومية المحتملة ضد إتفاق السّلم والمصالحة، خاصة عقب الإنقلاب العسكري الأخير سنة 2021، وهو الموقف الذي يُرجّح بشكل قوي الطرح الجزائري الذي وصف الخطوة المالية بالمتوقعة سلفاً، وذلك بالنظر إلى الجولات المكوكية لمؤسسة الخارجية الجزائرية طيلة الفترة التي تلت الإنقلاب على النظام بمالي، وتنامي حدّة الخلافات والترتيبات الميدانية لقتال الجماعات المسلحة بشمال البلاد.

ولا يبدو البُعد الخارجي لإحتمالات التأثير الناجم عن قرار إنهاء إتفاق السلم والمصالحة بمنأى عن التقديرات السلبية للموقف، فمنطقة السّاحل الأفريقي وغرب أفريقيا لطالما مثّلت أكثر المناطق حاضنة للجماعات المسلحة المتمردة والمصنفة كحركات إرهابية، تنشط في أغلبها بخلفيات ومنطلقات متعددة الأهداف والرؤى العقدية والأيديولوجية، وفي هذا الإطار فإنّ السّاحل الأفريقي حصد أكبر قدر من الوفيات والضحايا جرّاء الأعمال الإرهابية سنة 2022 بنسبة قاربت %43 مقارنة ببقية مناطقة وأقاليم العالم[xix]، وتنامت التوجسات الدولية والإقليمية أكثر حول التداعيات السلبية لفقدان الاستقرار الأمني السياسي بدولة مالي، فالوضع الحالي يُذكّر بحالة الفوضى التي كانت تسود الإقليم قبل مايزيد عن عقد كامل من الزمن، إذ شكّلت حينها المنطقة ملاذاً آمناً وخصباً لمختلف الجماعات والتنظيمات الإرهابية النشطة بالصحراء، وفي هذا الإطار فإنه  لطالما صرّحت السلطات الجزائرية سابقاً بحجم التهديدات الناتجة عن حالة عدم الإستقرار بشمال مالي، و قد لخّصت صحيفة the diplomatic الأمريكية مخاوف السلطات الجزائرية، في إزدياد إحتمالية إنتشار الجريمة المنظمة، إنتشار و الإتجار بالسلاح عبر الحدود الجزائرية المالية، واستخدام كل الطرق الإجرامية الإرهابية التي من شأنها مساعدة هذه الجماعات على جلب تمويلات مالية لتكثيف نشاطها بالمنطقة[xx].

خاتمة:

بالنظر إلى الأحداث المتسارعة التي تشهدها منطقة السّاحل الأفريقي ككل، وحالة الفوضى وعدم الاستقرار بدول المنطقة على غرار مالي، النيجر و بوركينافاسو، يتضّح بشكلٍ جلي تصاعد في إحتمالية زعزعة الاستقرار الأمني بغالبية الدول ذات الصلة المباشرة وغير المباشرة بهذا الحزام الهش، ومن جانب آخر تلعب الوتيرة التنافسية وكذا الصراعية للقوى والدول الكبرى بالمنطقة، سواء صاحبة الوجود التقليدي التاريخي مثل فرنسا ودورها الفاعل في إدارة أهم الملفات السياسية، الاقتصادية والأمنية الجوهرية بالمنطقة، أو تلك القوى المتنامية الدور بالقارة الأفريقية مثل الصين و روسيا، فإن القراءات تبقى مفتوحة أما الأوضاع الأمنية على الأقل بالمنظور القريب.

الهوامش:

[i] – عبد الوهاب غربي، عبد الكريم شكاكطة، “تعقيدات الأزمة في مالي وانعكاساتها على الأمن الإقليمي في منطقة الساحل الأفريقي”. مجلة حوليات جامعة الجزائر 1، المجلد 35، العدد 3، 2021، ص 600

[ii] – وكالة الأنباء الجزائرية،”المقاربة الجزائرية لمحاربة الهجرة غير الشرعية مبنية على دعم السلم والأمن والتنمية”. تاريخ النشر : 23 جويلية 2023، على الرابط: https://bitly.ws/3cgJY ، تاريخ التصفح: 04/02/2024 .

[iii] – Eric Pichon, Mathilde Betant-Rasmussen,” Mali: Yet another coup”. European Parliamentary Research Service, at link: https://bitly.ws/3cBRP , published: june 2021, access: 05/02/2024

[iv] – David Doukhan ,“Military Coup in Mali – The Future of the Barkhane Force is Shrouded in Mist”. Link : https://bitly.ws/3cBRF , published : march: 2021,  access : 05/02/2024

[v]  – محمد صالح عمر، “انقلابات متتالية وأزمات سياسية.. أين تتجه الأوضاع في مالي؟ سؤال وجواب”. تاريخ النشر: 30/05/2021، على الرابط: https://bitly.ws/3cknN ، تاريخ التصفح: 04/02/2024.

[vi] – Lamine Keita, “Escalating violence in Mali is cutting people off from health care”. At: https://bitly.ws/3cE4f , published: 13/12/2023 , access: 07/02/2024.

[vii] – Lamine Keita, “People at serious risk as violence escalates in Mali”. At link: https://bitly.ws/3cE4J , published: 11/12/2023 , access: 07/02/2024.

[viii] – ACLED, “Fact Sheet: Attacks on Civilians Spike in Mali as Security Deteriorates Across the Sahel”. At link: https://bitly.ws/3cE5Y , published: 21/09/2023, access: 07/02/2024.

[ix] – الجزيرة نت، ” المجلس العسكري في مالي ينهي اتفاقا للسلام مع الانفصاليين”. على الرابط: https://bitly.ws/3cK9H  ، تاريخ النشر: 26/01/2024 ، تاريخ الإطلاع: 08/02/2024.

[x] – المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، “الجنوب العالمي : دوافع التنافس الصيني الأمريكي على النفوذ في غرب إفريقيا”. على الرابط: https://bitly.ws/3d7KY، تاريخ النشر: 12/02/2024 ، تاريخ التصفح: 13/02/2024.

[xi] – المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، بريكست إفريقيا:  الانعكاسات المحتملة لانسحاب بوركينا فاسو ومالي والنيجر من “الإيكواس”، على الرابط: https://bitly.ws/3d7L8 ، تاريخ النشر: 07/02/2024، تاريخ التصفح: 13/02/2024.

[xii] – المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، بريكست إفريقيا:  الانعكاسات المحتملة لانسحاب بوركينا فاسو ومالي والنيجر من “الإيكواس”، على الرابط: https://bitly.ws/3d7L8 ، تاريخ النشر: 07/02/2024، تاريخ التصفح: 13/02/2024.

[xiii] – ديرك كوب وكوسيفي تياسو وساندرين بلانشارد وبوب باري، “مجموعة فاغنر في أفريقيا.. أكثر من مجرد مرتزقة”. على الرابط: https://bitly.ws/YMZH ، تاريخ النشر: 18/04/2023، تاريخ التصفح: 14/02/2024.

[xiv] – david j. Francis,”the regional impact of the armed conflict and french intervention in mali”. Noref report – april 2013, norway: peace building,2013. P 01

[xv]  – أحمد عسكر، “توتر دبلوماسي:ما مآلات التصعيد الراهن بين الجزائر ومالي؟” . على الرابط: https://bitly.ws/3djxG ، تاريخ النشر: 27/12/2023، تاريخ التصفح: 16/02/2024.

[xvi] – James tasamba, “Does end of peace deal with rebels doom Mali’s hopes for peace?”. At link: https://bitly.ws/3dsSU  , 16/02/2024, access: 17/02/2024

 

[xvii] – James tasamba, “Does end of peace deal with rebels doom Mali’s hopes for peace?”. At link: https://bitly.ws/3dsSU  , 16/02/2024, access: 17/02/2024

[xviii]  – حسن جبريل، “علاقات الجزائر مع مالي على محكّ “حسن الجوار” ، على الرابط: https://bitly.ws/3dsVK ، 08/01/2024 ، تاريخ التصفح: 17/02/2024.

[xix] – Kate Hairsine, “ ECOWAS ‘weaker’ as Sahel trio quit the bloc”. At link: https://bitly.ws/3dsRH , published: 30/01/2024 , access: 17/02/2024.

[xx]  – محمد الأمين بن عودة، محمد بن شهرة، “التدخل الفرنسي بمالي وتأثيره على الرؤية الأمنية الجزائرية للحدود الجنوبية”، مجلة مرافئ للدراسات السياسية والقانونية، العدد 02، جانفي 2022. ص35

ظهرت المقالة باماكو و وقف إتفاق الجزائر: قراءة في الرهانات والتداعيات أولاً على الأفارقة للدراسات والاستشارات.

]]>
https://alafarika.org/ar/5732/%d8%a8%d8%a7%d9%85%d8%a7%d9%83%d9%88-%d9%88-%d9%88%d9%82%d9%81-%d8%a5%d8%aa%d9%81%d8%a7%d9%82-%d8%a7%d9%84%d8%ac%d8%b2%d8%a7%d8%a6%d8%b1-%d9%82%d8%b1%d8%a7%d8%a1%d8%a9-%d9%81%d9%8a-%d8%a7%d9%84%d8%b1/feed/ 0 5732
العلاقات الثنائية بين مالي والجزائر: محطات تاريخة ومطالب إقليمية لتحقيق التنمية والاستقرار https://alafarika.org/ar/5699/%d8%a7%d9%84%d8%b9%d9%84%d8%a7%d9%82%d8%a7%d8%aa-%d8%a7%d9%84%d8%ab%d9%86%d8%a7%d8%a6%d9%8a%d8%a9-%d8%a8%d9%8a%d9%86-%d9%85%d8%a7%d9%84%d9%8a-%d9%88%d8%a7%d9%84%d8%ac%d8%b2%d8%a7%d8%a6%d8%b1-%d9%85/ https://alafarika.org/ar/5699/%d8%a7%d9%84%d8%b9%d9%84%d8%a7%d9%82%d8%a7%d8%aa-%d8%a7%d9%84%d8%ab%d9%86%d8%a7%d8%a6%d9%8a%d8%a9-%d8%a8%d9%8a%d9%86-%d9%85%d8%a7%d9%84%d9%8a-%d9%88%d8%a7%d9%84%d8%ac%d8%b2%d8%a7%d8%a6%d8%b1-%d9%85/#respond Sat, 20 Jan 2024 08:05:37 +0000 https://alafarika.org/ar/?p=5699

تؤشر عودة العلاقات الدبلوماسية بين الجزائر ومالي إلى أن ما يجمع الجانبين أكثر بكثير من عوامل الخلاف, وأن التعاونات المشتركة التي تعود إلى ما قبل الاستقلال والروابط الاجتماعية والدينية للجارتين تستدعي منهما التعامل مع بعضهما البعض في العديد من الملفات الإقليمية والدولية, حيث يصعب ترجيح كفة التوتر على صالح التفاهم لما للتوتر من تداعيات وآثار سلبية لهما وللمنطقة, وبالتالي يجب عليهما اللجوء إلى حلقة وصل مشتركة بينهما في حالة ساءت الأمور.

ظهرت المقالة العلاقات الثنائية بين مالي والجزائر: محطات تاريخة ومطالب إقليمية لتحقيق التنمية والاستقرار أولاً على الأفارقة للدراسات والاستشارات.

]]>

تعدّ مالي دولة غير ساحلية في غرب أفريقيا بمساحة تفوق 1,241,238 كيلومتر مربع. ولها حدود في الشمال مع الجزائر، ومن الشرق مع النيجر، ومن الشمال الغربي مع موريتانيا، ومن الجنوب مع بوركينا فاسو وساحل العاج ومن الغرب مع غينيا والسنغال. ومما يجعل مالي دولة ذات أهمية استراتيجة في إفريقيا بشكل عام وفي الساحل بشكل خاص حيث  أن حدودها من الشمال تصل إلى عمق الصحراء الكبرى, ويقع الجزء الجنوبي من البلاد في السافانا السودانية ويمر عبرها نهري النيجر والسنغال. ويركز اقتصاد البلاد على الزراعة والتعدين ويتصدر مواردها الطبيعية الذهب الذي تعد مالي ثالث أكبر منتج له في أفريقيا.

وعلى مرّ العصور أثّر موقع مالي في المناطق الداخلية من غرب أفريقيا وساهمت خصائصها المادية والبشرية في تاريخ المنطقة بطرق متنوعة، وخاصة أن مالي تمثل توحيدًا للعديد من مجالات البيئة  ما بين الصحراء والمراعي القصيرة والطويلة وأطراف الغابات, مما منحت البلاد فرصا من حيث تهيئة الظروف للتجارة ومثلت تحدٍّيا من حيث إدارة المناطق وتنوعاتها الإثنية. وهذا التحدي يتجلى في انعدام الأمن الذي تعانيه مالي لسنوات عديدة وتتفاقم بسبب الهجمات التي تشنها الجماعات المسلحة غير الحكومية الموجودة في البلاد وخاصة في المناطق الحدودية مع الجزائر وبوركينا فاسو والنيجر. وهذا يعني أن استقرار العالمَين الجنوبي والشمالي مرهون باستقرار مالي وتعاونها الوثيق مع جيرانها بما في ذلك الجزائر.

وقد اتسمت العلاقات الدبلوماسية بين الجزائر ومالي بالصداقة وحسن الجوار منذ الاستقلال عن الاستعمار الفرنسي في ستينيات القرن الماضي, ولم تقتصر فحسب على العلاقات الثنائية القائمة على تبادل السفراء والزيارات الودية والتبادل الثقافي, وإنما تميزت بتداخل النسيج الاجتماعي حيث تستوطن قبائل الطوارق والعرب والسونغاي في شمال مالي وجنوب الجزائر عابرين الحدود, وخاصة أن بينهم علاقات عمومة، وكذلك دخول السلع. ويبدو ذلك جليا في مدن شمال مالي وأسواقها حيث البضائع الغذائية الجزائرية تنتشر في أسواق غاو وكيدال, بينما تستقبل الجزائر المنتجات الزراعية والماشية القادمة من مالي وجارتيها – النيجر وموريتانيا.

محطات تاريخة للعلاقات الثنائية بين الجزائر ومالي

حصلت مالي على استقلالها في 22 من سبتمبر 1960؛عندها توجهت باماكو للمعسكر الشرقي المتمثل في الاتحاد السوفيتي والصين, وخاصة أن رئيسها آنذاك “موديبو كيتا” كان توجهه اشتراكيا فأدار ظهره للغرب ودعا للوحدة الإفريقية ودعم حركات التحرّر الساعية إلى الحصول على الاستقلال والتخلص من سطوة الاستعمار. وكانت الجزائر الجارة التي لم تحصل على استقلالها بعد وكانت في حرب شعواء ضد المستعمِر الفرنسي راح ضحيتها من القتلى زهاء مليون ونصف شخص، وأُنشِئَت في تلك الأثناء نواة الجبهة الجنوبية للثورة التحريرية الجزائرية على الحدود النيجَرية المالية, وكانت مدينة غاو الواقعة شمال مالي قاعدةً خلفيةً ومقرا لنشاطهم المسلح. بل كان “أحمد درايعية” والرئيس الراحل “عبد العزيز بوتفليقة الملقب بـ”عبد القادر المالي” في صفوف المقاومة([1]) ومن أبرز وجوهها التي اتخذت من التراب المالي قاعدة تنسق منها العمليات للجنوب الجزائري.

وقد نجح الجزائريون بفضل جهودهم والمساعي الدبلوماسية والسياسية في انتزاع حقهم والاستقلال في 5 من يوليو 1962. وقويت علاقات مالي مع الجزائر, حيث من أبرز محطاتها توقيع اتفاقية وقف إطلاق النار في العاصمة المالية باماكو بين الجزائر والمغرب إثر المواجهات المسلحة التي دارت بينهما في عام 1962 على خلفية خلاف حول الحدود، وآتت جهود الرئيس “موديبو كيتا” أكلها حيث جمع الفرقاء بمباركة الاتحاد الافريقي ووُقِّعت الاتفاقية بحضور الرئيس الجزائري “أحمد بن بلة” وولي العهد المغربي آن ذاك الأمير “الحسن الثاني”. وهذه الخطوة من مالي وضعت حدّا للمواجهات الدامية بعد عجز وساطات كثيرة مثل مبادرة الرئيس المصري “جمال عبد الناصر” والامبراطور الأثيوبي “هيلا سيلاسي” والرئيس التونسي “الحبيب بورقيبه” وغيرها.

وفي حين تتبادل الجزائر ومالي الزيارات على مستوى رئاسة الجمهورية والوزراء؛ فإن العلاقة بين البلدين اتسمت والود وحماية مصلحة بعضهما وتعزيز استقرارهما وتنمية أراضيهما. ويدخل في هذا الإطار ما تفضّلت به الجزائر من تقديم القروض المالية والمساعدات الإنسانية([2]) لمالي, وإهداء المعدات العسكرية اللوجستية([3]). وهناك دور ناجع للجزائر في مساهمتها لإنهاء تمرد الطوارق الممتد عبر عشرات السنين من خلال خلقها قنوات الحوار بين الفصائل المتمردة والحكومة المركزية, حيث استثمرت الجزائر نفوذها وموقعها الاستراتيجي للضغط على الفصائل المتمردة ودعوتها للتفاوض مع الحكومة, وإقناعها على قبول الاتفاقيات, وهو ما ساهم في الاستقرار النسبي الذي شهده منطقة الساحل وأسفر عن اتفاقيات مختلفة منها اتفاقية تمنراست عام 1991([4]) واتفاقية الجزائر عام 2015 ([5]).

أسباب التوتر الأخير بين مالي الجزائر

في حفل الذكرى الستين لاستقلال الجزائر شاهده الرأي الوطني المالي الداعية الشهير الإمام “محمود ديكو” الذي يعدّ معارضا للحكومة المالية في منصة الشرف بجوار رؤساء الدول والوزراء والشخصيات, بينما غاب عنه السلطات الانتقالية المالية، وهو ما أدى إلى طرح تساؤلات حول ما إذا كانت السلطات الانتقالية بمالي مدعوة لحضور الحفل ولكنها رفضت الدعوة, أو أن باماكو اقتصرت على تمثيل سفيرها,  أو أنها علمت بحضور الإمام “ديكو” وآثرت الامتناع عن الحضور لما بينهما من خلافات. وهناك تساءل عن الهدف الحقيقي وراء دعوة الإمام رغم معرفة الجزائر لتوجهاته ومواقفه تجاه المجلس العسكري المالي.

إن التساؤلات السابقة فرضت جوا من عدم الارتياح والتكهن بالدخول في مرحلة صعبة من تاريخ العلاقات بين مالي والجزائر. وتأزم الوضع عندما سكتت الجزائر دون تهنئة حيال استعادة الجيش المالي مدينة كيدال معقل المتمردين بعد زحف قواته العسكرية نحو الشمال وسيطرتها على معسكرات بعثة الأمم المتحدة، بينما دول مثل روسيا والنيجر وتركيا وغيرها بعثت رسائل تهنئة([6]). بل لجأت قيادات التمرد بعد انسحابها ” تكتيكيا ” من كيدال إلى الجزائر وشرعت في إصدار بيانات ذات طابع عدائي، واستقبل الرئيس “عبد المجيد تبون” أيضا الإمام المؤثر “ديكو” الذي اعتبرته باماكو “شخصية معادية للمرحلة الانتقالية” دون إشعارها والأخذ بمشورتها, وهي تحركات أثارت حفيظة المجلس العسكري في مالي الذي اتهم السفير الجزائري بعقد اجتماعات مع الانفصاليين الطوارق دون إشراك باماكو واعتبر ذلك تدخلا في الشؤون الداخلية([7]).

وقد بلغ الوضع في يوم 21 من ديسمبر 2023 حد استدعاء السفراء وتبادل الصحف الاتهامات، حتى أن صحيفة الخبر المقربة من قصر المرادية وصفت رئيس المرحلة الانتقالية “آسمي غويتا” بالانقلابي الدموي([8]), بينما صحف مالية نشرت تأويلات ومزاعم حول اتفاقية الجزائر واصفة إياها ببذرة لتقسيم البلاد. وردت الجزائر على ادعاءات باماكو بأن مساعيها ترمي إلى دعم استقرار مالي وأمنها، وأكدت “اقتناعها الراسخ بأن اتفاق الجزائر يظل الإطار المناسب لحل الأزمة في مالي”، وأنها “تبذل كل ما في وسعها لمساعدة هذا البلد الشقيق على درب السلم والمصالحة الذي يبقى الضامن الوحيد لأمنه وتنميته وازدهاره”([9]).

على أنه في الأسبوع الأول من يناير 2023 بدأت بوادر حل الأزمة ورجع السفراء إلى مناصبهم. وهنالك أنباء عن زيارة مرتقبة لمسؤليين ماليين لبحث سبل وتعزيز العلاقات وتطويرها وتجديد الحوار، وخاصة أن اتفاقية إحلال السلام والأمن المنبثقة من مساعي الجزائر تسمح في أحد بنودها بالتعديل كما هو مقرر في المادة الـ65. وهذا يعني أنه يمكن البحث عن إطار تحاوري مع قادة التمرد ضمن مبادرة الرئيس الانتقالي “غويتا” والتي يدعو فيها الى حوار مباشر بين الماليين دون ضلوع وسطاء.

تقوية العلاقات المالية الحزائرية لتحقيق التنمية والاستقرار في الساحل

لم تَغِب الجزائر عن كافة ملفات النزاع بين الفرقاء الماليين, حيث مثل نجاحها نقطة إيجابية تؤكد قدرتها على إطار تعزيز مكانتها الإقليمية ولعب دورها كمحور هام لتثبيت الاستقرار في  منطقة الساحل عموما وفي مالي على وجه الخصوص. وهذا الدور يمكّنها أيضا من تثبيت قوتها الدبلوماسية أمام نظيراتها في شمال إفريقيا وأمام الرأي الوطني والدولي. وهذا الزخم الإقليمي يصبّ في صالح الجزائر للحصول على التأييد في القضايا التي تناصرها كقضية الصحراء والقضية الفلسطينية.

وفيما يتعلق بمالي؛ فإن الجزائر دائما ما تنادي بتمسكها بوحدة تراب هذه الجارة داعية باماكو في نفس الوقت إلى نبذ مبدأ التعامل باليد الحديدية لأسباب لعل أهمها:

  • أنه في حال نجاح التمرد في إقامة دولة ما تُسمى بـ “أزواد” قد يسعى طوارق الجزائر أيضا للهدف ذاته, وهو تهديد مباشر للأمن القومي الجزائري.
  • أن الجزائر تواجه ضغوطا داخلية تجبرها على التحرك في قضية التمرد بمالي وخاصة أن الانفصاليين يحظون بتعاطف أبناء عمومتهم – وإن كانوا لا يمثلون الأغلبية لا في الجزائر ولا حتى في الشمال المالي الذي يسكنه تنوع إثني كبير, مع الإشارة إلى وجود حركات دفاع من الطوارق توالي الحكومة المركزية المالية وتحارب الانفصاليين.
  • أن خطر الأنشطة المسلحة ما زال موجودا على أبواب الجزائر حيث أنشطة الجماعات الإرهابية في الساحل يشكل تهديدا لأمنها ومنشآتها النفطية. وقد سبق أن تسببت تلك الجماعات المتسللة الى الجنوب في خسائر لحقت بالمنشآت النفطية بعد أن تحالفت مع التمرد للسيطرة على مناطق الشمال المالي.

ويعني ما سبق أن كلا من مالي والجزائر بحاجة إلى بعضهما البعض لارتباطهما من حيث الاستقرار والتطوّر, ولحقيقة أن شعوب دول الساحل تظلّ ضحايا العنف والتهجير والنقص الحاد في الخدمات الإنسانية الأولية، بالإضافة إلى أن الانفتاح والعولمة ومؤشرات التقدم في دول أخرى أصبحت تثير تطلعات سكان هذه الدول إلى نهضة وتنمية ودعوات إلى تسخير ما تمتلكه دولهم من الثروات لتحقيق الرفاهية والاطمئنان.

ولتحقيق مصالح شعوبهما يحتاج المجلس العسكري في مالي إعادة النظر في طريقة استجابتها للوقائع ذات الطابع الدبلوماسي حيث لردود أفعالها تداعيات بالغة الأثر, كما تحتاج الجزائر إلى اعتبار المشاعر الرسمية ومراعاة طبيعة المشهد السياسي في جارتها. وللمساهمة في جهود مالي وغيرها للتنمية المستدامة واستفادة هذه الدول من الثروات النفطية تستطيع الجزائر عبر عملاق النفط شركة “سوناطراك” أن تدرس إمكانية الدخول في مفاوضات مع الحكومة المالية للوصول إلى اتفاق جديد بعد أن علقت أعمالها التنقيبية في عام 2012 نظرا لسوء الأوضاع الأمنية([10]), وذلك لما تمتلكه الجزائر من القدرة المادية والبشرية ومعرفتها لجغرافيا المنطقة وشعوبها.

وقد أولى العديد من الخبراء الاقتصاديين أهمية قصوى لمساعي ربط عواصم المغرب العربي بإفريقيا جنوب الصحراء عبر طريق بري عابر للصحراء, حيث يُعدّ من أهم المشاريع التي تربط عواصم تونس والجزائر ومالي والنيجر ونيجيريا ويحمل اسم “طريق الوحدة الافريقية”. بل ويتسم هذا المشروع بأبعاد محلية لإمكانية أن يكون الشريان المغذي للاقتصاد والتنمية في مناطق شمال مالي التي تهالكت فيها الطرق المعبدة بسبب الإهمال والتحديات الأمنية، كما أن له أبعادا جيوسياسية واقتصادية إقليمية لإمكانيته إيصال البضائع من إفريقيا إلى أوروبا عبر الجزائر. ويمتد الطريق من العاصمة الجزائر الى مدينة تمنراست([11]), حيث أكملت الجزائر حصتها من المشروع بنسبة تتجاوز 90% وستتكفل بإنشاء البنية التحتية لإحدى دوائر الجمارك على الطريق في النيجر، بينما بقيت مالي عالقة بنسبة إنجاز لم تتجاوز 50%, وهو ما يوفر فرصة للجزائر وغيرها من اقتراح الطرق والبدائل للسلطات في باماكو لإتمام حصتها من المشروع.

خاتمة

كشفت عودة العلاقات الدبلوماسية بين الجزائر ومالي أن ما عرفته من توترات غير مسبوقة نهاية عام 2023 وأن ما يجمع الجانبين أكثر بكثير من عوامل الخلاف وأن التعاونات المشتركة التي تعود إلى ما قبل الاستقلال والروابط الاجتماعية والدينية للجارتين اللتين تتقاسمان 1300 كلم من الحدود تستدعي منهما التعامل مع بعضهما البعض في العديد من الملفات الإقليمية والدولية, حيث يصعب ترجيح كفة التوتر على صالح التفاهم لما للتوتر من تداعيات وآثار سلبية لهما وللمنطقة, وبالتالي يجب عليهما اللجوء إلى حلقة وصل مشتركة بينهما في حالة ساءت الأمور.

ــــــــــــــــــ

[1]– جريدة النهار (2012). “عبد القادر المالي يحرر المالي”، عبر الرابط https://shorturl.at/eIJ59 (الاطلاع بتاريخ 17/01/2024).

[2]– وكالة الأنباء الجزائرية (2022). “الجزائر ترسل مساعدات إنسانية الى دولة مالي”. عبر الرابط https://shorturl.at/ehE16 (الاطلاع بتاريخ 17/01/202).

[3]– أصوات مغاربية ( 2020). “لأول مرة الجيش الجزائري يقدم مساعدات لوجستية لمالي”، عبر الرابط

https://shorturl.at/zFOU1 (الاطلاع بتاريخ 18/01/2024).

[4]– United Nations. «accord de cessation des hostilité». Récupéré de

https://shorturl.at/uJXZ2 (Date d’accès 18/01/2024)

[5]– United Nations. «accord pour la paix et la réconciliation issu de processus d’Alger 2015». Récupéré de

https://shorturl.at/cmxS9 (Date d’accès 18/01/2024)

[6]– Bamada.net (2023). «libération de kidal, pluie de félicitation». Récupéré de https://t.ly/ZbCSa

(Date d’accès 18/01/2024)

[7]– Eric Tabona (2023). «des villes malienne sous blocus des ex-rebelles». Récupéré de https://t.ly/wapHQ (Date d’accès 18/01/2024)

[8] – لزهر فضيل (2023). “مالي: الانقلابي غويتا يلعب بالنار”. جريدة الخبر الجزائرية, عبر الرابط https://t.ly/aEm-3 (تاريخ الاطلاع 18/01/2024)

[9]– محمد الشيخ (2023). “توتر العلاقات بين مالي والجزائر هل هو خلاف عابر”. الشرق الأوسط, عبر الرابط https://t.ly/IDC5h (تاريخ الاطلاع 18/01/2024)

[10] – “سوناطراك الجزائرية تعلق جميع اعمالها في مالي”. مركز الاتحاد للأخبار, عبر الرابط https://t.ly/uBPqm (تاريخ الاطلاع 17/01/2024)

[11]– Banque africaine de développement (2014). « La Route Transsaharienne : un projet d’environ 10 000 km pour la stabilité et la croissance inclusive au Maghreb et au Sahel ». Récupéré de https://t.ly/aI8Ya (Date d’accès 18/01/2024)

ظهرت المقالة العلاقات الثنائية بين مالي والجزائر: محطات تاريخة ومطالب إقليمية لتحقيق التنمية والاستقرار أولاً على الأفارقة للدراسات والاستشارات.

]]>
https://alafarika.org/ar/5699/%d8%a7%d9%84%d8%b9%d9%84%d8%a7%d9%82%d8%a7%d8%aa-%d8%a7%d9%84%d8%ab%d9%86%d8%a7%d8%a6%d9%8a%d8%a9-%d8%a8%d9%8a%d9%86-%d9%85%d8%a7%d9%84%d9%8a-%d9%88%d8%a7%d9%84%d8%ac%d8%b2%d8%a7%d8%a6%d8%b1-%d9%85/feed/ 0 5699
الصومال تنضم إلى “مجموعة شرق أفريقيا”: ماذا يعني ذلك للدولة والإقليم وأفريقيا https://alafarika.org/ar/5660/what-does-joining-the-east-african-community-mean-for-somalia-and-the-region/ https://alafarika.org/ar/5660/what-does-joining-the-east-african-community-mean-for-somalia-and-the-region/#respond Wed, 15 Nov 2023 13:05:12 +0000 https://alafarika.org/ar/?p=5660

يحمل قبول دولة جديدة – الصومال - في كتلة إقليمية - “مجموعة شرق أفريقيا” - أهميةً عميقة لأفريقيا ككل, وهو شهادة على التزام شعوب شرق إفريقيا بتعزيز الوحدة والسلام والازدهار وإيمان حكوماتهم المستمر بضرورة التعاون وتجاوز الحدود السياسية والجغرافية من أجل النمو والتكامل الإقيمي والقاري الأفريقي.

ظهرت المقالة الصومال تنضم إلى “مجموعة شرق أفريقيا”: ماذا يعني ذلك للدولة والإقليم وأفريقيا أولاً على الأفارقة للدراسات والاستشارات.

]]>

حامد ج. سليمان

باحث قانوني لدى الأفارقة للدراسات والاستشارات.

ظهرت أنباء عن أن الصومال في طريقها لتصبح الدولة العضو الثامنة في “مجموعة شرق أفريقيا” (East African Community = EAC) في قمة الكتلة الاقتصادية في ديسمبر القادم. ومن المقرر أن يكون هذا التوسع الوشيك للكتلة خطوة مهمة إلى الأمام في التكامل والتعاون الإقليميين.

وتعد “مجموعة شرق أفريقيا” منظمة إقليمية حكومية دولية يقع مقرها الرئيسي في أروشا بتنزانيا, وتتكون من سبع دول هي: جمهورية بوروندي وجمهورية الكونغو الديمقراطية وجمهورية كينيا وجمهورية رواندا وجمهورية جنوب السودان وجمهورية أوغندا وجمهورية تنزانيا المتحدة.

تمثّل مساعي انضمام الصومال إلى “مجموعة شرق أفريقيا” لحظة محورية في رحلة البلاد المستمرة نحو الاستقرار والنمو الاقتصادي. وبالنسبة لدولة واجهت عقودا من الصراع وعدم الاستقرار والتحديات الاجتماعية والاقتصادية، فإن هذه الخطوة تحمل وعدا كبيرا وتمثّل فرصة لتعميق علاقاتها الإقليمية وتعزيز التجارة وتبني مستقبل أكثر أمنا واستقرارا.

إن قرار الصومال بالانضمام إلى “مجموعة شرق أفريقيا”يجلب معه مجموعة معقدة من التحديات، بدءاً من مساعي تعزيز التنمية الاقتصادية إلى تنسيق السياسات والقواعد التنظيمية التجارية. كما أن التحديات والفرص والآثار المترتبة على هذا القرار التاريخي متعددة الأوجه، مثل تاريخ الأمة المعقد.

ويرى “عبد السلام عمر” – وزير خارجية الصومال السابق والمبعوث الرئاسي الخاص الحالي ل”مجموعة شرق أفريقيا” – أن قرار الصومال الوشيك بالانضمام إلى “مجموعة شرق أفريقيا” هو انعكاس لرؤية البلاد الإستراتيجية لمستقبل أكثر استقرارًا وازدهارًا اقتصاديًا.

فمن ناحية, يتيح التكامل الاقتصادي داخل “مجموعة شرق أفريقيا” للصومال فرصة لتنويع اقتصادها وتحفيز النمو, إذ تدرك البلاد أن كونها جزءًا من كتلة اقتصادية إقليمية أكبر قد يفتح الأبواب أمام زيادة التجارة والاستثمار والوصول إلى أسواق جديدة. وبينما تسعى الصومال إلى إعادة بناء اقتصادها وبنيتها التحتية بعد عقود من الصراع، يُنظر إلى هذه الخطوة على أنها خطوة حيوية نحو جذب الاستثمار الأجنبي ودفع عجلة التنمية الاقتصادية.

ومن ناحية أخرى, يُعَدّ الأمن والاستقرار السياسي من العوامل الحاسمة وراء اختيار الصومال للانضمام إلى “مجموعة شرق أفريقيا”, إذ تدرك الدولة أن التعاون الإقليمي يمكن أن يعزز الجهود الأمنية ومبادرات مكافحة الإرهاب والعلاقات الدبلوماسية مع جيرانها. وبالتالي، من خلال التحالف مع الدول المجاورة في”مجموعة شرق أفريقيا” تهدف الصومال إلى تعزيز موقفها في معالجة المخاوف الأمنية المشتركة وتعزيز السلام وضمان مستقبل مستقر لمواطنيها.

ويضاف إلى ما سبق أن هناك انتقادات مثارة ضد الحكومة الصومالية وتشكيك في هذه الخطوة من قبل بعض الاقتصاديين وخبراء الأمن. ومع ذلك، هناك شعور بالحس العملي في القرار الذي اتخذته الصومال بالسعي للحصول على عضوية “مجموعة شرق أفريقيا”. وتشكل المزايا المترتبة على تنسيق السياسات والمعايير والقواعد التنظيمية التجارية مع جيرانها في شرق أفريقيا سبباً أكيداً آخر لهذه الخطوة، إذ لا يؤدي هذا إلى تبسيط التجارة عبر الحدود فحسب، بل يبسط أيضًا الإجراءات الإدارية، مما يؤدي في نهاية المطاف إلى تقليل الحواجز والتكاليف التجارية. ويعكس القرار الصومالي أيضا منظوراً استشرافياً يهدف إلى تسخير فوائد التعاون الإقليمي لتحقيق الصالح العام لمواطنيها ومنطقة شرق أفريقيا برمتها.

عملية الانضمام إلى “مجموعة شرق أفريقيا”

بدأت الصومال العملية بتقديم طلب للانضمام إلى “مجموعة شرق أفريقيا” في عام 2012، ولكن الكتلة الاقتصادية الإقليمية لم تبدأ على الفور مهمة التحقق لتقييم مدى استعداد الصومال للعضوية حتى 25 يناير 2023 – أي بعد 11 عامًا. وفي 6 يونيو 2023 وافق رؤساء دول الكتلة في بوجمبورا ببوروندي على استنتاجات فريق التحقق, وهو ما أتاح لمجلس الوزراء وأمانة “مجموعة شرق أفريقيا” بدء المحادثات مع مقديشو بشأن عضوية الصومال.

ومما تغطيه المحادثات جميع ركائز التكامل في إطار “مجموعة شرق أفريقيا”. كما أنه من خلال ذلك سيتم مقارنة القوانين والأنظمة المعمول بها في الصومال, الإضافة إلى تحديد موعد وضع الصومال القوانين موضع التنفيذ ومواءمتها مع قوانين الدول الأعضاء في الكتلة.

ووفقا لـ “عبد السلام عمر”، فإن “الطريق إلى الأمام بالنسبة لأفريقيا وشرق أفريقيا هو التكامل الإقليمي وفتح الأسواق، حيث سيساعد ذلك على خفض تكلفة المنتجات؛ فالتكامل هو العدو اللدود للنوع الجديد من الإرهاب، ومع التكامل والتعاون الإقليميين ستتم هزيمة الإرهاب.”

وأضاف “عبد السلام عمر” أن “هناك الكثير الذي تأمل الصومال كسبه, وللإقليم أيضًا الكثير لتكسبه من الصومال بسبب ارتباطها بالشرق الأوسط وبالشتات في أوروبا وأمريكا وفي كل مكان.”

وتجدر بالذكر أن جميع الدول الأعضاء تحترم المبادئ والمثل العليا الواردة في معاهدة إنشاء “مجموعة شرق أفريقيا”، والتي تحدد إجراءات الانضمام أو قبول الأعضاء في الكتلة. وفي أغلب الأحيان “يقدم قادة كل دولة عضوٍ التوجيهاتِ العامة والدوافع لتطوير وتحقيق أهداف المجموعة من خلال جهاز علوي في “مجموعة شرق أفريقيا” يعرف باسم القمة”.

وتنعقد القمة، وهي تجمّع لرؤساء دول وحكومات الدول الأعضاء في “مجموعة شرق أفريقيا”، سنويًا للنظر في المسائل التي يعرضها عليها مجلس الوزراء ولتحديد الأولويات المهمة على أعلى مستوى سياسي في إقليم شرق إفريقيا.

وتحتوي المادة 3 من معاهدة “مجموعة شرق أفريقيا” على أحكام قبول الأعضاء في الكلتة. وكانت جمهورية الكونغو الديمقراطية أحدث عضو ينضم رسميًا إلى الكتلة في مارس 2022، وهو ما ساهم في توسيع المجموعة ليصل إجمالي عدد دولها إلى سبعة, وسيصل عدد الأعضاء ثمانية في حال إضفاء الطابع الرسمي على الصومال في القمة القادمة.

عضوية الصومال: آفاقها وإمكاناتها

إن الصومال، باعتبارها دولة تتمتع بسواحل طويلة على طول المحيط الهندي وموارد زراعية وصيد الأسماك ومعدنية غير مستغلة، تحمل وعداً بالنمو الاقتصادي والازدهار. تتمتع البلاد بإمكانات هائلة في موقعها الاستراتيجي ومواردها الطبيعية وسكانها الصامدين. وهذا يعني أن إضفاء الطابع الرسمي على انضمام الصومال في “مجموعة شرق أفريقيا” في قمة ديسمبر المقبلة لا يقل عن كونه تحويلياً, إذ سيمكّن حصول الصومال – على مقعد على طاولة هذه الكتلة الاقتصادية الإقليمية الديناميكية – من الوصول إلى عدد كبير من الفرص اقتصاديًا وسياسيًا.

ومن الناحية الاقتصادية، فإن إمكانات الصومال داخل “مجموعة شرق أفريقيا” هائلة, حيث ستوفر لها عضوية الكتلة منصة هامة للتجارة والاستثمار. ومن الممكن أن تؤدي القدرة على التعامل مع الاقتصادات الإقليمية الراسخة إلى زيادة الاستثمار الأجنبي المباشر وخلق فرص العمل والتنويع الاقتصادي. ومن الممكن أن تجد موارد الصومال غير المستغلة – مثل قطاعي الزراعة وصيد الأسماك – أسواقا وفرصا جديدة داخل “مجموعة شرق أفريقيا”، مما يعزز النمو ويحد من الفقر.

ومن الناحية السياسية، سيعزز انضمام الصومال إلى “مجموعة شرق أفريقيا” مكانتها كلاعب نشط ومحترم في شؤون شرق أفريقيا. وسيمكّن هذه الدولة أيضا من أن يكون لها صوت دبلوماسي أقوى ودور أكثر تأثيراً في معالجة التحديات الإقليمية، بما في ذلك القضايا الأمنية وحل النزاعات المحلية والوطنية والإقليمية.

ماذا يعنيه لإقليم شرق أفريقيا

لا شك أن توسّع “مجموعة شرق أفريقيا” سيواصل تعزيز الديناميكية الاقتصادية في إقليم شرق أفريقيا. ومن الممكن للصومال – بفضل إمكاناتها الزراعية الهائلة وموقعها الاستراتيجي – أن تصبح لاعباً مهماً في التجارة والاستثمار الإقليميين. وهذا من شأنه أن يؤدي إلى زيادة التكامل الاقتصادي وخلق فرص العمل والرخاء المشترك، مما يعود بالنفع على الشعب الصومالي و”مجموعة شرق أفريقيا” بأكملها.

كما أن التشارك بين الدول الأعضاء في الكتلة غالبا ما يعزز أمن الإقليم واستقراره السياسي. وتوفر مشاركة الأعضاء في الكتلة فرصًا للتعاون في جهود مكافحة الإرهاب وإدارة الحدود وحل النزاعات. وهذا من شأنه أن يسهم في جعل شرق أفريقيا أكثر وحدة وأمانا واستقرارا. ومن ثم فإن صوت الصومال في الشؤون الإقليمية من الممكن أن يساعد في معالجة المخاوف الأمنية المشتركة وتعزيز الحوار الدبلوماسي.

ومما كشفته التطورات الأخيرة في الإقليم أن تعزيز التعاون الإقليمي في شرق أفريقيا بحاجة إلى دور صومال بارز. ومن خلال التزام الصومال بالتعاون والتكامل الإقليميين تستطيع “مجموعة شرق أفريقيا” أن توفر لها منصة لإعادة البناء والمشاركة بشكل بناء في الأنشطة السياسية والاقتصادية في الإقليم. بل سيكون نجاح ضم الصومال وتعزيز التكامل بمثابة شهادة على قدرة “مجموعة شرق أفريقيا” على الجمع بين الدول رغم اختلافاتها وتحقيق الأهداف المشتركة – مثل وجود عملة موحدة في الإقليم.

ماذا يعنيه للقارة الأفريقية

إن قبول دولة جديدة – الصومال – في كتلة إقليمية – “مجموعة شرق أفريقيا” – يحمل أهمية عميقة لأفريقيا ككل, وهو شهادة على التزام شعوب شرق إفريقيا بتعزيز الوحدة والسلام والازدهار وإيمان حكوماتهم المستمر بضرورة التعاون وتجاوز الحدود السياسية والجغرافية من أجل النمو والتكامل الإقيمي والقاري الأفريقي.

ويمكن لانضمام الصومال إلى “مجموعة شرق أفريقيا” أن يساهم في تأكيد قدرة القارة على حل الصراعات والتعافي في مرحلة ما بعد الصراع, حيث شهد ماضي الصومال المضطرب خروجه من سنوات من عدم الاستقرار والحرب الأهلية والصراع السياسي. وسيكون انضمامها إلى الكتلة الإقليمية رمزاً للأمل والقدرة على الصمود، إضافة إلى إظهار قدرة أفريقيا على تضميد جراح الصراع ومدّ يد الصداقة والدعم. وهو بمثابة شهادة على قوة المنظمات الإقليمية في مساعدة الدول على إعادة البناء وإعادة تأسيس نفسها على طريق التقدم والتنمية.

ومن الممكن أن يساعد التعاون الإقليمي المتزايد في معالجة التحديات الأمنية المعقدة التي لم تؤثر على الصومال فحسب، بل على الدول المجاورة أيضًا. ويسلط هذا النهج الجماعي الضوء على قدرة الدول الأفريقية عندما تستعد للعمل معًا لحماية السلام والرفاهية لشعوبها. وكل هذه الإجراءات والخطوات من الصومال والكتلة بمثابة منارة أمل ورمز للتضامن الأفريقي، وتؤكد على الرؤية الجماعية لتحقيق قارة مسالمة ومزدهرة وموحدة قادرة على فرض نفسها ونفوذها ومكانتها في الساحة العالمية.


يمكنك الاطلاع على النسخة الانجليزية من المقال هنا:

Somalia to join the EAC: What does it mean for the country, region, and Africa?


ظهرت المقالة الصومال تنضم إلى “مجموعة شرق أفريقيا”: ماذا يعني ذلك للدولة والإقليم وأفريقيا أولاً على الأفارقة للدراسات والاستشارات.

]]>
https://alafarika.org/ar/5660/what-does-joining-the-east-african-community-mean-for-somalia-and-the-region/feed/ 0 5660
“تحالف دول الساحل” : تهديد لنفوذ إيكواس؟ https://alafarika.org/ar/5652/%d8%aa%d8%ad%d8%a7%d9%84%d9%81-%d8%af%d9%88%d9%84-%d8%a7%d9%84%d8%b3%d8%a7%d8%ad%d9%84-%d8%aa%d9%87%d8%af%d9%8a%d8%af-%d9%84%d9%86%d9%81%d9%88%d8%b0-%d8%a5%d9%8a%d9%83%d9%88%d8%a7%d8%b3%d8%9f/ https://alafarika.org/ar/5652/%d8%aa%d8%ad%d8%a7%d9%84%d9%81-%d8%af%d9%88%d9%84-%d8%a7%d9%84%d8%b3%d8%a7%d8%ad%d9%84-%d8%aa%d9%87%d8%af%d9%8a%d8%af-%d9%84%d9%86%d9%81%d9%88%d8%b0-%d8%a5%d9%8a%d9%83%d9%88%d8%a7%d8%b3%d8%9f/#respond Sun, 12 Nov 2023 09:18:42 +0000 https://alafarika.org/ar/?p=5652

يمكن اعتبار هذا التحالف الدفاعي درسا أو إنذار لإيكواس من حيث إيلاء أهمية قصوى للتنمية والحكم الرشيد مع ضرورة بحث آليات الحد من الانقلابات بجميع أشكالها – بما في ذلك معاقبة الرؤساء الذين يغيّرون دساتير بلادهم للبقاء على الحكم مدى الحياة أو الزعماء الذين يتلاعبون بالعمليات الانتخابية وأصوات مواطنيهم كي تصب نتائجها لصالحهم أو صالح مرشحيهم المفضلين.

ظهرت المقالة “تحالف دول الساحل” : تهديد لنفوذ إيكواس؟ أولاً على الأفارقة للدراسات والاستشارات.

]]>

في منصف سبتمبر الماضي وقّعت ثلاث دول في الساحل (مالي وبوركينا فاسو والنيجر) اتفاقية دفاع مشترك باسم “تحالف دول الساحل”, وذلك للتعاون بينها لمكافحة الأزمات الأمنية ومساعدة بعضهم البعض في حالة وقوع هجوم على أي منها([1]). وهذا التحالف الدفاعي الجديد مختلف عن “تحالف الساحل” الذي أنشأته فرنسا وألمانيا والاتحاد الأوروبي في يوليو 2017 للتدخل العسكري وتمويل مشاريع التنمية في منطقة الساحل.

فما الاعتبارات السياسية والأمنية التي أدت إلى ظهور تحالف دول الساحل؟ وهل يشكّل تهديدا للمجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (إيكواس)؟ وما احتمالية نجاح التحالف وفشله؟

اعتبارات سياسية وأمنية

سعت المجالس العسكرية في مالي وبوركينا فاسو والنيجر إلى التحالف بينها بعد انقلاب 26 يوليو 2023 الذي قاده الجنرال عبد الرحمن تشياني وأطاح بـ “محمد بازوم” الرئيس النيجري الموالي للغرب, حيث تصاعدت المخاوف لدى المجلس العسكري في النيجر من إمكانية التدخل العسكري بعد التهديد من إيكواس لإعادة النظام الدستوري في البلاد. وقد تراجعت حدة هذا التهديد من إيكواس في الأسابيع الأخيرة حيث دولة مثل نيجيريا التي يرأس رئيسها “بولا أحمد تينوبو – هيئة رؤساء الدول والحكومات التابعة للإيكواس – لم تُبْدِ أي إرادة حقيقية للتدخل العسكري في جارتها, وخاصة أن نيجيريا نفسها تعاني أزمات بوكو حرام وانفصاليين في أجزاء كثيرة من البلاد.

ويرتبط إنشاء التحالف الجديد بحقيقة أن موجة الانقلابات التي بدأت في عام 2020 أثّرت سلبا في علاقات فرنسا مع مالي وبوركينا فاسو والنيجر, حيث الشعور العام بين شعوب تلك الدول أن هذا المستعمر السابق – فرنسا – على أراضيها لم يكن لمساعدتها على حل أزماتها الأزمنية[2], ولكن للهيمنة على ثروات هذه الدول ومواردها الطبيعية وبذل جهودها لإبقاء حلفائها على سدّة الحكم رغم أنف الانتقاد والمعارضة والرفض من قبل المواطنين. وساهم في توتر علاقات فرنسا مع هذه الدول حقيقة أن فرنسا رفضت الاعتراف بالمجالس العسكرية التي لم يكن يسيطر عليها حلفاؤها.

وعلى سبيل المثال: تدهورت علاقات مالي مع باريس بعد استيلاء المجلس العسكري على السلطة في انقلاب أغسطس 2020، وهو تطور أدى إلى انسحاب القوات الفرنسية وطلب السلطات العسكرية بمالي أيضا من القوات الأوروبية وبعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الأبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي (مينوسما) مغادرة البلاد. وفي حالة بوركينا فاسو التي شهدت في سبتمبر 2022 انقلابا عسكريا أطاح بالرئيس المؤقت “بول هنري سانداوغو داميبا” (قائد انقلاب يناير 2022 الذي أطاح بالرئيس روك مارك كريستيان كابوري), فقد طالب المجلس العسكري بقيادة “إبراهيم تراوري” من فرنسا سحب قواتها.

وفي النيجر, أدى رفض باريس الاعتراف بالسلطة العسكرية الجديدة ومخاوف من استخدام قواتها للإطاحة بالمجلس العسكري, إضافة إلى تصرحات دبلوماسييها المنتقدة للانقلابيين؛ كلها أدت إلى طلب المجلس العسكري النيجري من القوات الفرنسية ودبلوماسييها ترك أراضيها. ورغم رفض باريس هذا الطلب في البداية بدعوى عدم شرعية سلطة الحكومة العسكرية([3]), إلا أن باريس أذعنت في النهاية لضط النيجر ونقلت قواتها إلى تشاد المجاورة.

وفي ظل تراجع النفوذ الفرنسي؛ تواصل روسيا تعزيز وجودها وتتعاون مع المجلس العسكري في كل من مالي وبوركينا فاسو, بينما في حالة انقلاب النيجر لا توجد أدلة واضحة حتى الآن عن دور روسيا فيه حيث أن الدافع الأساسي لحدوثه قد يكون طموحات شخصية للجنرالات العسكرية([4]). وتؤكد على هذا حقيقة أن الولايات المتحدة الأمريكية التي يتمركز نحو 1000 من جنودها في النيجر تبنّت موقفا تصالحيا مع المجلس العسكري, وأنها لم تصف ما حدث بانقلاب إلا بعد مرور شهرين حيث أعلنت واشنطن عن ضرورة الحفاظ على تواصلها مع قادة الانقلاب وعدم مغادرة الجيش الأمريكي لأنه لا يصب في “مصلحة” الدولتين (النيجر) أو الدول الأخرى في المنطقة مثل غانا وتوغو وبنين. وهذا يعني أن واشنطن فضّلت البقاء في النيجر تحت حكومة عسكرية بهدف إبطاء انتشار نفوذ روسيا في الساحل ومراقبة التعاملات المحتملة للنيجر مع فاغنر وإيران وغيرها من منافسي الولايات المتحدة الأمريكية.

ومن الناحية الأمنية؛ تعاني هذه الدول الثلاث المتحالفة تحدّيا أمنيا أجبر هذه الدول على استضافة مهمات عسكرية من فرنسا التي قادت مع جهات محلية ودولية لأكثر من عقد عمليات متعددة مثل برخان (التي انتهت في عام 2022) وسَبْري (Sabre, التي انتهت في عام 2023). وتعدّ ليبتاكو-غورما – التي يحمل ميثاق التحالف اسمها – منطقة شاسعة تلتقي فيها حدود مالي وبوركينا فاسو والنيجر وتبلغ مساحتها 370 ألف كيلومتر مربع ويسكنها 45 في المئة من إجمالي سكان الدول الثلاث. وتعاني المنطقة أيضا تمرداً مسلحاً بدأ في شمال مالي عام 2012 وامتدّ إلى النيجر وبوركينا فاسو في عام 2015.

على أن المهام العسكرية الفرنسية اكتسبت في السنوات الأخيرة تصورا سلبيا نتيجة تفاقم الأوضاع الأمنية ومزاعم تعاون باريس مع بعض المسلحين. إضافة إلى أن القوة المشتركة لمجموعة الساحل الخمس (بوركينا فاسو وتشاد ومالي وموريتانيا والنيجر) لم تكن مؤثرة بسبب افتقارها للموارد واعتمادها على التمويل الأجنبي.

ومما يؤكد الاعتبارات الأمنية لتشكيل هذا التحالف الدفاعي الجديد ما أشار إليه القائد العسكري المالي “آسمي غويتا” في إعلان التوقيع على ميثاق ليبتاكو-غورما الذي أنشأ التحالف, إذ قال إن “أي اعتداء على سيادة وسلامة أراضي طرف أو أكثر من الأطراف المتعاقدة سيعتبر اعتداءً على الأطراف الأخرى”, وأن الدول الثلاث ستعمل معا لمنع أو تسوية التمردات المسلحة.

تهديد لفوذ إيكواس وبداية انهيارها؟

يرى البعض أن ظهور التحالف الدفاعي بين مالي وبوركينا فاسو والنيجر يهدد إيكواس ونفوذها في غرب إفريقيا؛ إذ في حالة خروج 3 دول (من إيكواس المكونة من 15 عضوا) من أي اتفاق عسكري قائم داخل الكتلة سيحثّ دولا أخرى لفعل الشيء نفسه تضامنا مع تلك الدول الثلاث أو تمرّدا على قرار الكتلة التي لا يصب في مصلحتها, وخاصة أن التحالف الجديد أشار إلى أن أبوابه مفتوحة لانضمام أي دولة تتفق وجهات نظرها معها.

ومما يعضد الموقف السابق أن معظم شعوب غرب إفريقيا عارضوا العقوبات التي فرضتها إيكواس على النيجر في أعقاب انقلاب يوليو الماضي والتي شملت إغلاق الحدود وقطع الكهرباء والتهديد بالتدخل العسكري الذي أجبر الانقلابيين في جيران النيجر (بوركينا فاسو ومالي) إلى إيجاد ترتيب مناسب للتغلب على مخاوفهم من عدم اليقين والتوتر المتصاعد مع فرنسا. بل استغلّ الانقلابيون هذه العقوباب والتهديد من إيكواس والشعور المعادي لفرنسا للترويج لفكرة أن زعماء إيكواس – بغض النظر عن انتخابهم ديمقراطياً – كانوا أداة لفرنسا, رغم أن لمعظم هؤلاء الانقلابيين أنفسهم روابط وتعاونات مهنية وعسكرية سابقة مع فرنسا أو حلفائها.

ويضاف إلى ما سبق أن هناك جهودا أمنية أخرى في المنطقة سبقت هذا التحالف الجديد, وهي “مبادرة أكرا” التي أُنشِئت في عام 2017 وتضم كأعضاء بنين وبوركينا فاسو وساحل العاج وتوغو, وذلك لمواجهة التهديدات الإرهابية في الساحل المتجهة جنوبًا. وتحظى المبادرة منذ إنشائها بدعم إقليمي ودولي([5]). ويعني ظهور تحالف جديد أن المنطقة أمام مبادرتين أمنيتين قادرتين على تقسيم المنطقة دون الإقليمية – إحداها تقف إلى جانب إيكواس والأخرى إلى جانب المجالس العسكرية-, الأمر الذي سيشتّت الانتباه الإقليمي ويقلل من التعاون وتوحيد الجهود بغرب إفريقيا والساحل فيما يتعلق بالاضطرابات التي تهدد السلام.

احتمال النجاح والفشل

تواجه مالي وبوركينا فاسو والنيجر ضعفا في القدرات الفنية واللوجستية العسكرية اللازمة لمحاربة تهديدات الإرهاب والتمرّد المسلح, كما أن قدراتها الاقتصادية محدودة لتمويل تحالفها الدفاعي كي يكون فعالا على المستوى دون الإقليمي. وقد يعني تركيزها على الجهود العسكرية فقط تجاهلا للأسباب الجذرية لظهور معظم هذه التمردات, مثل تدهور الظروف الاجتماعية والاقتصادية والمظالم الإدارية في المناطق النائية والتي تدفع بالشباب إلى الانضمام إلى الإرهابيين والمسلحين. وقد كشفت جهود مكافحة الإرهاب في دول إفريقية مخلتفة أن تبنّي العمليات العسكرية وحدها – دون معالجة تحديات الحكم الرشيد – غالبا ما يعزّز التصعيد والعنف ضد المدنيين ويطيل أمد انعدام الأمن([6]).

وفي حين أن روسيا هي المستفيد الأكبر من تراجع النفوذ الفرنسي في الساحل, إلا أن جميع المؤشرات تؤكد أن لجوء هذه الدول إلى روسيا قد لا يلبي جميع متطلباتها الأمنية الراهنة. وقد يستغل التحالف اعتراف واشنطن بالحكومة العسكرية في النيجر لصالحه, أو تبحث مع أطراف دولية أخرى مثل تركيا والصين. وهناك إيران التي تسعى نحو تعزيز التعاون مع الدول الإفريقية للتخفيف عن عزلتها ومواجهة آثار العقوبات الصارمة المفروضة عليها بعد انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي الذي تم التفاوض عليه دوليا في عام 2018, وخاصة أن الرئيس الإيراني “إبراهيم رئيسي” أكد عن استعداد طهران للتعاون الاقتصادي مع النظام العسكري بالنيجر الغنية باليورانيوم خلال اجتماعٍ مع وزير الخارجية النيجري “بكاري ياو سانغاري”([7]).

وأخيرا, يمكن اعتبار هذا التحالف الدفاعي درسا أو إنذار لإيكواس من حيث إيلاء أهمية قصوى للتنمية والحكم الرشيد مع ضرورة بحث آليات الحد من الانقلابات بجميع أشكالها – بما في ذلك معاقبة الرؤساء الذين يغيّرون دساتير بلادهم للبقاء على الحكم مدى الحياة أو الزعماء الذين يتلاعبون بالعمليات الانتخابية وأصوات مواطنيهم كي تصب نتائجها لصالحهم أو صالح مرشحيهم المفضلين.

وفيما يتعلق بالتحالف الدفاعي بين مالي وبوركينا فاسو والنيجر(تحالف دول الساحل)؛ فإن الحكومات العسكرية في تلك الدول االثلاث قد تواجه في السنوات القليلة المقبلة انتقادات شعبية أو معارضة داخلية أو احتجاجات ضدها من قبل المواطنين الذين لم يروا حدوث أي تغيير منذ توليها للسلطة. وقد يكون التحالف فعالاً أيضا كمنصة للانقلابيين الجدد والمجالس العسكرية في تأمين ظهر بعضهم البعض ضد أي قوة إقليمية أو معارضة قارية ودولية.

ـــــــــــــــــ

[1] – Moda Dieng & Philippe M. Frowd (2023). “Burkina Faso, Mali and Niger have a new defence alliance: an expert view of its chances of success”. The Conversation, retrieved from https://shorturl.at/bwQV2 (visited on November 11, 2023).

[2] – Isabelle King (2023). “How France Failed Mali: the End of Operation Barkhane”. Harvard International Review, retrieved from https://shorturl.at/uPQTW (visited on November 11, 2023)

[3] – Leila Abboud, & Aanu Adeoye (2023). “France to withdraw troops from Niger by end of year”. Financial Times, retrieved from https://shorturl.at/rvyBF (visited on November 11, 2023)

[4] – محمد طاهر زين (2023). “انقلاب النيجر: أسبابه وأبعاده وتداعياته”. الأفارقة للدراسات والاستشارات, عبر رابط https://alafarika.org/ar/5603/ (اطلع عليه في 11 نوفمبر 2023)

[5] – Sampson Kwarkye , Jeannine Ella Abatan, & Michaël Matongbada (2019). “Can the Accra Initiative prevent terrorism in West African coastal states?”. ISS Africa, retrieved from https://shorturl.at/cwAL3 (visited on November 11, 2023)

[6] – United Nations (SC/15249/2023). “Root Causes of Conflicts in Africa Must Be Addressed beyond Traditional Response, Special Adviser Tells Security Council Debate on Silencing Guns”. Meetings Coverage and Press Releases (9299TH Meeting), retrieved from https://shorturl.at/grAWZ (visited on November 11, 2023)

[7] – “Iran ready to cooperate with Niger’s new regime.” TRT Afrika, retrieved from https://shorturl.at/cmLPQ (visited on November 11, 2023)

ظهرت المقالة “تحالف دول الساحل” : تهديد لنفوذ إيكواس؟ أولاً على الأفارقة للدراسات والاستشارات.

]]>
https://alafarika.org/ar/5652/%d8%aa%d8%ad%d8%a7%d9%84%d9%81-%d8%af%d9%88%d9%84-%d8%a7%d9%84%d8%b3%d8%a7%d8%ad%d9%84-%d8%aa%d9%87%d8%af%d9%8a%d8%af-%d9%84%d9%86%d9%81%d9%88%d8%b0-%d8%a5%d9%8a%d9%83%d9%88%d8%a7%d8%b3%d8%9f/feed/ 0 5652
انقلاب النيجر: أسبابه وأبعاده وتداعياته https://alafarika.org/ar/5603/%d8%a7%d9%86%d9%82%d9%84%d8%a7%d8%a8-%d8%a7%d9%84%d9%86%d9%8a%d8%ac%d8%b1-%d8%a3%d8%b3%d8%a8%d8%a7%d8%a8%d9%87-%d9%88%d8%a3%d8%a8%d8%b9%d8%a7%d8%af%d9%87-%d9%88%d8%aa%d8%af%d8%a7%d8%b9%d9%8a%d8%a7/ https://alafarika.org/ar/5603/%d8%a7%d9%86%d9%82%d9%84%d8%a7%d8%a8-%d8%a7%d9%84%d9%86%d9%8a%d8%ac%d8%b1-%d8%a3%d8%b3%d8%a8%d8%a7%d8%a8%d9%87-%d9%88%d8%a3%d8%a8%d8%b9%d8%a7%d8%af%d9%87-%d9%88%d8%aa%d8%af%d8%a7%d8%b9%d9%8a%d8%a7/#respond Fri, 28 Jul 2023 22:06:58 +0000 https://alafarika.org/ar/?p=5603

قد تحاول الحكومة العسكرية الجديدة إجراء تغييرات يمكن أن تؤثّر في التوازن السياسي في النيجر, ولكن أحد الدروس المستفادة من هذا التطور أن النخبة الحاكمة غالبا ما تفضّل مصالحها على المصلحة العامة, كما أن التجارب الديمقراطية في عدد من الدول الإفريقية تتجاهل كيفية التعامل بشكل بناء مع المظالم الحقيقية التي يواجهها مجتمعات هذه الدول, رغم أن مجرّد إجراء الانتخابات لا تضمن الإجابة على المظالم العامة أو أسباب الاحتجاجات واستياء المواطنين. وهذا لا يعني بالطبع أن العسكر أنفسهم الذين يأتون إلى السلطة عبر الانقلابات وباستغلال شكاوى المواطنين مستعدون لترسيم المسارات البديلة لمعالجة تلك المظالم أو إعادة الأمور إلى نصابها اللائق.

ظهرت المقالة انقلاب النيجر: أسبابه وأبعاده وتداعياته أولاً على الأفارقة للدراسات والاستشارات.

]]>

اندلعت حالة من التوترات في النيجر يوم الأربعاء 26 يوليو، حيث قام أفراد من الحرس الرئاسي بقيادة الجنرال عبد الرحمن تشياني (ويدعى عمر تشياني في بعض التقارير)، بإغلاق الطرق المؤدية إلى مقر إقامة الرئيس النيجري ومكاتب القصر الرئاسي في نيامي. وفي ساعة متأخرة من ليلة 27 يوليو ، بدا اكتمال عملية الانقلاب العسكري الذي  قادته مجموعة من أعضاء الحرس الجمهوري للرئيس محمد بازوم، حيث أعلن العسكريون تشكيل مجلس انتقالي تحت اسم “المجلس الوطني لحماية الوطن”، وظل الرئيس محمد بازوم محتجزًا في مقر إقامته ، كما تم تعليق العمل بالدستور وحظر التجول في العاصمة، وأغلقت الحدود. وقد أثار الانقلاب موجة انتقادات دولية، وخاصة من الحلفاء الغربيين الذين يرون في بازوم حليفًا استراتيجيًا في منطقة الساحل المضطربة بأنشطة الجماعات الإرهابية.

أسبابه والضباط الرئيسيون في المجلس العسكري

تُرجع معظم التقارير المحلية في النيجر السبب وراء هذا الانقلاب العسكري إلى خلافات سياسية داخل الحكومة، حيث قرر الرئيس الحالي محمد بازوم إجراء تغييرات في الجيش النيجري، واستبدال رئيس أركان الجيش ورئيس الدرك الوطني في أبريل 2023. وقرر بازوم أيضًا إبعاد الجنرال تشياني من قيادة الحرس الرئاسي تدريجيًا، مما أدى إلى انقسام داخل الحرس ودفع ببعض أعضائه إلى الانقلاب ضده.

أما المجموعة العسكرية التي احتجز الرئيس بازوم, فهي تابعة للحرس الرئاسي النيجري, وهي وحدة نخبة خاصة تتكون من حوالي 700 جندي مدربين. ويقود هذه الوحدة الجنرال تشياني الذي جُنِّد في الوحد عام 2011, وينتمي إلى منطقة تيلابيري غربي النيجر بالقرب من الحدود مع مالي, كما يعدّ أحد حلفاء الرئيس السابق محمد إيسوفو الذي حكم النيجر حتى عام 2021. ويوصف الجنرال أيضا كشخصية مثيرة للجدل في السياسة النيجرية, حيث قاد المقاومة التي أحبطت محاولة انقلاب فاشلة في مارس 2021 عندما حاولت وحدة عسكرية الاستيلاء على القصر الرئاسي قبيل أداء بازوم، المنتخب وقتذاك، لليمين الدستورية كريس للبلاد.

وفي يوم الجمعة الموافق 28 يوليو 2023 عيّن عبد الرحمن تشياني نفسه رئيسًا للحكومة الانتقالية تحت مسمى “المجلس الوطني لحماية الوطن”، وذلك بعد يومين من إطاحة وحدته بـبازوم, الرئيس المنتخب ديمقراطيًا. وأشار المجلس العسكري إلى أن السبب وراء خطوتهم هو تدهور الوضع الأمني, رغم التحسّن الملموس من تعامل النيجر لأنشطة المسلحين مقارنة بجيرانها في مالي وبوركينا فاسو قبل الانقلابات فيهما. وهذا الزعم من قبل المجلس العسكري يدعمه الاعتقاد الشعبي السائد بأن التعامل مع الاضطرابات المتزايدة بحاجة إلى الإجراءات الصارمة العسكرية فقط نظرا لسيطرة الحركات الإرهابية على الأراضي وشن هجمات في المنطقة الحدودية الثلاثية بين مالي والنيجر وبوركينا فاسو. بينما هناك من يشكّ في ما إذا كان المجلس العسكري سيحقق نجاحًا أكبر في مواجهة الإرهابيين مقارنة بحكومة بازوم.

ويضاف إلى ما سبق أنه رغم استناد المجلس العسكري الذي نفذ الانقلاب إلى الجنرال عبد الرحمن تشياني، رئيس الحرس الرئاسي، إلا أنه لم يكن حاضرًا أثناء الإعلان عن الانقلاب يوم الخميس, حيث تلا بيان الانقلاب أمادو عبد الرحمن ضابط في القوات الجوية النيجرية. ويتكون المجلس العسكري من العديد من الضباط ذوي الرتب العالية، وهو ما يرجح أن يكون الانقلاب نتيجة صراع داخلي أو محاولات السيطرة وتوسيع دائرة النفوذ المركزية. ويشمل هؤلاء الضباط الجنرال محمد تومبا من القوات البرية، والجنرال موسى سالاو برمو، قائد القوات الخاصة، ونائب القائد الأعلى للحرس الرئاسي، وأحمد سيديان مساعد رئيس الوزراء السابق بريجي رافيني، والعقيد إبراهيم أحمدو بشارو، أحد قادة الحرس الرئاسي, والعقيد عبد الكريم خيمة القائد الثاني للدرك الوطني والعقيد و إبّانكاويل أسّاحابا، المدير العام المساعد للشرطة.

جدير بالذكر أن الجنرال تشياني البالغ من العمر 62 عامًا أشار, أثناء ظهوره على التلفزيون الحكومي يوم الجمعة, إلى أن التدخل كان ضروريًا لتجنب “الزوال التدريجي والحتمي” للبلاد, أنه رغم سعي بازوم لإقناع الناس بأن “كل شيء يسير على ما يرام … إلا أن الواقع القاسي (هو) كومة من القتلى والنازحين والإذلال والإحباط”.

أبعاده المحلية والإقليمية والدولية

إن هذا الانقلاب سادس الانقلابات في غرب إفريقيا خلال ثلاث سنوات (واحد في غينيا واثنان في كل من بوركينا فاسو ومالي)، وهو ما أدّى إلى ظهور وصف “حزام الانقلاب” للإقلبم وسط مخاوف من تداعيات هذه التطورات على أمن منطقة الساحل, وهي حزام من الأرض يمتد من المحيط الأطلسي إلى البحر الأحمر, والتي تعدّ النيجر جزءا رئيسيا منها. وهي من المناطق الإفريقية التي تعاني الاضطرابات السياسية وعدم الاستقرار الأمني في السنوات الأخيرة.


تقرير مرتبط باللغة الانجليزية:

Niger and the Sahel: Are Coups the Last Resort?


ومما يجعل هذا الانقلاب في النيجر مثيرا للاهتمام أنه أطاح بأول تجربة ديمقراطية للبلاد, حيث كان الرئيس بازوم أول رئيس منتخب يخلف رئيسا آخر في النيجر منذ استقلالها عن فرنسا عام 1960. وقد انتهت هذه التجربة بعدما علّق المجلس العسكري دستور البلاد مع  الجنرال عبد الرحمن تشياني رئيساً للدولة.

وتحظى النيجر بدعم الدول الغربية التي تنظر إليها على أنها حصن ضد نشر النفوذ الروسي في الساحل, حيث يعدّ النخبة الحاكمة وجنرالات البلاد حلفاء للغرب وشركاء فرنسا ضد النفوذ الروسي والمجالس العسكرية في الدول المجاورة. ولكن هذه النظرة الغربية والتعاون النيجري الفرنسي قد لا يدومان طويلاً؛ إذ منذ اليومين الماضيين بدأت النيجر تشهد تزايد الأعلام الروسية التي ترفرف بين بعض المواطنين والشعارات المرتفعة التي تنادي بـ “لا للإمبريالية” و “لا للقوات العسكرية الفرنسية”, حيث خرج مئات الأشخاص وتجمعوا أمام الجمعية الوطنية في نيامي للتعبير عن دعمهم للانقلاب، ويطالبون بتدخل روسيا وانسحاب القوات الفرنسية من النيجر.

ويحاول الرئيس السابق محمد بازوم مقاومة الانقلاب بدعم من حلفائه، بما في ذلك المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (ايكواس) التي يقودها رئيس نيجيريا بولا تينوبو، والتي فشلت في التوصل إلى اتفاق مع قائد العملية الانقلابية. وفي المقابل، أعلن وزير الخارجية النيجري هاشم مسعود (العروف أيضا بـ مسعود حاسومي) نفسه رئيساً مؤقتاً للنيجر وناشد الشعب النيجري برفض الانقلاب ودعم المكاسب الديمقراطية. وأكدت المعارضة السياسية لنظام الرئيس المخلوع بازوم، والمنضوية تحت “اتحاد الوطنيين النيجريين”  (UPN)، دعمها لـ “المجلس الوطني لحماية الوطن” وتدعو إلى التحرك يوم الجمعة بعد الصلاة لتنظيم مسيرة داعمة للمجلس الوطني لحماية الوطن  (CNSP).

وقد عبرت دول الإقليم مثل نيجريا وبنين والسنغال وغينيا بيساو  وساحل العاج عن قلقها إزاء الانقلاب في النيجر، وأدانه الاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي وفرنسا وروسيا مع الدعوة إلى الإفراج الفوري عن بازوم. وهذه الردود العالمية تعكس احتمالات تفاقم الوضع الأمني في النيجر، كما تحمل دلالات جيوسياسية، وخاصة أن الدول الغربية  بحاجة إلى الاحتفاظ بحليف في البلاد لحماية مصالحها الاستراتيجية وقواعدها العسركية وقواتها الأمنية في في منطقة الساحل بشكل عام وفي النيجر بشكل خاص.

وفي الوقت الراهن, يبدو أن نسبة الدعم لـ بازوم في أوساط المؤسسات العسكرية تتضاءلت, إذ تراجعت هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة في النيجر عن رفضها للانقلاب, وأعلنت دعمها لـ “المجلس الوطني لحماية الوطن”، وحذرت من أي تدخل خارجي, وذلك في إشارة إلى فرنسا المتهمة أيضًا بخرق الملاحة الجوية النيجرية، وهو ما يشير إلى تقلبات الوضع السياسي والأمني في النيجر وعدم استقراره.

تداعيات الانقلاب

تعتبر النيجر أكبر دولة في غرب إفريقيا، وهي دولة مهمة في النواحي السياسية والاستراتيجية والاقتصادية والأمنية؛ فالبلاد اكتسبت في السنوات الأخيرة ثناءا  كنموذج للاستقرار الديمقراطي النسبي، كم أنها تستضيف قواعد عسكرية فرنسية وأمريكية مما يجعلها شريكا رئيسيا للغرب وعنصرا أساسيا في أجندات مكافحة الإرهاب ضد الجماعات الإرهابية المختلفة المرتبطة بـ “تنظيم الدولة الإسلامية” و “القاعدة”. ومن الناحية الاقتصادية، تملك النيجر كميات كبيرة من اليورانيوم, حيث تنتج 7 في المئة من جميع الإمدادات العالمية, ويساهم بشكل كبير في اقتصاد البلاد, حتى وإن كانت عائداته لا يؤثّر كثيرا في مستوى معيشة النيجريين.

ومع الانقلاب العسكري في النيجر، يُتوقع أن يزداد الوضع الأمني تأثراً، حيث يمكن أن تتزايد حالات العنف وتفاقم الانقسامات الإثنية في البلاد. وقد يواجه العرب والمكونات الإثنية الأخرى، بما في ذلك التبو/القرعان والطوارق وغيرهم من الذين كانوا يتقاسمون السلطة مع الرئيس السابق محمد بازوم،  أو الذين يشكون من التهميش, صعوبة في الحفاظ على نفوذهم. وقد يقلل هذا الوضع فرص الحوار والتوافق بين المكونات السكانية المختلفة، بما في ذلك الهوسا التي تشكل النسبة الأكبر من سكان النيجر.

وأخيرا، قد تحاول الحكومة العسكرية الجديدة إجراء تغييرات يمكن أن تؤثّر في التوازن السياسي في النيجر, ولكن أحد الدروس المستفادة من هذا التطور أن النخبة الحاكمة غالبا ما تفضّل مصالحها على المصلحة العامة, كما أن التجارب الديمقراطية في عدد من الدول الإفريقية تتجاهل كيفية التعامل بشكل بناء مع المظالم الحقيقية التي يواجهها مجتمعات هذه الدول, رغم أن مجرّد إجراء الانتخابات لا تضمن الإجابة على المظالم العامة أو أسباب الاحتجاجات واستياء المواطنين. وهذا لا يعني بالطبع أن العسكر أنفسهم الذين يأتون إلى السلطة عبر الانقلابات وباستغلال شكاوى المواطنين مستعدون لترسيم المسارات البديلة لمعالجة تلك المظالم أو إعادة الأمور إلى نصابها اللائق.

ظهرت المقالة انقلاب النيجر: أسبابه وأبعاده وتداعياته أولاً على الأفارقة للدراسات والاستشارات.

]]>
https://alafarika.org/ar/5603/%d8%a7%d9%86%d9%82%d9%84%d8%a7%d8%a8-%d8%a7%d9%84%d9%86%d9%8a%d8%ac%d8%b1-%d8%a3%d8%b3%d8%a8%d8%a7%d8%a8%d9%87-%d9%88%d8%a3%d8%a8%d8%b9%d8%a7%d8%af%d9%87-%d9%88%d8%aa%d8%af%d8%a7%d8%b9%d9%8a%d8%a7/feed/ 0 5603
الوجود الفرنسي في إفريقيا وأبعاد زيارة الرئيس “ماكرون” الأخيرة https://alafarika.org/ar/5587/%d8%a7%d9%84%d9%88%d8%ac%d9%88%d8%af-%d8%a7%d9%84%d9%81%d8%b1%d9%86%d8%b3%d9%8a-%d9%81%d9%8a-%d8%a5%d9%81%d8%b1%d9%8a%d9%82%d9%8a%d8%a7-%d9%88%d8%a3%d8%a8%d8%b9%d8%a7%d8%af-%d8%b2%d9%8a%d8%a7%d8%b1/ https://alafarika.org/ar/5587/%d8%a7%d9%84%d9%88%d8%ac%d9%88%d8%af-%d8%a7%d9%84%d9%81%d8%b1%d9%86%d8%b3%d9%8a-%d9%81%d9%8a-%d8%a5%d9%81%d8%b1%d9%8a%d9%82%d9%8a%d8%a7-%d9%88%d8%a3%d8%a8%d8%b9%d8%a7%d8%af-%d8%b2%d9%8a%d8%a7%d8%b1/#respond Wed, 10 May 2023 10:13:56 +0000 https://alafarika.org/ar/?p=5587

كانت التوقعات أن هذه الزيارة تحدد أولويات "ماكرون" ونهجه في تعميق الشراكة بين فرنسا وأوروبا والقارة الإفريقية, وخاصة أنه حضر خلالها في الغابون قمة مخصصة لحماية الغابات الاستوائية وتعزيز العلاقات الثنائية في منطقة نفوذ تثير أطماع روسيا والصين بشكل متزايد، بعد أن عانت باريس من سلسلة انتكاسات عسكرية وسياسية في منطقة نفوذها السابقة.

ظهرت المقالة الوجود الفرنسي في إفريقيا وأبعاد زيارة الرئيس “ماكرون” الأخيرة أولاً على الأفارقة للدراسات والاستشارات.

]]>

في إطار سباق النفوذ الذي تشهده القارة الإفريقية مؤخرًا بين الولايات المتحدة وروسيا، شهدت منطقة إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى خلال الفترة الأخيرة مجموعة من الزيارات الرسمية لكلا البلدين لإفريقيا؛ إذ شهدت مالي زيارة لوزير الخارجية الروسي “سيرغي لافروف”، لبحث سبل تعزيز العلاقات بين البلدين؛ لا سيَّما بعد الأحداث الأخيرة التي تشهدها باماكو، بالإضافة إلى مناقشة الرؤية السياسية للحكومة الانتقالية، وسعيها لتعزيز العلاقات الاستراتيجية والأمنية مع موسكو، وتناول اللقاء آليات تعزيز التعاون المشترك بين روسيا ومالي، والعمل على تعزيز الخطط التنموية التي تتماشى مع تطلعات كلا البلدين. وأكد “لافروف” على استمرار دعم بلاده لمالي، لا سيما في جهود مكافحة الإرهاب والجماعات المسلحة، والتي تهدد حالة استقرار منطقة الساحل للتغلب على التحديات الأمنية التي تواجهها دول المنطقة.

وعلى هذا النحو، تسلط هذه الورقة الضوء على المحاور التالية:

أولًا: استراتيجية الرئيس الفرنسي الجديدة بشأن القارة الإفريقية

وفي هذا السياق، تعمل فرنسا على تعويض انسحابها من بعض مناطق الساحل الإفريقي؛ إذ أعلنت الرئاسة الفرنسية أن الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” سيعرض استراتيجيته الجديدة بشأن إفريقيا للسنوات الأربع المقبلة من أجل “تعميق الشراكة بين فرنسا وأوروبا والقارة الإفريقية”، وذلك في جولته إلى إفريقيا في بداية مارس الماضي (2023)، والتي تضمنت الغابون وأنغولا وجمهورية الكونغو (برازافيل) والكونغو الديموقراطية – وهي مناطق بعيدة عن المستعمرات الفرنسية السابقة في منطقة الساحل المضطربة.

وكانت التوقعات أن هذه الزيارة تحدد أولويات “ماكرون” ونهجه في تعميق الشراكة بين فرنسا وأوروبا والقارة الإفريقية, وخاصة أنه حضر خلالها في الغابون قمة مخصصة لحماية الغابات الاستوائية وتعزيز العلاقات الثنائية في منطقة نفوذ تثير أطماع روسيا والصين بشكل متزايد، بعد أن عانت باريس من سلسلة انتكاسات عسكرية وسياسية في منطقة نفوذها السابقة.[1]

ومن خلال ذلك، تحاول فرنسا إعادة بناء علاقاتها مع الدول الإفريقية بصعوبة في قارة تشكك شريحة متزايدة من سكانها في وعود الرئيس “إيمانويل ماكرون” بتغيير نهجه الدبلوماسي بشكل جذري؛ إذ أتت الجولة بعد أكثر من أسبوع بقليل طرد بوركينا فاسو القوات الفرنسية، وإنهاء اتفاق عسكري سمح لفرنسا بقتال المسلحين في الدولة الواقعة غرب إفريقيا، لتصبح أحدث دولة أفريقية ترفض مساعدة باريس. وفي وقت سابق، كانت فرنسا قد سحبت قواتها من مالي العام الماضي، بعد أن بدأ المجلس العسكري هناك تعزيز علاقتها مع روسيا ومزاعم التعاقد مع مرتزقة “فاغنر” الروسية، ما أنهى 10 سنوات من العمليات الفرنسية ضد الجماعات المسلحة ومواجهة باريس حالة من  الشعور المناهض لها، وهو الأمر الذي قد يدفعها إلى تطوير موقفها باتجاه مزيد من الإصغاء والتواضع – حتى وإن كانت تحذر أيضاً من الذين يلجؤون إلى روسيا.([2])

ثانيًا: الصراع الروسي الفرنسي في غرب أفريقيا

على الرغم من العقبات التى تواجهها روسيا على الجبهة الأوكرانية بسبب الحشد الغربي ضدها؛ فإنها تُحرز تقدما على جبهة أخرى من خلال نفوذها الناعم في مناطق إفريقيا الفرنكوفونية. وقد أظهر انقلاب النقيب “إبراهيم تراوري” في بوركينا فاسو الذي أطاح بحكومة “بول هنري داميبا” العسكرية في 30 سبتمبر 2022 مدى توسع هذا النفوذ[3]، وليس بخافٍ أن بوركينا فاسو كانت في الأشهر الأخيرة هدفا لسياسات الحرب الدعائية الهجينة على وسائل التواصل الاجتماعي والتي تتهم العقيد المخلوع “داميبا” بأنه عميل فرنسي. وقوضت الدعاية الروسية باستمرار ثقة السكان المحليين في القوات الفرنسية المنتشرة في المنطقة لمحاربة الجماعات المسلحة العنيفة. وهناك تقارير أخرى اتهمت فرنسا أيضا بتمويل حملات دعائية في المنطقة لتعزيز نفوذها وأجنداتها في المنطقة.([4])

أ- استخدام روسيا للأداة العسكرية في إفريقيا: كما حدث في بوركينا فاسو، تعرضت مالي لانقلابين بين عامي 2020 و 2021 قام بهما ضباط معادون لفرنسا مما دفع إيمانويل “ماكرون” إلى إنهاء الانتشار العسكري الفرنسي الذي يحارب الجماعات المسلحة العنيفة في البلاد. وبعد إعلان القادة العسكريين الجدد القطيعة مع فرنسا، قام مرتزقة “فاغنر” الروس بالانتشار في المعسكرات التي هجرتها القوات الفرنسية. وبالمثل يمكن أن نلمس خطابا شعبويا معاديا للفرنسيين في النيجر. وفي يونيو 2022، علق الرئيس إيمانويل “ماكرون” جميع المساعدات المالية والعسكرية المقدمة إلى جمهورية إفريقيا الوسطى بعد اتهام حكومتها بأنها رهينة مجموعة فاجنر الروسية شبه العسكرية. كما تخشى فرنسا تبني نفس الخطاب الشعبوى المناهض لها في كل من السنغال وكوت ديفوار. وربما يفسر هذا التقدم السريع في النفوذ الروسي في إفريقيا جزئيًا خطاب “ماكرون” الغاضب أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر 2022، والذي اتهم فيه (ضمنيًا) الدول الأفريقية بخيانة مصالحها طويلة الأجل من خلال رفض إدانة “الاستعمار الجديد” الذي يقوم به “فلاديمير بوتين” من خلال غزو ​​أوكرانيا.([5])

ب- تحولات في “فرانس أفريك”: في عام 1998 صرّح الرئيس “فرانسوا ميتران” أنه “بدون أفريقيا، لن يكون لفرنسا تاريخ في القرن الحادي والعشرين”. وتعود جذور العلاقة الوثيقة التي تقيمها فرنسا مع مستعمراتها السابقة في غرب إفريقيا إلى مفاوضات إنهاء الاستعمار التي جرت في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي, حيث اختارت هذه المستعمرات، باستثناء غينيا كوناكري، تحقيق استقلالها الوطني مع الحفاظ على علاقات وثيقة مع فرنسا، على أمل تجنب الصراع والاستفادة من انتقال أكثر سلاسة إلى الاستقلال السياسي والاقتصادي. بالنسبة لفرنسا، كان الحفاظ على العلاقات مع مستعمراتها السابقة يعني الحفاظ على نفوذها على الأراضي التي تتيح لها الوصول إلى النفط والمواد الخام والأسواق الاستهلاكية غير المستغلة.([6])

ج- عوامل التراجع الفرنسي في أفريقيا الفرنكوفونية: وفي هذا السياق، يمكن الحديث عن ثلاثة عوامل رئيسية أدت إلى التراجع الفرنسي في أفريقيا الفرنكوفونية:[7]

– العامل الأول، وهو الأهم، يتمثل في عسكرة الوجود الفرنسي في أفريقيا. وهذا يعني، الطريقة التي تعبر بها فرنسا عن نفسها من وجهة نظر عسكرية في مستعمراتها السابقة، والتي يمكن أن نطلق عليها مسمى “الكتلة الفرنكوفونية”. في الماضي، شكلت غرب إفريقيا وإفريقيا الاستوائية كتلتين تاريخيتين منظمتين ومتماسكتين إلى حد ما. عملت فرنسا جاهدة للحفاظ على نفوذها بعد الاستقلال من خلال التدخلات والعمليات الخارجية التي أضفت على الوجود الفرنسي طابعا عسكريا (سياسة العصا الغليظة). هناك أكثر من 70 عملية خارجية فرنسية في إفريقيا. ويوجد اليوم شعور متزايد بين الشباب الأفريقي بأن هذا الوجود العسكري لم يعد ضروريًا، وبأنه عفا عليه الزمن ولا يتوافق مع سياق الواقع المتغير. من الناحية الرمزية، يحمل الوجود الفرنسي شحنة سالبة وصورة ذهنية لجنود الدولة الاستعمارية السابقة في بعض البلدان. وعليه يصبح من المفهوم أن الرأي العام بات معاديا لهذا الوضع الذي يتم مقاربته بمفهوم الاحتلال. ومن المعروف أن الجنود الفرنسيين لديهم مسؤوليات مهمة وإيجابية للغاية في بعض العمليات، وأدت إلى إحلال السلام وتحقيق الأمن على الأرض. ولكن هناك أيضًا عمليات سرية وتدخلات فرنسية سيئة السمعة. على سبيل المثال التدخل الفرنسي في الإطاحة ببعض الرؤساء والمساعدة في تنصيب آخرين. هذا الوجود قد خط شكلاً من أشكال التردد وعدم الثقة في العقل الجماعي الأفريقي. يُنظر إلى الجندي الفرنسي، عن حق أو خطأ، على أنه أداة فرنسية للتدخل في الشئون الأفريقية.

– العامل الثاني يتمثل في الصور الذهنية وغطرسة فرنسا وتعالي نخبها. هذا العامل لا يستهان به بين الأفارقة. قام الصحفي الفرنسي فريديريك ليجيل في كتابه الأخير بعنوان “تراجع النفوذ الفرنسي في أفريقيا “الصادر في باريس هذا العام، بإجراء مقابلات مع ما يقرب من مائة شخصية أفريقية ومعارضين ووزراء سابقين ورؤساء وزراء ومؤثرين في الرأي وقادة المنظمات غير الحكومية وقادة المجتمع المدني. كانت النتيجة صادمة حيث برز دوما عامل الاستعلاء والغطرسة. هذه القدرة التي يتعين على فرنسا أن تضعها لنفسها حينما ترتدي ثياب الواعظين وتمشي في الأرض تخطب وتسب المفسدين، رغم أنها تفعل عكس ذلك في الممارسة العملية. من الواضح أن هذا الانفصام في الدور الفرنسي هو ما أفسد صورة فرنسا في إفريقيا.

– العامل الثالث والأخير, وهو سياسي مرتبط بسابقه. قد يكون لدى فرنسا نوايا حسنة عندما تدافع عن سيادة القانون والديمقراطية. ولكن في المقابل عندما تدافع من الناحية الواقعية عن أنظمة تسلطية لا تحترم أبسط قواعد حقوق الإنسان، فإن ذلك يعني عدم احترام إرادة الشعوب الأفريقية. إن التعاون القائم مع دول معينة، خاصة فيما يتعلق بالتعاون الدفاعي والأمني، يُظهر للأفارقة الذين يتظاهرون للمطالبة بمزيد من الحريات أن يد فرنسا وقبضتها العسكرية تحول بينهم وبين ما يطمحون.

ثالثا: الصعود الصيني في ظل تناقص الوجود الفرنسي والأمريكي

سعت بكين لتنويع أدواتها نفوذها داخل القارة الإفريقية بين الأداتين الاقتصادية والعسكرية، وهو ما منحها نفوذ قوى داخل القارة الإفريقية، لا سيما في ظل اتجاه الوجود الفرنسي نحو التقلص وانسحابها من عدة مناطق بمالي، وتغير سياسة الإدارة الأمريكية تجاه إفريقيا، وتراجع ترتيبها في أجندة أولوياتها في الوقت الحالي([8]). ولعل هذه التكهنات تستدعي الوقوف على تحليل حقيقة تأثير الحرب الأوكرانية على الدور الصيني تجاه القارة الإفريقية، وهو ما يمكن توضيحه من خلال التعرف على مدى تأثر المصالح الروسية بالعقوبات الغربية التي فرضت عليها جراء تدخلها في أوكرانيا، وهو ما يمكن تناوله على النحو الآتي؛

أ- تأثر المصالح الروسية في إفريقيا في ظل العقوبات الغربية؛ تضمنت المصالح الروسية في إفريقيا شقيها العسكري والاقتصادي، فبالنسبة للجانب العسكري، فيبرز في التعاون العسكري مع دول غرب إفريقيا من خلال صفقات الأسلحة، والوجود الروسي في كل من بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، بالإضافة لمبيعات الأسلحة الروسية في السوق الإفريقية التي بلغت نحو 37.6 وفقًا لإحصائيات معهد ستوكهولم لأبحاث السلام، أما عن الجانب الاقتصادي فتضمن التعاون في مجال الطاقة، والمعادن النفيسة، وهو ما يشير إلى أن القارة الإفريقية تمثل السوق الفاعلة للجانب الروسي فيما يتعلق بمبيعات الأسلحة، بالإضافة للنفط والغاز الطبيعي، اليورانيوم وغيرها[9]، لذا فهي شريك واعد وجوهري في استراتيجية الدب الروسي.

أما عن تأثر تلك المصالح بالعقوبات الغربية، فرغم عدم وجود بيانات تفيد بذلك حتى الآن، فمن غير المُرجَّح أن تتأثر تلك المصالح بتجميد الأموال الروسية أو حتى حظر النفط والغاز الروسي، والتقييد الغربي على الشركات الروسية المختلفة، بل من المتوقع أن تسعى موسكو لاستغلال الأداة الإفريقية للحد من الآثار السلبية التي قد تلحق باقتصادها في ظل الحرب من جانب، وتخفيف حدة العزلة المفروضة عليها، لذا فهذا الأمر لن يترك للجانب الصيني المجال للتوسع في القرن الإفريقي، بل أنه قد يفرض تحديات على الجانب الصيني والمتمثلة في كيفية الحفاظ على مبادرة الحزام والطريق في ظل التوقعات المحتملة باتجاه روسيا لتعزيز حضورها داخل القارة في مواجهة القطيعة الغربية لتحقيق التعاون المشترك والاستفادة في ظل تلك الأزمة من الوجود الإفريقي.([10])

رابعا: مستقبل واشنطن في حربها ضد الإرهاب داخل إفريقيا

شهدت المنطقة الإفريقية مؤخرًا تزايد خطر الإرهاب على القارة، وذلك في ضوء اقتراب التنظيمات الإسلاموية من تحقيق هدفها المتمثل في إقامة “دولة الخلافة” في إفريقيا، فبالنظر إلى التقديرات التي أوردها “مركز إفريقيا للدراسات الاستراتيجية” التابع للبنتاجون عن تفاقمت الهجمات الإرهابية في إفريقيا بنسبة 300٪ خلال العقد الماضي، وتضاعفت الهجمات الإرهابية العنيفة على مدى السنوات الثلاث الماضية في ضوء تخفيف قيود حظر كورونا، وارتفاع معدلات البطالة، وكلها تطورات جعلت إفريقيا جنوب الصحراء “مركزًا للإرهاب”. [11]

ومع انتشار الإرهاب عبر عشرات الدول الإفريقية ويمكن التساؤل حول استراتيجية واشنطن للانخراط بفاعلية في “الحرب على الإرهاب”؛ وذلك بالنظر إلى الانخراط الملحوظ لعدد من القوى الدولية المنافسة للولايات المتحدة– في صدارتها الصين وروسيا-  في الشؤون الإفريقية، وذلك في مقابل خفوت الدور الأمريكي على الساحة الإفريقية للحد الذي دفع البعض للاعتقاد بأن واشنطن ربما تنسحب من “الحرب على الإرهاب” في القارة، وفي هذا الصدد يتعيَّن على واشنطن تدشين شراكة جديدة مع الدول الإفريقية على غرار الشراكات الاستراتيجية التي دشَّنتها القوى الدولية الأخرى في الوقت الراهن؛ فالولايات المتحدة تغفل الفرص الاقتصادية الكبيرة التي ستنتج عن الشراكات الأفروأمريكية، ومن ثم، لا تعبأ بتعزيز دورها أو تفعيل انخراطها في إفريقيا.[12]

وبالنظر إلى المكاسب الاقتصادية التي تحققها الشراكات مع إفريقيا، أشارت تقارير إلى أن القارة تحتوي على ثُلث احتياطيات العالم من المعادن، بما في ذلك المعادن التي تُعتبر بالغة الأهمية لأنظمة الدفاع الأمريكية، كما أن الدول الإفريقية تتصاعد مكانتها على الساحة الدولية فيما يخص تصدير النفط، وتؤثِّر الصادرات النفطية الإفريقية -وإنْ لم تتجه لواشنطن- على استقرار أسعار النفط العالمية، وهو أمر بالغ الأهمية بالنسبة لواشنطن في ظل الاضطرابات العنيفة التي تشهدها سوق النفط العالمية مع استمرار الأزمة الروسية – الأوكرانية.

خاتمة

تعد علاقة فرنسا بإفريقيا علاقة تاريخية، وكما قال الرئيس ميتران فإن أفريقيا ضرورية لفرنسا لاستفادتها من موارد القارة وما تمنحها من الشعور بالقوة والتألق على المستوى الدولي، سواءا من خلال قواتها المتمركزة مسبقًا في الكتلة الفرنكوفونية والتمثيل الأفريقي في الأمم المتحدة. ويعني ما سبق أن إفريقيا في باريس جزء من مجال “محجوز” دائما في قصر الإليزيه، وأن السياسة الفرنسية تجاه إفريقيا تتم في معقل رئاسة الجمهورية، وليس في أي مكان آخر، حيث لم يكن للبرلمان الفرنسي رأي رئيسي في السياسة تجاه القارة. ولا يزال هذا هو الحال مع “إيمانويل ماكرون” الذي يمكنه اتخاذ قرارات التدخل العسكري دون استشارة البرلمان، الأمر الذي يجعل ما يفعله “ماكرون” منذ ولايته الأولى كمحاولة للتجمل؛ إذ يواجه إرثًا يختمر منذ عدة عقود في ظل سياقات المنافسة العالمية التي يشهدها الوضع الدولي الراهن. وهذا قد يُفسر أيضا جانبًا من الصورة التي ترفع أطرافًا مثل الصين وروسيا وتخفض أطرافًا أخرى مثل القوى الاستعمارية السابقة وعلى رأسها فرنسا.

ـــــــــــــــــــــــــ

[1] رحمة حسن، جولة ماكرون الأفريقية.. استراتيجية فرنسية جديدة لإعادة التموضع الأفريقي، المرصد المصري، مارس 2023. https://marsad.ecss.com.eg/75852/

[2]–  Macron flies to Africa to counter waning French influence, Reuters, 27 February, 2023, https://reut.rs/3NRqJhF

[3] Farouk Hussein Abodeif, Post-coup Burkina Faso: Security of the African coast after France’s withdrawal https://trendsresearch.org/insight/post-coup-burkina-faso-security-of-the-african-coast-after-frances-withdrawal/

[4] – حكيم أَلَادَيْ نجم الدين, الدعاية الإعلامية وتعزيز الوجود العسكري: إستراتيجية جديدة لأوروبا في الساحل. مركز الجزيرة للدراسات, 29 ديسمبر 2022, https://bit.ly/3nHKopU

[5] صراع الخبز والسلاح.. هكذا تلاحق أميركا روسيا في أفريقيا، سكاي نيوز عربية، فبراير 2023. https://bit.ly/42wREU4

[6] صلاح خليل، سياسات العودة: الأدوات الجديدة لفرنسا إلى أفريقيا، المركز المصري للفكر، ابريل 2023. https://ecss.com.eg/33468/

[7] تحليل: فرنسا تخوض معركة وجود بأفريقيا.. ماذا بيد ماكرون من أوراق؟، https://bit.ly/3ppXPLn

د. حمدي عبد الرحمن، معضلة ماكرون: هل تفقد فرنسا نفوذها في أفريقيا؟، المركز القومي لدراسات الشرق الأوسط، http://ncmes.org/ar/publications/analytical-articles/725

 [8]لويد ثرال، واشنطن وتنامي النفوذ الصيني في أفريقيا، مركز المستقبل،https://bit.ly/3soF2Qn

[9] خالد البوهالي، هل سيتأثر الحضور الروسي في غرب أفريقيا بالأزمة الأوكرانية؟، 29 أبريل 2022، https://bit.ly/3svi0Gr

[10] روسيا وأوكرانيا: ما هي العقوبات التي يجري فرضها على موسكو؟، بي بي سي عربي، 23 فبراير 2022، https://www.bbc.com/arabic/world-60488050

[11]Jake Sulliva, Keynote Address by National Security Advisor Jake Sullivan, https://www.washingtoninstitute.org/policy-analysis/keynote-address-national-security-advisor-jake-sullivan

[12] نورة الحبسي، خالد أحمد محمد فياض، القمة الأمريكية الأفريقية في ضوء الاستراتيجية الأمريكية الجديدة، مركز تريند للبحوث، https://trendsresearch.org/ar/insight/african-american-summit/

 

ظهرت المقالة الوجود الفرنسي في إفريقيا وأبعاد زيارة الرئيس “ماكرون” الأخيرة أولاً على الأفارقة للدراسات والاستشارات.

]]>
https://alafarika.org/ar/5587/%d8%a7%d9%84%d9%88%d8%ac%d9%88%d8%af-%d8%a7%d9%84%d9%81%d8%b1%d9%86%d8%b3%d9%8a-%d9%81%d9%8a-%d8%a5%d9%81%d8%b1%d9%8a%d9%82%d9%8a%d8%a7-%d9%88%d8%a3%d8%a8%d8%b9%d8%a7%d8%af-%d8%b2%d9%8a%d8%a7%d8%b1/feed/ 0 5587
ماذا وراء الصراع في السودان؟ وإلى أين يتجه؟ https://alafarika.org/ar/5573/%d9%85%d8%a7%d8%b0%d8%a7-%d9%88%d8%b1%d8%a7%d8%a1-%d8%a7%d9%84%d8%b5%d8%b1%d8%a7%d8%b9-%d9%81%d9%8a-%d8%a7%d9%84%d8%b3%d9%88%d8%af%d8%a7%d9%86%d8%9f-%d9%88%d8%a5%d9%84%d9%89-%d8%a3%d9%8a%d9%86-%d9%8a/ https://alafarika.org/ar/5573/%d9%85%d8%a7%d8%b0%d8%a7-%d9%88%d8%b1%d8%a7%d8%a1-%d8%a7%d9%84%d8%b5%d8%b1%d8%a7%d8%b9-%d9%81%d9%8a-%d8%a7%d9%84%d8%b3%d9%88%d8%af%d8%a7%d9%86%d8%9f-%d9%88%d8%a5%d9%84%d9%89-%d8%a3%d9%8a%d9%86-%d9%8a/#respond Tue, 02 May 2023 08:14:19 +0000 https://alafarika.org/ar/?p=5573

الصراع الجاري يزكيه اختلاف مصالح البرهان وحميدتي وأهداف القوى التي تدعمهما وترى مصالحها مع إحدى طرفي الصراع - وهو ما ما قد يطيل أمد الحرب ويصعّب إمكانية توقّع أوان انتهاء القتال -، وخاصة أن الجانبين يعلنان السيطرة على مواقع رئيسية في السودان، مع ورود أنباء عن معارك في مناطق مختلفة وفي أماكن بعيدة عن العاصمة الخرطوم.

ظهرت المقالة ماذا وراء الصراع في السودان؟ وإلى أين يتجه؟ أولاً على الأفارقة للدراسات والاستشارات.

]]>

اندلع في 15 أبريل 2023 القتال بين الجيش السوداني بقيادة الفريق عبد الفتاح البرهان وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو (المعروف بـ حميدتي). وهذا التطور بمثابة مساعي الهيمنة الجديدة على السلطة وتتويج لما يعتبره الطرفين صراعًا وجوديًا تحركه مصالح طرفي الصراع وأهداف قوى دولية أخرى في الدولة الغنية بموارد كثيرة والواقعة في موقع استراتيجي على المستوى الإفريقي والدولي مما يجعل الجميع يريدون “جزءًا” من السودان.

وقد خلف القتال ما لا يقل عن 500 قتيل، وفرار أكثر من 50,000 شخص من السودان بحلول يوم  28 أبريل 2023 (والأعداد بالتأكيد في تزايد مع استمرار الحرب)، وقيام الحكومات من جميع أنحاء إفريقيا والشرق الأوسط وأوروبا وآسيا والأمريكتين بإجلاء مواطنيها من المعلمين والطلاب والعمال وموظفي سفارتها من العاصمة الخرطوم.

وفي حين أن إجلاء الأجانب من السودان قد يؤدي إلى تقاعس المجتمع الدولي من أدوارها للضغط على الأطراف المتنازعة وحل الأزمة في أقرب وقت ممكن؛ فإنه قد يفسح المجال أيضا إلى الانزلاق إلى حرب أهلية شاملة سيكون مدمرًا بالنسبة للسودان وسيخلق أيضًا تموجات يمكن الشعور بها في إفريقيا وجميع أنحاء العالم الجيوسياسي، وأيضًا يشعر بمرارتها وقسوتها الشعب السوداني في المقام الأول ودول الجوار وتؤثر على العالم كله.

الأهمية الاستراتيجية للسودان

لا شك أن أهمية موقع السودان الاستراتيجي وسواحله الطويلة على البحر الأحمر الذي يربط البحر الأبيض المتوسط بآسيا، هو أحد أكثر الممرات المائية ازدحامًا في العالم؛ إذ يتمتع السودان بموقع استراتيجي على البحر الأحمر الذي يمر عبره ما يقرب من 10 في المائة من التجارة العالمية، وتربط قناة السويس الأسواق الآسيوية والأوروبية. وكذلك حدود السودان مع دول ذات أهمية استراتيجية أخرى؛ إذ تحدها من الجنوب الغربي جمهورية أفريقيا الوسطى وتشاد من الغرب ومصر من الشمال وإريتريا من الشمال الشرقي وإثيوبيا من الجنوب الشرقي وليبيا من الشمال الغربي وجنوب السودان من الجنوب والبحر الأحمر. وفي عام 2022 قُدِّر عدد سكان السودان بـ 45.7 مليون شخص وتعتبر ثالث أكبر دولة أفريقياً وعربياً من حيث المساحة. وتحتلّ السودان مكانة كبيرة في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى, ليس فقط لحدودها مع المنطقة, بل لعلاقاتها التاريخية مع دولها مما تجعل السودان بوتقة الثقافات الإفريقية والعربية الاسلامية.

ويعدّ السودان موقع اندماج نهري النيل الأبيض والأزرق, حيث من هناك يشكّلان النيل الرئيسي الذي كشفت تطورات العقود الماضية أن إدارة مياهه بشكل آمن أمر بالغ الأهمية لاستقرار المنطقة, وبخاصة أن مصر – جارة السودان الشمالية – تعتمد بنسبة 90 في المائة على النهر لتزويدها بالمياه، بينما تتطلع إثيوبيا إلى الشرق لمضاعفة توليد الكهرباء من خلال مشروع بناء سد النهضة الإثيوبي الكبير المثير للجدل والذي بدأت إثيوبيا ملأها بين عامي 2020 و 2021 دون اتفاق مع مصر.

ثم هناك للسودان موارد معدنية هائلة؛ إذ تعد ثالث أكبر منتج للذهب في إفريقيا، ولها احتياطيات نفطية كبيرة وتنتج أكثر من 80 في المائة من الصمغ العربي في العالم – أحد مكونات المضافات الغذائية والطلاء ومستحضرات التجميل- بالإضافة إلى الموارد الزراعية والحيوانية التي تنعم بها السودان, الأمر الذي أوجد تنافسا دوليا عليها للاستفادة من خيراتها. ومساعي أطراف أجنبية مختلفة، مثل روسيا والولايات المتحدة والصين واسرائيل وتركيا وقوى خليجية مثل الإمارات والسعودية, لإقامة علاقات مع أطراف سودانية مختلفة لتحقيق مصالحها.

الجيش السوداني وفشل الانتقال الديمقراطي

يحظى الجيش السوداني بقيادة البرهان بدعم كثير من السودانيين منذ بدء القتال منتصف أبريل، حتى وإن كان الجيش السوداني وقادته ليسوا برآء من التورط في الوضع الحالي؛ إذ تحالف البرهان وحميدتي للإطاحة بـ عمر البشير في عام 2019 عرقلا مع القادة العسكريين الآخرين مساعي الانتقال إلى حكومة مدنية ديمقراطية بعد سقوط ما يقرب من ثلاثة عقود من حكم البشير الذي أطاح به الجيش إثر الاحتجاجات الشعبية التي بدأت بسبب ارتفاع أسعار الخبز.

وإذا كان حكم البشير اتسم بعدة قضايا وتطورات, فقد كان على رأسها انفصال جنوب السودان عن الشمال, كما أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرة توقيف بحقه في جرائم حرب مزعومة في دارفور. وحكم السودان بعد الإطاحة بالبشير تحالفٌ غير مستقر بين الجيش والجماعات المدنية, وفاقمت الأزمة في عام 2021 عندما دبّر البرهان وحميدتي انقلابًا عسكريًا أطاح برئيس الوزراء المدني والحكومة وعلق الدستور.

ونشأت التوترات بينهما بعد انقلاب 2021 بعد اتفاق القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع والقادة السياسيين المدنيين على إطار عمل جديد للانتقال الديمقراطي في ديسمبر 2022، حيث ظهرت أثناء المفاوضات أسئلة شملت دمجَ قوات الدعم السريع في الجيش السوداني, ومن سيتولى على قيادة الجيش الموحد ويكون تابعًا للآخر في ظل التسلسل الهرمي العسكري الجديد. بالإضافة إلى انحياز مختلف الأطراف الإقليمية والقوى الدولية لهما والاستفادة من مكانتهما لتحقيق مصالحها الاستراتيجية والاقتصادية في السودان.

جدير بالذكر أن البرهان هو زعيم الجيش السوداني في الأساس، كان وقت الإطاحة بالبشير المفتش العام للجيش. ويعزى إليه أيضا أداء دور بارز في عام 2000 إبان الأيام المظلمة لنزاع دارفور، حيث تقول بعض المصادر إنه التقى بحميدتي فيها لأول مرة في تلك الفترة. وعزز صعوده إلى السلطة السودانية من خلال كسب القوى الخليجية والأوروبية وقيادته لكتائب من القوات السودانية الذين خدموا مع قوات التحالف بقيادة السعودية في اليمن.

قوات الدعم السريع بقيادة حميدتي

يقود قوات الدعم السريع محمّد حمدان دقلو (حميدتي), وهو من مواليد 1975 في قبيلة الرزيقات والذي انقطعَ عنِ الدراسة في سنّ الخامسة عشر بعدما توجّه لممارسة تجارة الإبل والقماش وحماية القوافل. وتشكّلت قوات الدعم السريع التي يقودها حميدتي منذ تأسيسها من خلال مجموعة من الميليشيات (أوالمعروفة بالجنجويد) التي انخرِطت في الصراع الدائر في دارفور, وذلك من أجل محاربة الجماعات المتمردة في مناطق وأقاليم شملت دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق, في أعقاب الهجمات المشتركة التي شنها متمردو الجبهة الثورية السودانية في أبريل 2013 في شمال وجنوب كردفان.

ولقيت قوات الدعم السريع دعما مُباشراً من الرئيس السابق عمر البشير وصارت قوّة موازيّة ومنافسة للجيش السوداني حيث وصل عددها طبقا لبعض المصادر إلى 100 ألف مُقاتل ومجهّزة بالعتاد والسلاح. وانخرطت القوات مُباشرةً في صراعات محلية وسطَ تقارير حول ارتكابها لجرائم حرب وجرائم ضدّ الإنسانيّة, وأن حوالي 40 ألف مقاتل من قوات الدعم السريع شاركوا بين 2016-2017 في الحرب الأهلية اليمنية, بالإضافة إلى تواجد حوالي 1000 جندي من قوات الدعم السريع في ليبيا في يوليو 2019 لدعم الجيش الوطني الليبي بقيادة خليفة حفتر.

وتمكّنت قوات الدعم السريع من تمويل أنشطتها عبر أدوارها المختلفة وعلاقاتها الخارجية؛ إذ تلقت دعما من الدول الأوروبية والأفريقية لتسيير دوريات على الحدود مع ليبيا والحدّ من اللاجئين الإريتريين والإثيوبيين ووقف تدفق المهاجرين إلى أوروبا. وهناك تقارير بين عامي 2017 و2019 بأن حميدتي استخدم قوات الدعم السريع للسيطرة على مناجم الذهب دارفور، وأن شقيقه عبد الرحيم – هو نائب رئيس قوات الدعم السريع – يترأس شركة الجنيد (Al Gunade) التي تعمل في مجال تعدين الذهب وتداوله في السودان والمتهمة في ديسمبر 2019 بارتباطها الوثيق مع قوات الدعم السريع من حيث المعاملات المالية. إضافة إلى شركتين أخريين داخل السودان وفي الإمارات العربية المتحدة التي يسيطر عليهما القوني حمدان دقلو – شقيق حميدتي.

الصراع الحالي ودور القوى الدولية

توقفت المفاوضات لحل القضايا العالقة بشأن إطار العمل الجديد للانتقال الديمقراطي في ديسمبر الماضي, وتصاعدت التوترات بين البرهان وحميدتي في الأسابيع التي سبقت أعمال العنف الحالية. وتصارع الجانبان للسيطرة على المؤسسات الرئيسية في السودان، حيث تركّز معظم القتال حول مواقع مثل القصر الرئاسي والمقر العسكري للقوات المسلحة السودانية ومطار الخرطوم.

ويتبادل كل من البرهان وحميتي الاتهامات بشأن من بدأ الاشتباكات في الخرطوم بالرغم من أن جميع المؤشرات تؤكد على أن كلا من البرهان وحميدتي كانا يتوقعان المواجهة ويستعدان لها وأنهما فقدا الثقة في العملية السياسية. ويؤكد هذا ما أفادت به التقارير بأنه في الأسابيع السابقة من اندلاع القتال نشرت قوات الدعم السريع أعدادًا كبيرة من مقاتليها في الخرطوم، بينما نشرت القوات المسلحة السودانية دبابات وأسلحة ثقيلة, وأنه قبل أيام قليلة من الاشتباكات انتشرت قوات الدعم السريع في مدينة مروي الواقعة في الجزء الشمالي من السودان ووقع القتال هناك.

وقد أصدر الجيش السوداني قرار حل قوات الدعم السريع, وتصنيف مقاتليها كـ “متمردين” ضد الدولة السودانية ووصف هجومها بـ “محاولة انقلاب” مع إصدار أوامر بالقبض على قائدها – حميدتي – ومحاكمته أمام القضاء.

وفي المقابل يصف حميدتي قائد الجيش السوداني – البرهان – بالانقلابي والإرهابي والإسلامي, وأنه يحاول إعادة فلول حكومة البشير والإسلاميين إلى السلطة, مؤكدا أن قوات الدعم السريع “تسعى للقبض عليه” وتقديمه إلى العدالة بسبب “العديد من أعمال الخيانة ضد الشعب السوداني”.

على أنه رغم المساعي الإقليمية المتتالية والدعوات الدولية المختلفة لتهدئة الوضع وإنهاء الأعمال العدائية والجهود مستمرة لتأمين وقف إطلاق النار؛ فقد ظهرت إشارات تؤكد دور القوى العالمية في الأزمة؛ إذ أدت الأهمية الاستراتيجية والاقتصادية إلى اجتذاب السودان شركاء دوليين راغبين في مواردها وساعين لتحقيق أجنداتها الإقليمية.

وعلى سبيل المثال، رأت السعودية والإمارات العربية المتحدة في الإطاحة بالرئيس عمر البشير فرصة للقضاء على “الإسلاميين” وتحقيق الاستقرار في المنطقة والاستثمار في المشاريع الزراعية وموانئ البحر الأحمر. وفي عام 2017ألغت الولايات المتحدة عقوباتها طويلة الأمد ضد السودان، مما سمح للشركات الأمريكية بمتابعة مصالحها التجارية في السودان، وضغطت إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب على الخرطوم كي تطبّع علاقاتها مع إسرائيل لصالح شطب السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب.

بل وأيّدت الغرب قرار البرهان في ضرورة دمج قوات الدعم السريع إلى الجيش السوداني, إلى جانب ما يحظى به من دعم وتأييد من السعودية ومصر وفق رأي بعض المحللين السياسيين. هذا إلى جانب ما تناقلته بعض وسائل الاعلام عن دعم الإمارات لـ حميدتي, وكذلك إسرائيل ولخليفة حفتر في ليبيا, مما يؤشر على تعقيد الموقف الحالي.

وهناك عامل آخر مرتبط بالذهب السوداني؛ إذ بالرغم من العقاب المفروض على موسكو بعد غزو أوكرانيا عام 2022زوّد السودان روسيا بشريان حياة اقتصادي من خلال احتياطياته من الذهب. ويمكن تتبع اهتمام روسيا بالذهب السوداني إلى عام 2017 بعد اجتماع بين البشير والرئيس الروسي فلاديمير بوتين وإنشاء شركة تابعة لمجموعة فاغنر الروسية التي تنشط الآن في بعض دول إفريقية. وهناك تقارير بأن موسكو أصبحت تدعم حميدتي منذ انقلاب 2019 بتوسعة نفوذه داخل السودان وسيطرته على أغنى مناجم الذهب في البلاد, وأنه يحصل في المقابل على مساعدة سياسية وعسكرية روسية, كما كشف مسؤولون أمريكيون أن مجموعة فاغنر عرضت على قوات الدعم السريع أسلحة شملت صواريخ أرض-جو.

وفي حين يرى البعض أن فرنسا قد تدعم البرهان لاستياء باريس من وجود فاغنر في جمهورية إفريقيا الوسطى ومخاوف الحكومة التشادية من تصاعد أنشطة قوات الدعم السريع والمتمردين المسلحين التشاديين على الحدود التشادية السودانية؛ فإن للصين أيضا مصالح كبيرة في السودان وخاصة أنها أحد المستثمرين الرئيسيين في البلاد خلال حكم البشير وواحدة من الدول القليلة التي زودت النظام بالسلاح. وتعمل أكثر من 20 شركة صينية في التعدين السوداني باستثمارات إجمالية تزيد عن 100 مليون دولار. كما صدّر السودان منتجات بقيمة 780 مليون دولار إلى الصين في عام 2021. وتعدّ السودان أيضا جزءا من مبادرة “الحزام والطريق”, حيث منحت بكين السودان بين عامي 2011 و 2018 قروضًا تقدر بنحو 143 مليون دولار أمريكي واستثمرت في مشاريع مثل إنشاء خطوط أنابيب النفط السودانية وجسور النيل ومصانع النسيج وخطوط السكك الحديدية.

المخرج من الأزمة والسيناريوهات المحتملة

من خلال ما سبق اتضح أن الصراع الجاري يزكيه اختلاف مصالح البرهان وحميدتي وأهداف القوى التي تدعمهما وترى مصالحها مع إحدى طرفي الصراع – وهو ما ما قد يطيل أمد الحرب ويصعّب إمكانية توقّع أوان انتهاء القتال -، وخاصة أن الجانبين يعلنان السيطرة على مواقع رئيسية في السودان، مع ورود أنباء عن معارك في مناطق مختلفة وفي أماكن بعيدة عن العاصمة الخرطوم. وقد عزّز الصراعُ ظهورَ قراءات مختلفة ومزاعم سعي قوى أجنبية معينة وراء تحقيق مشاريعها في السودان على غرار انفصال جنوب السودان في عام 2011. وتشمل المزاعم أيضا فكرة مشروع تقسيم السودان إلى أربعة دول أو كونفدراليات تحت مسمى “الولايات السودانية المتحدة”.

وهناك دعوات من الدول المجاورة للسودان بقيادة كل من إثيوبيا وجنوب السودان وغيرهما من الدول الإقليمية التي ترى أن استقرارها في استقرار السودان وأمنه. كما تضمنت مبادرات مختلفة أخرى إلى وقف الحرب فورا حقنا لدماء السودانيين ودمج قوات الدعم السريع في الجيش السوداني والإسراع في المسار الديمقراطي ومشاركة المدنيين السودانيين في الحكم جنبا إلى جنب العسكريين, وأن طول الحرب واستمراره سيؤدي إلى تفتيت البلاد وتقسيمها, خاصة في ظل الظروف التي تمرّ بها دارفور والعوامل التي قد تؤدي إلى انفصالها.

ومن التوقعات والسيناريوهات المحتملة في حالة عدم التوصل السريع لمنطقة وسطى للحل:

الأول: أن تخرج غالبية الشعب السوداني في الشوارع مطالبين الطرفين بوقف الحرب لعدم توافر أدني مقومات الحياة. ويرجح نجاح هذا السيناريو في الضغط على الطرفين ويشكل واقعا جديدا، حتى وإن كان إجماع النسبة الكبرى على الخروج في مظاهرة تنديدا للطرفين مهمة صعبة في ظل الظروف القاسية الحالية والقصف المنشر في مختلف المناطق التي أجبر الجميع على الفرار من مساكنهم والنزوح إلى ولايات سودانية أخرى ودول مجاورة.

الثاني: أن يستعين طرفا الصراع – الجيش وقوات الدعم السريع –بقوى إقليمية مجاورة أو  دولية أخرى أو مرتزقة خاصة مثل فاغنر. وهذا السيناريو يحمل دمارا شاملا, وخاصة أن معظم الدول الإقليمية, مثل مصر وإثيوبيا وليبيا, متهمة مرارا بالتدخل في الشؤون السودانية, كما أن التقارير كشفت دعم الجنرال الليبي خليفة حفتر ومجموعة فاغنر الروسية لـ حميدتي. وتتعرض مصر أيضا لاتهامات بدعم البرهان والجيش السوداني, بالإضافة إلى تقارير عن أسر جنود مصريين من قبل قوات الدعم السريع, الأمر الذي يجعل الحكومة المصرية حذرة في التعامل مع الصراع السوداني رغم تأثرها المباشر بتطوراتها.

الثالث: خضوع جنرالات الحرب للضغوطات الدولية أو قبول الوساطات الإفريقية التي يعززها المجتمع الدولي وقد ينتهي الأمر إلى فرض حكومة مدنية لمدة معينة في حالة رفض طرفا الحرب التوافق. على الرغم من أن كل واحداً منهم يحاول حتى الآن التغلب على الآخر وفرض الأمر الواقع عبر تكتيكات إعلامية وحربية مختلفة, إلا أن هذا السيناريو سيكون ممكنا في حال تراجع القوى الدولية من تأثيرها المباشر للصراع ودعمها لطرفي النزاع، إضافة إلى تنازل بعضها من امتيازاتها في السودان التي تشمل النفط والذهب والهيمنة على الممرات البحرية الاستراتيجية.

خاتمة

إن الأهمية الاستراتيجية والاقتصادية والجيوسياسية للسودان يعني أن استمرار القتال أو انحداره إلى حرب أهلية سيؤثّر سلبا في حياة الملايين في السودان والمناطق المحيطة بها – وفي جميع أنحاء العالم. وأن معالجة الأزمة السياسية تتطلب أولا فهم كيفية ممارسة السلطة في البلاد وإعادة تقييم هيكل الوساطة في أي محادثات سياسية مستقبلية وتوازن القوى الداخلية المحلية والخارجية دون تجاهل تأكيد الالتزامات تجاه تطلعات السودانيين إلى حكومة ديمقراطية بقيادة مدنية.

 

ظهرت المقالة ماذا وراء الصراع في السودان؟ وإلى أين يتجه؟ أولاً على الأفارقة للدراسات والاستشارات.

]]>
https://alafarika.org/ar/5573/%d9%85%d8%a7%d8%b0%d8%a7-%d9%88%d8%b1%d8%a7%d8%a1-%d8%a7%d9%84%d8%b5%d8%b1%d8%a7%d8%b9-%d9%81%d9%8a-%d8%a7%d9%84%d8%b3%d9%88%d8%af%d8%a7%d9%86%d8%9f-%d9%88%d8%a5%d9%84%d9%89-%d8%a3%d9%8a%d9%86-%d9%8a/feed/ 0 5573
قراءة في مؤشر الإرهاب العالمي 2023: إقليم الساحل يتصدر التصنيف https://alafarika.org/ar/5566/%d9%82%d8%b1%d8%a7%d8%a1%d8%a9-%d9%81%d9%8a-%d9%85%d8%a4%d8%b4%d8%b1-%d8%a7%d9%84%d8%a5%d8%b1%d9%87%d8%a7%d8%a8-%d8%a7%d9%84%d8%b9%d8%a7%d9%84%d9%85%d9%8a-2023-%d8%a5%d9%82%d9%84%d9%8a%d9%85-%d8%a7/ https://alafarika.org/ar/5566/%d9%82%d8%b1%d8%a7%d8%a1%d8%a9-%d9%81%d9%8a-%d9%85%d8%a4%d8%b4%d8%b1-%d8%a7%d9%84%d8%a5%d8%b1%d9%87%d8%a7%d8%a8-%d8%a7%d9%84%d8%b9%d8%a7%d9%84%d9%85%d9%8a-2023-%d8%a5%d9%82%d9%84%d9%8a%d9%85-%d8%a7/#respond Wed, 05 Apr 2023 18:52:19 +0000 https://alafarika.org/ar/?p=5566

يمثل تقرير مؤشر الإرهاب العالمي 2023 جهدًا هامًا في رصد تمدد الأنشطة الإرهابية في العالم ولاسيما في إقليم الساحل، كما ان تطور مقارباته في السنوات الأخيرة يوحي بمقبولية أكبر وتفهمًا متزايدًا لخطورة الظواهر الإرهابية في القارة الأفريقية وضرورة الاهتمام العالمي بمواجهتها بسبل متعددة وليست المقاربة الأمنية وحدها كما يتضح من سطور التقرير الذي لم يتجاوز المائة صفحة.    

ظهرت المقالة قراءة في مؤشر الإرهاب العالمي 2023: إقليم الساحل يتصدر التصنيف أولاً على الأفارقة للدراسات والاستشارات.

]]>

بات تقرير مؤشر الإرهاب العالمي واحدًا من اهم الأدبيات الدورية التي تتناول ظاهرة الإرهاب بمقاربات معقدة ومتشابكة ومناهج تحليل متنوعة تتجلى في تقديم إحصاءات وتحليلات موجزة تؤشر إلى توسع الظاهرة في مختلف أرجاء العالم. وقد صدر التقرير الأخير([1]) في مارس الفائت ليميز مرور عشرة أعوام على إصدار معهد الاقتصاد والسلام (سيدني) للتقرير الذي يلقى رواجًا كبيرًا ومتصاعدًا في دوائر إعلامية وأكاديمية هامة.

صورة عامة

ضم التقرير، الذي لم يتجاوز حجمه مائة صفحة، أربعة أقسام تلت الملخص التنفيذي والنتائج الرئيسة وتقديم نبذة عن المؤشر بشكل عام بمناسبة مرور عشرة اعوام على صدوره. وكان إقليم الساحل الأفريقي حاضرًا في هذا العرض بالإشارة المهمة إلى الزيادة الحادة في الأنشطة الإرهابية فيه على مدار 15 عامًا بنسبة تفوق 2000%، وتشابك العوامل السياسية مع تصاعد الإرهاب مع ما شهده الإقليم من وقوع ستة محاولات انقلابات عسكرية منذ اعلام 2021 نجحت منها أربعة، مع تصاعد الأزمة الغذائية وسوء حالة مياه الشرب والاستقطاب الإثني والصراع الرعوي وتفاقم التدخل الخارجي في أزمات الإقليم (سوماء من قوى تقليدية مثل فرنسا أو غير تقليدية مثل الصين وروسيا راهنًا). كما لفت العرض إلى تصدر إقليم الساحل بؤر الإرهاب في العالم إذ شهد الإقليم في العام 2022 وفيات من الإرهاب أكثر من الحوادث التي شهدتها أقاليم جنوب آسيا والشرق الأوسط وشمال أفريقيا معًا. وجاءت هذه الخلاصة رغم ما كشفت عنه “النتائج” من تراجع أعداد قتلى الحوادث الإرهابية في العالم في العام 2022 إلى 6701 فرد في تراجع مثل 9% مقارنة بالعام 2021، تراجع أعداد الحوادث بنسبة 28% في الفترة نفسها لتصل إلى 3955 حادثًا (وهو التراجع الذي عاد بالأساس لتراجع الأعمال الإرهابية في أفغانستان والشرق الأوسط).

النتائج

جاء القسم الأول ليعرض “النتائج” التي توصل لها التقرير عن العام 2022، ورصد التقرير تأثر إقليم الساحل أكثر من غيره بالأعمال الإرهابية رغم التحسن النسبي الذي شهدته كل من نيجيريا والنيجر. وقاد هذا التدهور ما شهدته بوركينا فاسو ومالي من زيادات كبيرة في الوفيات جراء الأعمال الإرهابية بنسبتي 50%، و56% ليرتفع عدد الوفيات إلى 1135 و944 على الترتيب. مع ملاحظة اعتلاء بوركينا فاسو قائمة أكثر دول العالم تضررًا بالأعمال الإرهابية حسب مؤشر عدد الوفيات تلتها مالي (حسب الأرقام المذكورة توًا)، ثم الصومال (755) وباكستان (643)، وأفغانستان (633). كما رصدت احصاءات التقرير مسئولية الدول الأفريقية عن النسبة الغالبة من ضحايا الأعمال الإرهابية في العالم أجمع؛ إذ كانت بوركينا فاسو وحدها مسئولة عن 17%، ثم مالي (14%)، والصومال (11%)، ونيجيريا (6%)، والنيجر (3%)، للتجاوز النسبة الإجمالية لأفريقيا في هذا المؤشر 51%.

كما رصد القسم تطورات أنشطة جماعة شباب المجاهدين النشطة في الصومال على الأقل منذ صيف العام 2006. وقدم التقرير عرضا موجزا لأنشطة الجماعة في كينيا والصومال، مع زيادة أعداد ضحاياها في العام 2022 بنسبة 23% وتركز هذه النشطة الإرهابية في العاصمة مقديشو. كما تناول القسم (ضمن عرلاضه لأربعة جماعات رئيسة في العالم) جماعة نصرة الإسلام والمسلمين التي تكونت في العام 2017 في إقليم الساحل كتحالف للجماعات السلفية الجهاية المسلحة (وأبرزها جبهة تحرير ماسينا، وأنصار الدين وجماعات تابعة للقاعدة في المغرب الإسلامي). وركز تناول هذه الجماعة على إبراز تكتيكاتها وتطورها في العام 2021-2022.

واختتم القسم بعرض لأكثر عشرة دول تضررًا في العالم من الأنشطة الإرهابية وهي أفغانستان وبوركينا فاسو والصومال ومالي وسوريا وباكستان والعراق ونيجيريا والميانمار والنيجر، لتقتسم قارتا آسيا وأفريقيا القائمة وحدهما.

اتجاهات في الإرهاب

أما القسم الثاني فقد جاء بعنوان “اتجاهات في الإرهاب”، واستعرض التقرير أهم هذه الاتجاهات منذ العام 2007، مع ملاحظة أن أغلب الأعمال الإرهابية في العام 2007-2008 دارت حول بؤرتي العراق وأفغانستان، وأنه بعد أحداث الربيع العربي وظهور “الدولة الإسلامية” حدث تصاعد في الإرهاب في الشرق الأوسط لاسيما في سوريا والعراق، بالتزامن مع تصاعده البارز في نيجيريا. كما شهد إقليم الساحل، بعد ذروة الأعمال الإرهابية في العالم في العام 2015 ومقتل أكثر من 10 آلاف فرد في أعمال إرهابية، زيادة كبيرة في عدد العمليات الإرهابية به كانت الكبر من نوعها في الأعوام الخمسة الأخيرة (2017-2022).

واحتلت بقاع متفرقة في إقليم الساحل (حسب التقرير) أبرز مواقع العمليات الإرهابية في العالم في الفترة 2020-2022 وهي أقصى شمال شرق نيجيريا، والمناطق الحدودية وتخومها بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو. وركز أغلب القسم على الظواهر الإرهابية في “الغرب” وأبعادها الأيديولوجية من قبيل صعود “اليمين المتطرف”.

واختتم القسم بتناول الاتجاهات الإقليمية في الإرهاب ومؤشراتها في الفترة 2012-2022 ولاحظ أن إقليم “أفريقيا جنوب الصحراء شهد الهجمات الأكثر خطورة، وقتل نحو ثلاثة أفراد في كل هجوم مفرد، كما شهد الإقليم عدد عمليات إرهابية يفوق عدد ضحايا الإرهاب في إقليم آسيا- الباسفيك وأمريكا الوسطى والكاريبي وأوروبا وامريكا الجنوبية وروسيا وأوراسيا مجتمعة في الفترة 2007-2022. واختتم القسم تناوله لاتجاها الإرهاب الإقليمية بتناول لأفريقيا جنوب الصحراء (\44 دولة) وتصنيفها وفق المؤشر حيث احتلت بوركينا فاسو والصومال ومالي ونيجيريا والنيجر والكاميرون وموزمبيق وجمهورية الكونغو الديمقراطية وتشاد وكينيا قائمة الدول العشر الأكثر تضررًا من الإرهاب في الإقليم بدرجة تبدأ من 8.564 في المؤشر (بوركينا فاسو). ولاحظ الجزء التقرير أن جيبوتي شهدت التدهور الكبر في المؤشر في الإقليم في العام 2022 مع ما شهدته من أول حادث إرهابي منذ نحو ثمانية اعوام وقتل خلاله ثمانية جنود في أكتوبر 2022 في قاعدة عسكرية. واتهمت وزارة الدفاع الجيبوتية “جبهة استعادة الوحدة والديمقراطية” Front for the Restoration of Unity and Democracy (FRUD) بضلوعها في الحادث. كما سجلت بنين وتوجو تدهورًا ملموسًا في المؤشر في العام 2022 بسبب انتشار أنشطة “التطرف الجهادي” من إقليم الساحل المجاور.

10 سنوات من مؤشر الإرهاب العالمي: الإرهاب والسلم في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا (2012-2022)

يقدم القسم رؤية شاملة لتطور حالة الإرهاب في الإقليم في العقد الفائت ويلاحظ في افتتاحيته تراجع أثر الإرهاب في الإقليم بشكل ملموس للغاية بعد ذروته في العام 2016 حيث كان الإقليم مسئولًا في هذا العام عن 57% من جميع ضحايا الإرهاب في العالم. وبحلول العام 2022 تراجع الرقم بشكل كبير ووصل إلى نسبة 12%، وتزامنت هذه الحقبة مع صعود وسقوط (تنظيم) “الدولة الإسلامية” وتراجع العمليات الإرهابية وتغير تكتيكاتها. غير أن مؤشر الإرهاب العالمي يلاحظ –إجمالًا- ملاحظة ملفتة وهي أن تراجع الإرهاب في الإقليم منذ العام 2017 لم يكن مرتبطًا بمستوى مشابه من التحسن في السلمية peacefulness إذ ظل الإقليم الأقل سلمًا في العالم وفقًا للمؤشر. وفي العام 2022 كان مستوى السلام في الإقليك أقل من حاله قبل عقد وسجل تراجعًا 5%. ثم تناول التقرير في قسمه الرابع إقليم الساحل منفصلًا في دلالة على أهمية وخطورة ظاهرة الإرهاب في الإقليم إلى جانب الاهمام الغربي التقليدي بالإقليم في ظل التطورات في السياسات الدولية الراهنة

إقليم الساحل الأفريقي: استدامة الإرهاب؟

ركز القسم (الذي يقترب من ثلث حجم التقرير) حصرًا على تناول الإرهاب في إقليم الساحل (والتي صنفها التقرير في 10 دول هي بوركينا فاسو والكاميرون وغامبيا وتشاد وغينيا ومالي وموريتانيا والنيجر ونيجيريا والسنغال)، مؤكدًا في البداية على مواجهته آثار تصاعد عدم الاستقرار السياسي والتوترات الجيوسياسية المتضخمة واستخدام وسائل مكافحة الإرهاب الخشنة لتحجيم التهديد المتصعد من قبل الجماعات “الجهادية السلفية” والقضاء عليها. ولاحظ القسم مواجهة الساحل لتحديات اجتماعية واقتصادية وسياسية وأمنية متشابكة، وأن هذه التعقيدات ترجح استدامة الحيلولة دون الشروط اللازمة لتحقيق سلام إيجابي وإخراج الساحل من دائرة العنف والهشاشة.

كما أن عجز حكومات الإقليم عن توفير الأمن الفعال قد شجع الجماعات الإرهابية على مواصلة أنشطتهم عبر السيطرة على الأراضي وجعل الساحل بشكل متزايد أكثر عنفًا. وسعت الجمااعت افرهابية والعصابات الإجرامية لاستغلال الفراغات السوسيو- اقتصادية والسياسية لصالحها. ورغم أن الساحل شهد أعلى زيادة في عدد ضحايا الإرهاب فإن بقية أفريقيا جنوب الصحراء تشهد أيضًا زيادات منتظمة مع ارتفاع عدد ضحايا الإرهاب من 472 في العام 2013 إلى 1159 في العام 2022. وتمثل موزمبيق والصومال أكبر الدول التي شهدت زيادات في النشاط الإرهابي في العام الماضي، إذ تضاعفت اربعة أضعاف في موزمبيق ونحو 96% في الصومال منذ العام 2013.

وفيما يتعلق بسياق الإرهاب في الإقليم يؤكد التقرير أنه يقع في الغالب كتكتيك داخل وضع صراعي، وتستخدمه جماعة تسعى لتحقيق تغيير سياسي. وقد غذت العديد من العوامل الأزمة الجارية في الساحل بما في ذلك لاتغير المناخي وتردي الحوكمة والاستقطاب الإثني وسوء استغلال أجهزة الأمن الحكومية ، والصراع الرعوي ونمو أيديدولوجية الإسلام السلفي العابر للقوميات والصراع على استخراج الموارد الطبيعية (لاسيما الذهب) ووجود فاعلين خارجيين (مثل فرنسا)، وهي عوامل أسهمت جميعها في استمرار ظاهرة الإرهاب في الساحل.

وفيما يتعلق بالاستراتيجيات والتكتيكات الإرهابية لاحظ التقرير مواجهة إقليم الساحل تحديات أمنية من الجماعات الإثنية- القومية، والمنظمات الإرهابية، وجماعات العصابات الإجرامية. وأنه كانت هناك في الماضي فترات من التعاون والتنسيق والسلم بين عدد من المجموعات الإرهابية، واندماج جماعات صغيرة في جماعات إرهابية أكبر حجمًا وانتشارًا. وتشير الدراسات إلى استخدام جماعات مثل نصرة الإسلام (التابعة للقاعدة) النزعة الشعبوية الرعوية لتكوين تحالفات، فيما تستخدم جاماعت أخرى نظامًا أكثر تراتبية. ويجسد النظام الرعوي الشعبوي بشكل رئيس في الفولاني حيث استغلت الجماعات الإرهابية معاناة هذه المجموعات من الفساد والاستغلال والضرائب الباهظة لحشد عناصر من بينها. كما تصاعد نمط إقدام الجماعات الإرهابية على قتل القادة المحليين، وهو نمط آخذ في التصاعد بشكل كبير مستقبلًا. ويمثل استهداف زعماء القبائل والعمد واعضاء المجالس المحلية والقادة الدينيين وسيلة هامة لتحقيق فراغ سلطة في المنطقة التي تسعى الجماعات الإرهابية للسيطرة عليها لاحقا.

خلاصة

يمثل تقرير مؤشر الإرهاب العالمي 2023 جهدًا هامًا في رصد تمدد الأنشطة الإرهابية في العالم ولاسيما في إقليم الساحل، كما ان تطور مقارباته في السنوات الأخيرة يوحي بمقبولية أكبر وتفهمًا متزايدًا لخطورة الظواهر الإرهابية في القارة الأفريقية وضرورة الاهتمام العالمي بمواجهتها بسبل متعددة وليست المقاربة الأمنية وحدها كما يتضح من سطور التقرير الذي لم يتجاوز المائة صفحة.

ــــــــ

[1] Global Terrorism Index 2023, Institute of Economics and Peace, March 2023 https://www.visionofhumanity.org/wp-content/uploads/2023/03/GTI-2023-web-270323.pdf

ظهرت المقالة قراءة في مؤشر الإرهاب العالمي 2023: إقليم الساحل يتصدر التصنيف أولاً على الأفارقة للدراسات والاستشارات.

]]>
https://alafarika.org/ar/5566/%d9%82%d8%b1%d8%a7%d8%a1%d8%a9-%d9%81%d9%8a-%d9%85%d8%a4%d8%b4%d8%b1-%d8%a7%d9%84%d8%a5%d8%b1%d9%87%d8%a7%d8%a8-%d8%a7%d9%84%d8%b9%d8%a7%d9%84%d9%85%d9%8a-2023-%d8%a5%d9%82%d9%84%d9%8a%d9%85-%d8%a7/feed/ 0 5566
السنغال: ما التحديات التي تواجه خطة “سال” لولاية رئاسية ثالثة في ظل الوضع السياسيّ الحالي؟ https://alafarika.org/ar/5560/%d8%a7%d9%84%d8%b3%d9%86%d8%ba%d8%a7%d9%84-%d9%85%d8%a7-%d8%a7%d9%84%d8%aa%d8%ad%d8%af%d9%8a%d8%a7%d8%aa-%d8%a7%d9%84%d8%aa%d9%8a-%d8%aa%d9%88%d8%a7%d8%ac%d9%87-%d8%ae%d8%b7%d8%a9-%d8%b3%d8%a7/ https://alafarika.org/ar/5560/%d8%a7%d9%84%d8%b3%d9%86%d8%ba%d8%a7%d9%84-%d9%85%d8%a7-%d8%a7%d9%84%d8%aa%d8%ad%d8%af%d9%8a%d8%a7%d8%aa-%d8%a7%d9%84%d8%aa%d9%8a-%d8%aa%d9%88%d8%a7%d8%ac%d9%87-%d8%ae%d8%b7%d8%a9-%d8%b3%d8%a7/#respond Thu, 30 Mar 2023 13:55:10 +0000 https://alafarika.org/ar/?p=5560

إن الدولة الحالية لا ترغب في ترشّح عثمان سونكو نظرًا لخطابه التجديدي في السياسة، وتمسّكه بالراديكاليّة في المعارضة، ومحاولته لإثارة الملفات الساخنة في اقتصاد الدولة وخططها المستقبلية في إنتاج الغاز الطبيعيّ، وهذه الأمور كلها مهددة لرئاسة ماكي سال وأسرته ووزرائه وأعوانه ومناصريه. وبالتالي كان الهدف الأوْلى لديهم إسقاطه من الوهلة الأولى اعتمادا على التجارب السابقة في النزاعات السياسية.

ظهرت المقالة السنغال: ما التحديات التي تواجه خطة “سال” لولاية رئاسية ثالثة في ظل الوضع السياسيّ الحالي؟ أولاً على الأفارقة للدراسات والاستشارات.

]]>

استجدّ الوضع السياسيّ السنغاليّ جراء الملف القضائيّ الجديد الذي يطارد زعيم المعارضة عثمان سونكو، ويتمثّل ذلك في تصريح له بيّن فيه وجود تقرير رسميّ يوضّح سرقة الوزير السابق مام مباي نيانغ أموال الدولة يقدّر بـ 29 مليار فرنك سيفا عن طريق استغلاله مشروع برنامج المناطق الزراعية المجتمعية “Prodac”، وعلى ذلك تم رفع شكوى ضدّه بارتكاب جريمة التشهير؛ وأصبحت القضية تأخذ مسارًا سياسيّا كسابقتها المتمثل في ملف الاغتصاب – وكأنه فرصة جديدة لتأكيد فرضيّة رغبة السلطة الحاكمة في إعاقته للترشّح في الانتخابات الرئاسية لعام 2024م.

وتبقى القضيّة الأخيرة معقّدة قانونيّا لزعيم المعارضة نظرًا لتصريحاته المثيرة في شأنها، حيثُ أكّد بتوفّر المعلومات الكاملة لديه حول القضيّة واحتفاظه بتقرير عنها، وذكر في تصريح آخر بعد التحقّق معه أنه وجد التقرير في الانترنت؛ ومن هنا يطرح السؤال نفسه عن مدى تأكّد زعيم المعارضة من الخبر الذي وزّعه على الملأ بدون وجود تقارير إدارية رسميّة، الأمر الذي يقود ناقده إلى القول بعدم مصداقيته حتّى في بعض أخبار الفساد التي كان يعلنها سابقًا، أو كانت المعلومات تصل إليه من دون إجراء التحقق عنها.

ومن المنطلق السابق، يأتي التساؤل عن مصدر معلومات عثمان سونكو؟ وإن كان بالفعل يتلقّاها من أنصاره المنخرطين في العمل الإداريّ الوطنيّ فهنالك احتمال إيقاعه في فخّ نشر الأخبار العالقة في مصنع الطهي السياسيّ المستمدّ من الفساد الإداريّ للدولة. وكما يُحمّل جزءا من المسؤوليّة بناء على تصريحاته، فإنه السلطة بالمقابل تُحاول انتهاز واستغلال هذه الفرصة لإقصائه من المنافسة السياسية في السنغال لمنعه من الترشّح في الرئاسيّات القادمة كما فعلتْ سابقًا مع كريم واد وخليفة صال.

هذا, وفي الوقت الذي أظهرت قرائن متعددة على مستوى الإدارة التنفيذية للسلطة بوجود تلاعب ماليّ في مشروع Prodac؛ فقد استند زعيم المعارضة سونكو على فرضيّة رغبة الحكومة السنغالية الحالية في إقصائه مما يوجب عليه مواجهة أفراد الحكومة سياسيّا عبر تعبئة الرأي العام من أجل التجمهر وراءه لدعمه في مشروعه السياسي؛ ونتج عن هذا سلسلة من الانتهاكات التي مورس في حقّه أثناء ذهابه وعودته من المحكمة. وبطبيعة الحال، ورغم الإنجازات المتعددة للسلطة الحاكمة، فإنها قامت بالعديد من الانتهاكات في الشأن العام، بما في ذلك الفساد الإداريّ، والتلاعب بالمال العام وتهديد خزائن الدولة بشراء الذمم السياسية.

واستنادًا إلى هذه المعطيات فإن الدولة الحالية لا ترغب في ترشّح عثمان سونكو نظرًا لخطابه التجديدي في السياسة، وتمسّكه بالراديكاليّة في المعارضة، ومحاولته لإثارة الملفات الساخنة في اقتصاد الدولة وخططها المستقبلية في إنتاج الغاز الطبيعيّ، وهذه الأمور كلها مهددة لرئاسة ماكي سال وأسرته ووزرائه وأعوانه ومناصريه. وبالتالي كان الهدف الأوْلى لديهم إسقاطه من الوهلة الأولى اعتمادا على التجارب السابقة في النزاعات السياسية.

الرئيس “ماكي سال” وأسباب قمعه للمعارضة السياسية

بالإشارة إلى ما سبق ذكره، فإنه بعد الانتخابات الرئاسية لعام 2019، أراد الرئيس ماكي سال ضبط إيقاع المعارضة في السنغال، ومدّ يده إلى المعارض الأول إدريس سيك الذي انضمّ إليه في حكومته. ويبدو أنّ الرئيس سال استخفّ بوزن عثمان سونكو السياسيّ نظرًا لكونه الرجل الثالث بعد الانتخابات الرئاسية لعام 2019، وسرعان ما تغيّرت الظروف حتّى أصبح هو المعارض الأول في السنغال نتيجة تعبئته السياسية، وأُسند إليه تجميع رأي المعارضة باسم “ائتلاف يوّي أسكنوي”، حيثُ حاول الائتلاف مناهضة السلطة في الانتخابات البلدية والتشريعية الماضيتين، ومنذ تلك الفترة، ومع اقتراب رئاسيات 2024، تسعى سلطة الدولة إلى النظر في مدى إمكانية الترشّح للولاية الثالثة بعد أن كان الترشّح لها خارج الحسابات استنادًا إلى تصريحات الرئيس سال حولها وما تمّ تدوينه في الدستور من اكتفاء الرئيس بولايتين فقط. وفي خضم البحث حول القراءات الدستورية انبثقت روح المقاومة من المعارضة تنديدًا وتهديدًا، ونتج عن ذلك وجود ملفات قضائية على عاتق زعيم المعارضة عثمان سونكو، الأمر الذي أدّى إلى قيام سلطة الدولة بتحقيق سياسة الترويع مواجهةً للمعارضة في تنديدها للتلاعب القضائيّ من أجل إقصاء المعارضين.

وعليه يمكن إيجاز أسباب قمع المعارضة إلى الآتي:

1- تمهيد الترشّح للولاية الثالثة: تقوم المعارضة على رفض ترشّح رئيس الدولة ماكي سال للولاية الثالثة التي تخالف نصّ الدستور الوطني السنغالي، بينما يحاول الرئيس سال فرض إرادته للترشّح من منطلق التأويلات الدستورية وعدم تعداد الولاية الأولى التي كانت مدتها 7 سنوات. وهذا النزاع بين الجانبين أدى إلى استغلال سلطة الدولة الملفات القضائية لبعض المعارضين لتقليل فرص مشاركتهم – وقد يصل الأمر إلى منع المعارضة من الترشّح.

2- إجراء تحقيقات حول خطط المعارضة: تشهد الساحة السياسية السنغالية بعد أحداث مظاهرات مارس 2023 العديد من الاعتقالات، حيث اعتقل العديد من رؤوس حزب “باستيف” (Patriotes africains du Sénégal pour le travail, l’éthique et la fraternité) الذي يرأسه المعارض عثمان سونكو؛ وذلك كله إجراءات تمهيدية من السلطة للبحث عن حيل المعارضة وخططها التي تعمل عليها في شنّ الحرب ضدّها، ومن ثمّ العمل على إعاقتها واتهامها وإدانتها. وتفيد التحقيقات الأولية بإلصاق تهمة المسّ بأمن الدولة للمعتقلين من حزب “باستيف”؛ وذلك نظرًا لخشونة الخطاب السياسي لديهم، وممارستهم التنديد بشتّى الأشكال.

3- دواعي سياسيّة: تبقى السياسة بما تمثّلها من ظروف ومصالح، تؤدى إلى مساعي الحزب الحاكم لكبح جماح المعارضة أيًا كان نوعها من أجل البقاء في الحكم؛ ولو احتاج ذلك استغلال مؤسسات الدولة في شأن ذلك حراسةً ومراقبةً.

4- ترويع الآمنين وإلهاء الشعب: أن للدولة أدوارا عديدة في العنف المنتشر في مظاهرات الشعب الأخيرة، حيث تُحاول الحكومة جعل الاعتقالات وقمع المعارضة كآلة قانونية لترويع منتقديها والخارجين ضد خططها. وقد يكون إحداث العنف أحيانا من أجل ضبط سيرورة أعمال الدولة وإلهاء المواطنين عن العديد من المطالبات في ظلّ انتشار أمواج المعارضة السياسية. بالإضافة إلى تعجيل الإجازات المدرسية وغيرها تفاديا من إسهام المدرسة في عملية التنديد والاحتجاج.

وتجدر الإشارة إلى أن الاستبداد السياسيّ القمعيّ مقابل الإرهاب السياسي الفكريّ وجهان لعملة واحدة، وحيث يكمّل كل واحد منهما الآخر. ويؤشر الوضع الحالي على ضرورة إعمال العقل في تقدير مواقف ردّات الفعل، والحنكة في تبسيط إجراءات المقاومة, كما أن هناك حاجة للتسلّح بضوابط الحيطة والحذر من أجل الإصلاح السياسي عبر قنوات الحوار حفاظا للسلم والأمن والاستقرار.

التحديات التي تواجه خطة “سال” للفترة الرئاسية الثالثة

بالإضافة إلى النقاط والمعطيات سابقة الذكر، يمكن إجمال أهم التحديات التي تواجه خطة الرئيس ماكي سال للفترة الرئاسية الثالثة في النقطتين التاليتين:

1-التحدّي الدستوريّ: يصعب على الرئيس ماكي سال إقناع الشعب السنغالي بشرعيّة فترة رئاسته للولاية الثالثة؛ وذلك لكونه ناهض سابقا حكومة عبد الله واد حين أرادت الترشّح للولاية الثالثة، وقدم إصلاحات دستورية 2016 للحدّ من فوضى الولاية الثالثة. ومع ذلك، فإن له مساحة دستورية للتأويل بالشرعيّة، وربما يكون المجلس الدستوريّ قادرًا على إخراجه من هذا التحدّي المليء بالمخاطر السياسية والأمنيّة – حتى وإن كان هذا لا يضمن له سهولة المرور في الانتخابات القادمة نظرًا للاعتبارات الأخرى مع تعدد وجوه المعارضة.

2-التحدّي السياسيّ والأمنيّ: تشتهر دولة السنغال بتميزها في التداول السلمي للسلطة والاستقرار الديمقراطي؛ ومع ذلك ستكون رغبة الرئيس سال للترشح للولاية الثالثة اختبارا حقيقيّا عن مدى تمسّكه بمبادئ الديموقراطية وعدم عزمه تهديد النظام السياسي السنغاليّ، الأمر الذي يقود إلى القول بأن ردّات الفعل في هذا الشأن يلزمه العديد من الخطوات الأمنية لمراقبة ممتلكات الدولة واستقرارها دون انتهاك حرمات المواطنين. ويلزم تخطّيه هذا التحدّي تنازله عن خطة الترشّح، أو تضعيفه جبهات المعارضة بشكل يساهم في إسكات العدد الكبير من معارضيه بين مواطني السنغال.

في سياق رئاسيات عام 2024

مما سبق يمكن القول بأن الانتخابات الرئاسية لعام 2024 في السنغال ستكون استثنائية؛ وذلك بالنظر لما تخفيها الأحداث الجارية من تفسيرات مختلفة. ويمكن قراءة هذه الاستثنائية من جانب ائتلاف المعارضة حيثُ أنه يظهر في مجريات الأحداث تارة بعدم امتلاك معظم قادته الجُرأة اللازمة في مساندة عثمان سونكو – أحد أعضائه الذي يُعدّ زعيم المعارضة الحالي.

ويُستنتج أيضا من ردّات فعل ائتلاف المعارضة -جراء استهداف السلطة حزب “باستيف” – أن التضحية بـ عثمان سونكو قد تكون من أجل توسيع مساحة الفرصة لدى الليبراليين منهم، حيث يظهر في المعطيات القضائية الحالية تجريد عثمان سونكو من الأتباع سواءً على مستوى الحزب أو على مستوى الائتلاف حيث بقي وحيدًا أمام القضاء، ولم يبق له إلاّ جمهوره الذي يتغنّى بهم.

ومن هنا يأتي السؤال عن مدى جاهزية الشعب السنغالي في ظل التخبّط الملحوظ أثناء المظاهرات والتهديد الأمني وتدمير الممتلكات. ويبدو من تصريحات سلطة الدولة أنها عازمة للحد من الفوضى نظرًا للخسائر الكبيرة جراء المظاهرات السابقة. هذا بالإضافة إلى التصريحات الأخيرة للمدعي العام متهما بعض أنصار حزب باستيف بتدبير خلايا إرهابية للمساس بأمن الدولة وتقويض نظامها، كما خرج عثمان سونكو بعد ذلك بساعات منددا ومنكرا جميع الاتهامات التي تلفظها المدعي في تصريحه، حيث أكّد على ضرورة مواصلة النضال بالمظاهرات يوم 29، 30 مارس و3 أبريل 2023م تنديدا على الأعمال الجائرة التي تقوم بها السلطة من اعتقالات ومضايقات.

ومن التساؤلات الأخرى الطارئة على الساحة: ماذا سيحدث لو أدانت المحكمة عثمان سونكو ومنعته السلطة من الترشّح؟ فهل سيكون أنصاره قادرين على إنجاح ثورته علماً أنه مُنع سابقًا من الترشّح في الانتخابات التشريعية دون مقاومة تُذكر في حينه، أو أن ترشّحه الرئاسيّ هو الحمل الثقيل الذي لا يُسقطه أنصاره عنه ولو بمقابل الاستعدادات العسكرية والسياسية التي تعهدها رئيس البلاد للوصول إلى مآربه.

ومن ناحية أخرى، الرئيس ماكي سال بتصريحاته الأخيرة في إحدى الصحف الفرنسية أبدى اهتماما كبيرًا في المغامرة بالترشّح للولاية الرئاسية الثالثة. ويعيد المحللون السياسيون ذلك إلى المشاريع الكبيرة التي تعهدها سال وخاصة فيما يتعلق بالاستثمارات الدولية واهتمامه بمواصلة سبر أغوار الغاز الطبيعي من أجل مواصلة المشاريع التنموية في الوقت الذي لم يجد لنفسه بديلاً مناسباً على مستوى حزبه السياسيّ.

ومهما يكن من أمر، فإن مشاركة عثمان سونكو في الانتخابات ستقلل من فرصة الرئيس سال للولاية الثالثة. وإن أُقصيَ سونكو مع مشاركة سال فستكون فرص المعارضة ضئيلة للفوز أو استدراك المنافسة. هذا، إلى جانب التطورات الجديدة التي قد تطرأ في الساحة السياسية في ظل موجة الانشقاقات المتعددة بين الأطراف السياسية.

 

ظهرت المقالة السنغال: ما التحديات التي تواجه خطة “سال” لولاية رئاسية ثالثة في ظل الوضع السياسيّ الحالي؟ أولاً على الأفارقة للدراسات والاستشارات.

]]>
https://alafarika.org/ar/5560/%d8%a7%d9%84%d8%b3%d9%86%d8%ba%d8%a7%d9%84-%d9%85%d8%a7-%d8%a7%d9%84%d8%aa%d8%ad%d8%af%d9%8a%d8%a7%d8%aa-%d8%a7%d9%84%d8%aa%d9%8a-%d8%aa%d9%88%d8%a7%d8%ac%d9%87-%d8%ae%d8%b7%d8%a9-%d8%b3%d8%a7/feed/ 0 5560