الجهود القطرية في إفريقيا: نموذج اتفاقية الدوحة بين المجلس العسكري الانتقالي والمعارضة المسلحة في تشاد

تحميل الورقة (صيغة بي دي اف)

منذ منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين برزت دولة قطر كواحدة من أهم الدول التي تقوم بدفعة دبلوماسية وتنشط كوسيط في النزاعات الدولية, حيث تعدّت جهودها محاولات الوساطة في منطقة الشرق الأوسط إلى أجزاء مختلفة بإفريقيا جنوب الصحراء الكبرى, وذلك بهدف إنهاء الصراعات وتعزيز الاستقرار السياسي والأمني, الأمر الذي يوطد علاقاتها مع دول مختلفة ويكسبها سمعة عالمية كوسيط جدير بالثقة([1]).

وعليه ستتناول هذه الورقة جهود قطر للوساطة في إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى مع التركيز على الأزمة السياسية في تشاد بين السلطات والمعارضة ودور الدوحة في إحضار الأطراف المتنازعة إلى طاولة الحوار وتوقيعها اتفاقية السلام (اتفاقية الدوحة) التي تمهّد الطريق للحوار الوطني الشامل ووضع حد للصراع الطويل.

 

أولا: الجهود القطرية في إفريقيا

انضمت دولة قطر مؤخرا في صفوف اللاعبين الرئيسيين الجدد في إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، حيث تستثمر في البنى التحتية وتمارس أكبر نشاط دبلوماسي مع المشاركة في الوساطات السياسية في مالي وجمهورية الكونغو الديمقراطية ورواندا وكينيا والصومال وتشاد, لتصبح الدوحة – عاصمة قطر – من العواصم التي يقصدها زعماء القارة الإفريقية ومسؤولوها([2]).

وإذا كانت قطر نجحت في التوسط في أكثر من 10 قضايا إفريقية ودولية رئيسية منذ عام 2008؛ فقد استقطبت جهودها الدبلوماسية الاهتمام داخل إفريقيا عندما توسّطت بين إثيوبيا وإريتريا في عام 2018 واستضافت محادثات السلام بين الحكومة السودانية والجماعات المتمردة في عام 2019. كما ساعدت في تهدئة التوترات بين كينيا والصومال بعد أن قطعت مقديشو علاقاتها الدبلوماسية مع نيروبي لمدة ستة أشهر في ديسمبر 2021، متهمة جارتها بالتدخل في الشؤون الداخلية([3]). وكانت النتيجة أن أعلنت الحكومتان الكينية والصومالية إعادة فتح سفارتيهما([4]).

وخلال العامين الماضيين تنامت سمعة قطر نتيجة خطواتها في تهدئة الوضع في تشاد بعد الانتخابات المتنازع عليها ومقتل الرئيس السابق إدريس ديبي([5]). إضافة إلى أنه في مارس الماضي (2023) – وبناءً على طلب الولايات المتحدة – نجحت وساطة الدوحة في إطلاق سراح المعارض الرواندي بول روسيساباجينا المعتقتل منذ أغسطس من عام 2020, حيث منحه الرئيس الرواندي بول كاغامي عفوا رئاسيا والإعفاء من الحكم بالسجن لمدة 25 عاما.([6])

وهناك جهود دبلوماسية أخرى بذلتها قطر في تهدئة التوترات في وسط وشرق إفريقيا, مثل عقدها اجتماعا لتحقيق التقارب بين الرئيس الرواندي بول كاغامي ونظيره الكونغولي فيليكس تشيسكيدي بعد تأزّم العلاقات بينهما نتيجة أزمة شرق الكونغو الديمقراطية. بل وسافر وفد من الدوحة برئاسة مساعد وزير الخارجية للشؤون الإقليمية محمد بن عبد العزيز الخليفي إلى القارة الأفريقية في مارس الماضي (2023) والتقوا برؤساء رواندا وبوروندي وكينيا وأنغولا لتعزيز نجاح جهود الوساطة([7]).

هذا, وقد كان الانطباع العام في إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى تجاه قطر إيجابيّ, كما أن معظم الدول الإفريقية تبنّت الحيادية إبان الحصار الخليجي على الدوحة. وقد أدى الأمير القطري الشيخ تميم بن حمد آل ثاني زيارات متعددة إلى أفريقيا مما عززت العلاقات القطرية الإفريقية ووسّعت دوائر الصداقات مع إقامة مسار جديد متمثل في الاستثمار في المنطقة.

ويؤكد على ما سبق أنه في عام 2019 وافقت قطر على استثمار 60 في المئة في مشروع بقيمة 1.3 مليار دولار لبناء مطار رواندا الجديد الذي يُعَدّ أكبر مطار في شرق إفريقيا ويُتوقّع أن يصبح مركزًا للطيران الإقليمي. وفي عام 2020 استحوذت الخطوط الجوية القطرية على 49 في المئة من شركة رواند إير المملوكة للدولة الرواندية. وهناك مساعي قطرية أخرى للاستثمار في مشاريع الطاقة المتجددة وتمويل توسعة ميناء مومباسا بكينيا وبناء ميناء جديد في تنزانيا. هذا إلى جانب استثماراتها في إثيوبيا ومشاركتها في التنقيب عن النفط والغاز في موزمبيق التي أصبحت وجهة مهمة لقطاعات الطاقة الدولية بسبب احتياطياتها الكبيرة من الغاز الطبيعي, حيث وقّعت شركة قطر للطاقة عدة اتفاقيات مع شركات موزمبيق لتطوير احتياطيات الغاز الطبيعي في البلاد([8]).

جدير بالذكر أن الوساطات القطرية – وخاصة في تشاد – جاءت في الأوقات التي فشلت فيها جهود سابقة أو أتت المساعي المحلية والإقليمية بنتائج ضئيلة. وفي حالة تشاد جاءت الصفقات بين الحكومة التشادية والمعارضة تحت اتفاقية الدوحة عندما كانت البلاد على مفترق طرق نتيجة الأزمة السياسية والماضي المضطرب الذي شهدته تشاد واستمرار وجود حركات تمرد في الشمال ضد السلطة المركزية البعيدة في العاصمة انْجَمِينا.

 

ثانيا: محادثات الدوحة في سياق الأزمة السياسية التشادية

تحدّ تشاد دول كثيرة هي: ليبيا من الشمال والسودان من الشرق وجمهورية أفريقيا الوسطى من الجنوب والكاميرون من الجنوب الغربي ونيجيريا من الجنوب الغربي عند بحيرة تشاد والنيجر من الغرب. وبهذا تعد دولة استراتيجية لأمن إقليمي وسط وغرب إفريقيا. وقد عانت البلاد منذ استقلالها عن فرنسا في عام 1960 أعمال عنف واضطرابات متكررة, وعزّز تراكم الإحباط – خلال ثلاثة عقود من حكم الرئيس الراحل إدريس ديبي الذي تولى السلطة منذ عام 1990 – أنشطةَ المعارضين السياسيين وانتفاضات المتمردين المسلحين، كما مكّنت الاضطرابات في الدول المجاورة – مثل ليبيا وجمهورية إفريقيا الوسطى والسودان – قوات المتمردين التشاديين من الاحتماء بالحدود وتنفيذ هجماتها ضد الحكومة المركزية وقواتها([9]).

وصلت الأزمة التشادية مرحلة جديدة في عام 2021 عندما أعلن الرئيس إدريس ديبي فوزه في الانتخابات الرئاسية مما منحته فترة ولايته السادسة, حيث أظهرت النتائج الرسمية أنه حصل على ما يقرب من 80 في المئة من الأصوات رغم مقاطعة المعارضة للانتخابات ومزاعم بعض الهيئات تزويرها وعدم نزاهتها. وبعد ساعات قليلة فقط من إعلان فوزه قُتل الرئيس ديبي البالغ من العمر 68 عاماً على خط المواجهة في شمال تشاد عبر الحدود مع ليبيا حيث كانت القوات التشادية تقاتل جماعة المتمردين باسم جبهة التغيير والوفاق في تشاد (Front pour l’Alternance et la Concorde au Tchad)([10]).

وقد زاد الوضع تعقيدًا عندما تجاهل الجيش التشادي ما نصّ عليه الدستور في حالة وفاة الرئيس, إذ بدلا من ذلك تولّى مجلس عسكري انتقالي برئاسة محمد إدريس ديبي – نجل الرئيس ديبي – مقاليد السلطة, وهي خطوة أثار استياء الكثير من التشاديين وأدى إلى تفاقم أنشطة المعارضة المسلحة التي تهدد استقرار تشاد وجهود مكافحة الجماعات الإرهابية في حوض بحيرة تشاد ومنطقة الساحل الأوسع في غرب أفريقيا. هذا إلى جانب مخاوف من أن تدهور الوضع في تشاد سيعني انتشار الأسلحة من ليبيا عبر تشاد إلى الدول المجاورة مع احتمال التعاون بين الجماعات الإرهابية والمتمردين المسلحين([11]).

ويعني ما سبق أيضا أن استقرار تشاد من الناحية السياسية والأمنية لن يؤثر عليها فحسب, بل سيؤثر على دولة مثل نيجيريا ذات الأغلبية السكانية في إفريقيا (حوالي 200 مليون شخص) وستفاقم من الأزمات الأمنية في النيجر ومالي وغيرها. ومن هنا تأتي أهمية جهود دولة قطر التي استضافت المفاوضات والمحادثات التي استغرقت خمسة أشهر وأنتجت اتفاقية الدوحة التي وقّعت عليها 42 جماعة متمردة والحكومة العسكرية التشادية.

 

ثالثا: ما الذي جاء في اتفاقية الدوحة؟

تشكل اتفاقية الدوحة خطوة أولية لتمهيد الطريق أمام المصالحة الوطنية في تشاد, حيث تتضمن تدابير لاستعادة الثقة والسلام والوئام الوطني والأمن من خلال الوقف الكامل والنهائي للأعمال العدائية، والتزام الحكومة الانتقالية بعدم القيام بأي عملية عسكرية أو شرطية عبر قوات الدفاع والأمن ضد حركات المعارضة السياسية المسلحة الموقعة على الاتفاق أينما كانت في البلدان المجاورة لتشاد. كما أن الحركات السياسية المسلحة ملزمة بعدم القيام بأي تسلل أو هجوم من أي نوع ضد الحكومة الانتقالية, إضافة إلى أن جميع الأطراف ملزمة بعدم القيام بأي عمل عدائي أو انتقامي أو مضايق على أساس الانتماء الإثني أو السياسي أو الديني([12]).

وعلى ما سبق, يمكن تصنيف محتوى اتفاقية الدوحة إلى صلاحيات خاصة بالحكومة وأخرى مشتركة بين الحكومة والمعارضة السياسية المسلحة. وأهمها كالتالي:

أ- إجراءات استعادة الثقة بين جميع الأطراف: سعت الاتفاقية إلى استعادة الثقة المفقودة بين جميع الأطراف, حيث بموجبها أعلن كل من المجلس العسكري الانتقالي وحركات المعارضة المسلحة التي وقعتها عن وقف عام لإطلاق النار والتخلي عن خطاب الكراهية وأي عمل عدائي.

ب- تدابير عملية نزع السلاح وتعزيز الأمن الوطني والإقليمي: وافقت حركات المعارضة المسلحة الموقعة على اتفاقية الدوحة على تدابير تعزيز الأمن المتمثل في عملية نزع السلاح والتسريح وإعادة الإدماج الوطني, وهو إجراء يؤسس لاستعادة الوئام الوطني والشراكة المستقبلية بين جميع الأطراف القائمة على تقاسم السلطة بتسليم المعارضة المسلحة سلاحها ومقاتليها للحكومة عبر لجنة استشارية تتابع تنفيذ اتفاقية الدوحة وتتشكل من تسع أعضاء – ثلاثة ممثلين عن المجلس العسكري الانتقالي, وثلاثة ممثلين عن المعارضة، وثلاثة ممثلين عن المجتمع الدولي المشارك في الاتفاقية ومن بينهم رئيس اللجنة الاستشارية.

ويضاف إلى ما سبق أن عمليات تنفيذ اتفاقية الدوحة تتم على مراحل:

أ- المرحلة الأولى: تبدأ يوم توقيع الاتفاق، حيث تقدم حركات المعارضة المسلحة بياناً أو كشوفات بأعداد مقاتليها إلى اللجنة المسؤولة عن تنفيذ بنود الاتفاق.

ب- المرحلة الثانية: وهي متمثلة في الحوار الوطني الشامل (الذي انعقد يوم 20 أعسطس 2022 في قصر الخامس عشر من يناير الذي يطل على فندق ايدجير بلازا).

ج- وفي المرحلة التالية (مرحلة ما بعد الحوار الوطني الشامل) حيث توفر حركات المعارضة المسلحة للجنة معلومات عن مواقع انتشار مقاتليها بالتنسيق مع السلطات في الدول المجاورة لتشاد. وتبدأ كل حركة بإحصاء منفصل لأسلحتها وذخائرها ومركباتها ومعداتها العسكرية وتضعها تحت مراقبة اللجنة وتصرفها.

ومما يعطي اتفاقية الدوحة رمزية كبيرة أنها تطرقت إلى نقاط مهمة للغاية، مثل مشاركة وفود الموقّعين عليها في الحوار الوطني الشامل، والعفو عن مقاتلي هذه الجماعة المدانين أو المتهمين بالمشاركة في أعمال التمرد أو الاعتداء على الأمن القومي. وكذلك استعادة الأصول والممتلكات التي صادرتها الدولة بناء على إدانات قضائية، وإخلاء المباني المملوكة لأعضاء حركات المعارضة المسلحة أو المنفيين السياسيين. بالإضافة إلى أن الاتفاقية تتضمن توفير وثائق السفر ومستلزمات الضيافة لممثلي الحركات السياسية المسلحة الموقعة أثناء المشاركة في الحوار الوطني. وقد نُفِّذت النقطة الأخيرة حيث وصل وفد من وكالة الوثائق الوطنية التشادية إلى الدوحة وأصدرت جوازات السفر الرسمية لجميع أعضاء وفد المجموعات الموقعة.

جدير بالذكر أن جميع النقاط السابقة أدت إلى تعهد حركة المعارضة المسلحة بالنبذ ​​الدائم للكفاح المسلح، وعدم استخدام كافة أشكال العنف للتعبير عن مطالبها أو آرائها داخل تشاد وخارجها، والانضمام إلى مسار الحوار والعمل السياسي وفق النصوص التشادية الحالية، والتوقف عن تجنيد عناصر جديدة من المقاتلين ونشر الهوية الحقيقية للمقاتلين الموجودين وكمية الأسلحة. وعليه, قرّبت اتفاقية الدوحة المسافة بين الطرفين (السلطات وحركات المعارضة المسلحة), كما ضمّنت حقوق المعارضين الملاحقين أو المنفيين وأدخلت معظم القوى السياسية المعارضة في الحوار الوطني  والمسار السياسي المستقبلي.

 

رابعا: العوامل التي عززت تحقيق اتفاقية الدوحة

هناك عوامل كثيرة عززت التوصل إلى اتفاقية الدوحة وساهمت في تحقيقها. ويمكن إيجاز أبرز هذه العوامل فيما يلي:

أ- أن الرحيل المفاجئ للرئيس التشادي إدريس ديبي خلق نوعا من الفزع بين الدول المجاورة لتشاد وشركائها في الساحل وبين الدول الغربية. وكان الموقف السائد أن الأهم في الفترة هو استقرار تشاد من خلال الإبقاء على هياكلها العسكرية التي تمكنت إبان حكم الرئيس ديبي (الأب) من تكبيد الحركات الإرهابية خسائر فادحة. ويدخل في هذا أيضا حقيقة أن الجنرال محمد إدريس ديبي (الابن) – رئيس المجلس العسكري الانتقالي – أظهر نسبة من الانفتاح على جماعات المعارضة المسلحة ودعاهم إلى الحوار والسلام, وهي خطوة أكسبته ثقة الاتحاد الأوروبي والاتحاد الأفريقي وخفّفت التوترات وشجّعت مشاركة جميع الأطراف في محادثات الدوحة.

ب- أن محمد إدريس ديبي تمكّن من خلق جوّ مؤاتٍ وإبداء استعداده للمصالحة وإشراك المعارضة في الحوار الوطني, حيث أصدر قانون عفو عام شمل الكثير من المعارضين المحكوم عليهم في جرائم مرتبطة بحرية الرأي والتعبير والإرهاب والمساس بوحدة الدولة, وهو ما خفّف من غضب المعارضة واستياء عدد من حركات السياسيين المسلحين.

ج- أن دولة قطر تمكنت من تقديم نفسها كوسيط محايد وموثوق به في تسوية النزاع في تشاد, وهو ما عززت ثقة جميع الأطراف المشاركة في قدرتها على تسهيل الحوار والمصالحة.

د- أنه رغم انتقاد أعضاء بعض حركات المعارضة المسلحة التي شاركت في محادثات الدوحة لسيرورة بعض الأمور؛ إلا أن السمة الطاغية على هذه المحادثات هي التوازن والحيادية. وهذه السمة واضحة أيضا في الوساطات القطرية الأخرى التي تبنت فيها الدوحة موقفًا محايدًا وعدم الانحياز لأي طرف في الصراع. ولذلك وقّعت 42 حركة سياسية مسلحة على الاتفاقية في النهاية وشارك جميع الأطراف أيضا في عملية الحوار والمصالحة.

هـ- أنه لا يمكن الاستهانة بدور الدعم الإفريقي والدولي للوساطة القطرية في تشاد, إضافة إلى تأييد جهود الدوحة من قبل فرنسا التي تُعَدّ الحليف الرئيسي لتشاد وسلطاتها على مرّ العقود الماضية. وهذا الدعم المتعدد عزز قوة الوساطة القطرية ومكنتْه من التأثير وتسهيل التوصل إلى حلول مقبولة للأطراف.

و- أن قطر تتمتع بخبرة ومهارة في التوسط في الصراعات وتسويتها، حيث أظهرت ذلك في النزاعات الإقليمية السابقة. وهذا واضح أيضا في مناسبات مختلفة من المحادثات في الدوحة, حيث الخبرة المتراكمة والاعتبار بثقافات إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى وديناميكياتها المحلية وفّرت للدوحة قاعدة قوية للوساطة في الأزمة التشادية.

 

خامسا: الحوار الوطني الشامل في تشاد كأحد مخرجات اتفاقية الدوحة

لقد حضر حفل التوقيع على اتفاقية الدوحة رئيس المجلس العسكري محمد إدريس ديبي إتنو الذي وعد بالالتزام بتنفيذ نتائج الاتفاق لإصلاح شقوق الماضي وتحقيق المصالحة. وبموجب الاتفاق أُجرِي حوار وطني للسلام([13]) في العاصمة التشادية مع منح ممثلي حركات المعارضة المسلحة ممراً آمناً وحماية مسلحة.

ومما يُلاحظ أنه شارك في الاتفاقية صالح كيبزابو – السياسي المخضرم والزعيم السابق للمعارضة – والمسؤول عن تنظيم منتدى المصالحة الوطنية، حيث طالب حركات المعارضة المسلحة غير الموقعة على الاتفاق بالتفكير في مسقبل شباب تشاد وتنميتها الاقتصادية والثقافية والاجتماعية, مؤكدا أمله في أن يقود الحوار إلى انتخابات نزيهة يشارك فيها الجميع. وهذا يتوافق مع تصريحات وزير الخارجية المؤقت شريف محمد زين الذي وصف الاتفاق بـ “تاريخي” وأن نجاحه يعتمد على التنفيذ المتفق عليه لبرنامج نزع سلاح المتمردين وحجم المساعدة المالية من المجتمع الدولي.

وقد رحّب كل من الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي والاتحاد الأوروبي باتفاقية الدوحة, حيث حثوا المجلس العسكري التشادي والمعارضة المسلحة على اغتنام الفرصة التي يتيحها الاتفاق لتحقيق الاستقرار, وذلك لأن الأزمة السياسية تلهي البلاد عن إرساء دعائم التنمية وأليات التقدم, وتعيق الجهود الإقليمية والدولية للقضاء على الإرهابيين في منطقة الساحل, وخاصة أن تشاد عنصر أساسي من القوة المشتركة مع جيرانها ودول مجموعة الساحل الخمس التي تقاتل الجماعات الإرهابية مثل بوكو حرام و تنظيم الدولة الإسلامية – ولاية غرب إفريقيا وغيرهما.

جدير بالذكر أنه في مارس الماضي (2023) عفا الرئيس الانتقالي محمد إدريس ديبي بموجب مرسوم رئاسي عن 380 متمردا من جبهة التغيير والوفاق في تشاد الذين حُكم عليهم بالسجن مدى الحياة بعد إدانتهم خصوصا بتهمة “النيل من حياة” الرئيس السابق إدريس ديبي إتنو أثناء القتال في أبريل 2021. وهذا يعضد تصريحان وزير الخارجية زين بأن السلطة التنفيذية المؤقتة قد استجابت لأكثر من 95 في المئة من المطالب التي قدمتها حركات المعارضة والسياسيون الأخرون في البلاد.

ويضاف إلى ما سبق أن الحوار الوطني الشامل الذي عُقد في تشاد بعد التوقيع على اتفاق الدوحة يعتبر حدثا هاما في تاريخ البلاد, حيث حضر المؤتمر 1400 مشارك وأربع مجموعات رئيسية، من بينها مجموعة حركات المعارضة المسلحة الموقعة على اتفاق الدوحة والتي تضم 36 حركة و16 سياسيا يمثلون الجانب العسكري والسياسي للمتمردين الموقعين على الاتفاق. وتشمل المجموعات الأخرى كتلة الحركة الوطنية للإنقاذ (Mouvement patriotique du Salut) والتي تضم أكثر من 200 حزب سياسي وتمثل الحزب الحاكم في تشاد، وكتلة الاتحاد من أجل إعادة بناء تشاد والتي تضم نحو 105 أحزاب سياسية و74 جمعية مدنية. وهناك مجموعات نقابية مهنية ومجموعات كاثوليكية وبروتستانتية وأعضاء الحكومة والمجلس الانتقالي وممثلي الجاليات التشادية في الشتات.

وقد اتفقت جميع الأطراف في الحوار الوطني الشامل على الوفاء بالتزاماتها وتنفيذ كافة بنود الاتفاق لتحقيق السلام والمصالحة الوطنية وضمان الاستقرار والتنمية الوطنية. كما أُنشِئَت لجنة استشارية دولية تعمل كإطار دائم للتشاور والرصد والتقييم لمدى تنفيذ الأطراف لالتزاماتها بموجب الاتفاقية. وتلتزم اللجنة بتنفيذ كافة بنود الاتفاق لتحقيق السلام والمصالحة الوطنية, وتتكون من دولة قطر والأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي ولجنة حوض بحيرة تشاد والجماعة الاقتصادية لدول وسط أفريقيا والاتحاد الأوروبي والمنظمة الدولية للفرنكوفونية ومنظمة التعاون الإسلامي وفرنسا والولايات المتحدة وألمانيا وإيطاليا وتوغو والدول المجاورة لتشاد (الكاميرون وأفريقيا الوسطى وليبيا والنيجر ونيجيريا والسودان).

وفي حين وافقت كافة الأطراف على أن للجنة الدولية لمتابعة تنفيذ اتفاق الدوحة الحقَّ في الاستماع بشكل مباشر إلى آراء كافة الأطراف وتقييم التقدم المحرز وتقديم التوصيات؛ فإن أعضاء اللجنة الدولية يتمتعون بالامتيازات والحصانات الضرورية للقيام بواجباتهم بشكل مستقل. كما أن الخلافات أو النزاعات التي تنشأ بين الأطراف بشأن تفسير الاتفاقية أو تطبيقها تُحَلّ من خلال الحوار والتفاوض والوساطة. وفي حالة عدم التوصل إلى اتفاق يحقّ لأي من الطرفين الشروع في التحكيم أمام لجنة من ثلاثة محكمين تعيّنهم اللجنة الدولية للإشراف على تنفيذ اتفاق الدوحة.

 

سادسا: أثر اتفاقية الدوحة على المرحلة الانتقالية التشادية وأمن الساحل

هناك تطورات إيجابية ملموسة في تشاد منذ التوقيع على اتفاقية الدوحة رغم التحديات المتعددة القائمة. وهذه التطورات متعلقة بالجوانب السياسية الخاصة بالعملية الانتقالية التشادية والتحسنات من ناحية الوضع الأمني الداخلي والإقليمي.

فمن الناحية السياسية, أصبح للمعارضة – بما في ذلك المعارضة المسلحة – القدرة على استعادة دورها السياسي, حيث يمكنها بموجب الاتفاقية الانخراط في العملية السياسية من جديد, وهو ما قد يعزز الديمقراطية وتحقيق الشمولية السياسية نظرا لتأكيد الاتفاقية على تمثيل جميع الأطراف السياسية في الحكومة والمؤسسات الوطنية. ويمكن للحكومة الانتقالية استغلال الاتفاقية لتعزيز الإصلاحات السياسية والعسكرية والاجتماعية المطلوبة، وخاصة أن هناك مطالب وطنية لضرورة تحسين الحوكمة وحقوق الإنسان في البلاد.

ويُلاحظ من خلال تتبع الوضع الأمني في تشاد أن للاتفاقية تأثيرا إيجابيا, حيث ساهم التوافق بين جميع الأطراف إلى وضع حدّ – ولو نسبيا – للنزاعات المسلحة, مما يقلص حدة العنف في أجزاء كبيرة من البلاد. بل وسهّل توقيع جميع الأطراف على الاتفاقية عملية إعادة الاندماج السياسي للمقاتلين والمسلحين في المجتمع، حيث سمحت للسياسيين والمسلحين الموقّعين عليها بالمشاركة في مؤتمر الحوار الوطني المستقل ويسّرت عملية تعيينهم كوزراء وبرلمانيين في الحكومة الانتقالية, بينما حركاتهم العسكرية تحوّلت إلى أحزاب سياسية, مما قد يمهد لها الطريق أمام المشاركة في الانتخابات القادمة.

 

خاتمة

توفر الجهود القطرية في إفريقيا نموذجا عملياتيا وبديلا لكيفية التعامل مع الأزمات المختلفة والاستثمار في المجالات الاستراتيجية. وهذه الجهود بالطبع غير خالية عن الانتقادات حيث هناك من الباحثين الأفارقة من يرى أن جهود قطر قد تؤثر في علاقات بعض الدول الأفريقية مع الدول الخيلج والعربية المنافسة للدوحة على المستويين الإفريقي والدولي, وأنها تلعب دورا بارزا في ساحة تشهد تنافسا وتدخلا متصاعدا بين القوى الدولية، وخاصة روسيا والصين وتركيا والهند وإيران والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.

وفيما يتعلق بالوساطات القطرية المختلفة في إفريقيا, فقد كانت إيجابية حيث تجني الدول والمجتمعات من هذه الجهود فوائد كثيرة خاصة بتحقيق السلام وإنهاء النزاعات المسلحة وتعزيز الحوار والتفاهم بين الأطراف المتنازعة وتوفير منصة للحوار السياسي والمصالحة وتعزيز الاستقرار والأمن في المنطقة. وهذه النتائج الإيجابية تعزّز أيضا صورة قطر كدولة دبلوماسية رائدة في مجال تحقيق السلام وحقوق الإنسان.

وأخيرا, لن تكون اتفاقية الدوحة بين السلطات التشادية وجماعات المعارضة المسلحة الحل الشامل لجميع الأزمات التي تعانيها دولة تشاد, ولن تكون العصا السحري لمعالجة جميع التحديات السياسية. وبالتالي تستحق اتفاقية الدوحة وصف “الخطوة اللازمة” لتأسيس منصة للحوار الوطني الذي كان جميع التشاديين يرغبون فيه وفرصة للسلطات الانتقالية لإثبات نفسها أنها جديرة بالثقة ومستعدة لاتخاذ كافة التدابير المؤسسية والمرتبطة بإجراء الانتخابات العامة وتوفير الفرص العادلة للجميع لتجاوز عقود من القتال والصراعات بين التشاديين.

[1] – Kamrava, M. (2011). Mediation and Qatari foreign policy. The Middle East Journal, 65(4), 539-556.

[2] – Ahmad Yasser (2023). Qatar’s expanding footprint in Africa: What is Doha looking for?. Raseef22, retrieved from https://t.ly/KKQpi (visited on 24/9/2023)

[3] – المصدر السابق.

[4]Kenya says ready to reopen embassy in Somalia. Xinhua, retrieved from https://t.ly/9AcrC (visited on 24/9/2023)

[5]Chad President Idriss Deby killed on frontline, son to take over. Reuters, retrieved from https://t.ly/GoK6m (visited on 24/9/2023)

[6]Hotel Rwanda hero Paul Rusesabagina freed from prison. Aljazeera, https://t.ly/pR1gc (visited on 24/9/2023)

[7] – المصدر سابق: Ahmad Yasser (2023). Qatar’s expanding footprint in Africa: What is Doha looking for?.

[8] – Berna Namata (2023). Qatar’s interests push mediation role deeper into EA. The East African, retrieved from https://t.ly/qfp7o (visited on 25/9/2023)

[9] – Scheele, J. (2022). Chad after Idriss Déby. Current History, 121(835), 170-176.

[10]Chad: What are the risks after Idriss Déby’s death?. International Crisis Group, retrieved from https://t.ly/ahQXV (visited on 26/9/2023)

[11] – Teresa Nogueira Pinto (2021). The crisis in Chad deepens instability in sub-Saharan Africa. GIS Reports, retrieved from https://t.ly/WFSG0 (visited on 26/9/2023)

[12] – Doha Peace Agreement in Chad: Qatar’s new success in mediation, conflict resolution. The Peninsula, retrieved from https://t.ly/XmH4T (visited on 26/9/2023)

[13] – سعيد أبكر أحمد (2022). الحوار الوطني الشامل في تشاد: تجربة جديدة أم تكرار للفشل؟. الأفارقة للدراسات والاستشارات, عبر الرابط https://alafarika.org/ar/5265 (اطلع عليه في 27/9/2023)

أخبار الأفارقة وتقارير فعالياتها واستشاراتها.